تقديم: اختلف الدارسون لقصيدة النثرحول مفهومها وخصائصها وتاريخ نشأتها في الأدب العربي. فبينما ارجع البعض ظهورها الى مطلع القرن العشرين 20 مع جماعة مجلّة أبولو (جبران وزكي أبو شادي وابو القاسم الشابي) الذين تأثّروا بالمدرسة الرّومتطيقية الغربية وحملوا لواء تجديد الشعر العربي والنهوض به وإعادة البريق إليه؛ فقد ربط البعض الآخر ظهورها رسميّا وبشكل جليّ وواضح بتأسيس ما سُمّي ب"حركة قصيدة النثر" التي تأثّر روادها بأفكار " سوزان برنارد" في أطروحتها (قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا le poème en prose de beaudelere jusqu'à nos jours) وتزامن تأسيسها مع ظهور أديبات روادها من أمثال:
- توفيق الصايغ الذي أصدر ديوانه من القصائد النثرية (ثلاثون قصيدة) سنة 1954
- علي أحمد سعيد (أدونيس) الذي نشر مقاله الشهير " قصيدة النثر" في مجلّة " شعر " اللبنانية سنة 1960
- أُنسي الحاج الذي أصدر في نفس السنة ديوانه " لن" وهو بدوره قصائد نثرية..
- دون أن نُغفِل هنا ذكر محمد الماغوط الذي عرف بلونه المميّز في قصيدة النثر..
وبينما عرّفها البعض بكونها (شكلا فنّيّا يسعى الى التّحرر من قيود النّظام العروضي والبناء العمودي في نصّ هجين يتقاطع فيه السّرد والشّعر والحجاج والتّرسّل وغيرها من فنون الكتابة) فحدّدوا بذلك هويتها في البنية اللغوية ؛ عرّفها آخرون بكونها تجربة فكرية وجدانية تنقلها اللغة نقلا خاصّا وهو ما ذهب إليه الدكتور مصطفى الكيلاني في كتابه: " الأدب التونسي في هذه الأعوام" من أنّ قصيدة النثر هي: (مخاض اللغة يُعِيد كتابةَ مخاضِ الحياة) موضّحا أنّ هذا الضّرب من الكتابة لا يتعلّق بشكل القصيدة او بنية الخطاب إنّما هو رؤيا متكاملة فيها ينسجم تَمثُّلٌ مخصوص للغة مع تَمثُّلٍ مخصوص للحياة في حركتها المستمرّة وفي تبدّل أحوالها.. وهو بهذا المعنى يبدو متجاوزا لما سبق من محاولات النّقّاد والدّارسين في تحديد مقوّمات قصيدة النّثر..
ورغم هذا الاختلاف ورغم زئبقية تحديد ضوابط للكتابة في هذا اللّون فإن ما تبلور في الاذهان حول هوية قصيدة النثر هو حدّ أدنى من خصائص الكتابة يمكن إجماله في النقاط التالية:
- عدم اعتماد البيت الشعري واعتماد الجملة الشعرية
- الخلوّ من نُظُم الوزن والقافية
- اعتماد إيقاع داخلي يتوزّع وفق علامات لغوية تسخّر بُنى اللغة لإظهار الإحساس والفكرة.
- عدم وضوح التعبير والنزوع بالمعنى إلى التورية بحيث يتوجّب على المتلقّي التفكير والتأمّل في التعامل مع النّصّ.
- عدم الوقوف بالأساليب البلاغية عند تجميل العبارة او توضيحها والذهاب بها نحو تحرير الفكرة من قيود اللغة والتّحليق بها في آفاق التّعبير..
- الكتابة بحرّية بعيدا عن الأنماط الفكرية المرتبطة بقوانين وأحكام والتقيّد فقط بفكر الشّاعر ووجدانه..
هنا يحقّ لنا ان نطرح السؤال: هل أنّ نصوص أبي القاسم الشّابّي التي لم تصدر مع قصائده العموديّة في ديوان " أغاني الحياة " تخضع لهذه النقاط وتبعا لذلك هل كتب الشابي فعلا قصيدةَ النّثر كما اتُّفِق عليها؟
القصائد النثريّة للشّابّي:
نقترح بداية هذا المقطع من قصيدة:" بقايا الشّفق "(ابو القاسم الشابي ص 111 صفحات من كتاب الوجود)
(أيّها القلبُ المُنسحِقُ تحت سنابِكِ الأيّامِ
النّابِضُ بأنّاتِ الأسَى
النّاقِمُ على مَوجةِ الدّهرِ الغَضوبِ
المُتراكِضَةِ فِي لُجّةِ الحياةِ
إن كان في استِطاعتِكَ أن تقِفَ جبّارًا قويًّا
أمامَ تَيّارِ الزّمنِ
دُونَ أن يجرِفَكَ إلى الهاوِيةِ
وأن تُلقِي بِتلك المَوجةِ العاتِيةِ
في أحشاءِ الأبَدِ
فافعَلْ..
أمّا إن كنتَ عاجزًا
فلَيس بِمُجدِيكَ العويلُ...
أيّتها الحياةُ الهاجِعَةُ في كَفِّ الأسَى
حتّامَ تَنوحين؟
وقد صُمَّ مَسمَعُ الأيّامِ
وأضحت الحياةُ قاسيةً كالمَوتِ
صمّاءَ كآذانِ القُبورِ
أيّها الموتُ الأصمُّ الأخرَسُ..
أيّتها الشّعلةُ المُظلِمَةُ المُلتهِبَةُ في صدرِ الحياةِ
ألا تخمُدِين حتى تُرتِّلَ الحياةُ أنشودَةَ الخُلودِ العذبَةً
مُكلَّلَةً بِإكليلِ الأبَدِ الرّائعِ)
ورد في حاشية الرّسالة الثالثة من رسائل الشابي إلى صديقه "محمد الحليوي" بتاريخ غرة أوت سنة 1929 (صفحات من كتاب الوجود ص 25 قوله: ((سألتني عن مجلّة سعيد أبي بكر وهل أنّ الدّاعي إليها مادّيّ ام فنّيّ وأنا لا أدري على التّحقيق كيف أجيبُك وبماذا أجيب إذ كلّ مبلغ العلم عندي أنّه تولّى إدارتها الفنّية أعني إدارة التّحرير وأنّه تسلّم منّي قطعة من الشعر المنثور عنوانها " الشّاعر" تحت عنوان أكبرَ أودّ أن أكتب تحته مواضيع مختلفة إن ساعد الدّهر وأشفق الله وهذا العنوان هو - صفحات من كتاب الوجود - واعلم أنّني رأيته يصحّح ما طُبِع من المجلّة ومن بين ذلك قطعتي))
نتبين في هذه الحاشية أنّ الشاعر كان واعيا بما كتبه ومحدِّدا لهويته الأدبية بوضوح ؛ وأنّ في نيته إصدار ديوانه الثاني تحت العنوان الذي ذكره..
ترك الشابي خمسة عشر نصّا لم يلتزم فيها بنظام البيت الشعري ولا بالعروض الخليلي كُتِبت بين سنتي 1925 و1930 في فترة جموحه وراء خيار التجديد الذي نظّر له في محاضرة "الخيال الشعري عند العرب" وهي قصائد دافقة من مَعين وجدانه الحالم حينا والنّاقم حينا آخر في خضمّ ما شهدته فترة أواخر ثلاثينيات ألقرن العشرين 20 من تقلّبات وما تجشّمه مثقّفوها من تحدّيات.. فكانت مواكبة هذا السّياق التاريخي لا مفرّ منها بخوض غمار التجديد في الكتابة سواء عن طريق العبور بالقصيدة العمودية نحو الأبعاد الرومنطيقية (قصيدة تونس النادبة وما بعدها واعتماد تقنية تنويع القافية ثم قصيدة تونس الجميلة 1925).. أو عن طريق كسر طوق العمودي والخروج عنه بجرأة الاندفاع نحو مغامرة جديدة ..
ومن أبرز ملامح هذه القصائد غَناؤها الإيقاعي رغم عدم خضوعها للوزن والقافية وذلك بواسطة ضروب التّرجيع والتّناسب التّركيبي مثال ذلك: (ص 150 صفحات
ولنقدّسْ.. يا أيّها الغاب المنتحِب
ويا أيها الوادي الكئيب
ويا أيها الكهف الأخرس....
ويا أيها القلب المُلتحف بالغَصّات والدّموعِ
لنقدّسْ كلُّنا ذاك الألمَ
الذي يجعل من الشّاعر قيثارة غريبة
صادحة منطرحة في وادي الحياة)
ثمّ إنّ التّناسب على مستوى الصّورة الشعرية كان من مقوّمات الإيقاع الدّاخلي لعدد من هذه القصائد التي أُقيمت حول تيمة معيّنة تنفرط عنها مكوّنات النصّ لتعود إليها (مثل قصيدة الأحزان الثلاثة ص 119 التي قامت علي تيمة الكهف الذي جعله الشاعر صدى لنفسه الكئيبة في تنويعة من المشاهد الحياتية والوجودية عبّر من خلالها عن غربته ومأساته وهو الحامل لهموم بني الإنسان مع همّه الشخصيّ وجدانيّا ووجوديّا: أنا والكهف كئيبان...)
كما تفنّن الشّابّي في توظيف الأساليب البلاغية على غير ما وُضِعت له مُحقّقا إطلاق الفكرة في آفاق التّعبير سواء بواسطة التشبيه أو المجاز او المقابلة او غير ذلك مثل قوله في: (صفحات ص 117
رأيتكِ يا نفسي بحرا عميقًا كالحياة
غامضا كالموت .. هادئا كالابتسام
باسما كأحلام الطفولة
تلمع في أعماقه الأشعّة الفاتنة من وراء السّديم)
ملبسا الكائنات أصداء نفسه الحسّاسة في تقلب أحوالها مع حركة الوجود..
هذا وقد اتّسم الخطاب في هذه القصائد بنزعة صوفية عميقة حققها اعتماد الرّموز التاريخية والأسطورية في عدّة مواطن من جهة.. مثل ما ورد في: (صفحات ص 169:
يودّون من الشّاعر الذي أحنى رأسَه إكليلُ المنيّةِ
وأطبق جفنه ظلامُ المنون
أن يُرتّل لهم أغاني الحُبِّ في فجر الشّباب
مشبّبا بسرب من عذارى أفروديت
ساحرات الاجفان فاتنات المراشف..)
وحقّقها من جهة ثانية الاعتماد المكثف للرّمز الديني والعبارات القرآنية وخاصّة المعجم الصوفي من قبيل - الوجود - الخلود الحب - الجمال - النور - الخمرة... مثل قوله في: (صفحات ص 200:
باركيني يا ابنة النّور والحبّ
فلقد صلّيت لك في أعماق قلبي قبل أن تبدأ الأكوانُ
وعبدتُك بين الكواكب وأنا شعاع طائر في الأفق البعيد..
ولقد تغنّيتُ باسمك وأنا خمرة سكرى بين الينابيع الخالدة
وعبير يتطاير في سماء الله)
هذا الخطاب الصّوفي كان بمثابة السمة الجمالية الأساسية في هذه القصائد ذات الإشراقات التّأملية الحالمة بالقيم المطلقة (الحب .. الجمال.. الحرّية) وذات الأحاسيس الموغلة في الحزن بسبب ذاك التعارض الرّومنسي بين ذات الشاعر الحالمة وبين العالم الآثم المليء بالشّر والظلم والجرائم والحروب ..
فالمتأمل لقصائد الشابي النثرية يلاحظ تأكيدها على أنّ الإبداع الحقيقيّ أكبر من القوالب وأوسع من الأشكال.. وأنّ القصيدة الجيّدة هي التي تؤسّس كيانها وتعلن قانونها قياسا إلى ما تتوهّج به من ألق وقوّة تأثير وإقناع..
ولعل هذا المقطع من قصيدة: الشاعر (ص 162 صفحات من كتاب الوجود) لا يخلو من ذلك
(أشفقتُ عليك يا رفيقَ الحياةِ
لِأنّ القِمّةَ الجميلةَ يُؤدّي إليها مَسلكُكَ
وأنتَ ناقِمٌ
والهاوِيةُ المُريعةُ تَقِفُ عند سُبلِهِم
وهم يهزِجونَ
وسَمِعتُكَ في مساءِ الحُلْمِ
شادِيًا بِأنّاتِ قلبِكَ
مُترنِّمًا بِأوجاعِ البشرِ
والنّاسُ مِن حولِك هازِئُونَ
فلم أخشَ عليك مِن تلك الكتلةِ الملتهِبةِ
التي ضَرّمَتْها في قلبِك الأيّامُ
لِأنّ اللّهِيبَ لا يلتهِمُ إلّا الأنصابَ والهَشِيمَ)
ومنه ومن بقيّة النّصوص تتضح ملامح قصيدة النثر المنتسبة إلى أبي القاسم الشابي..
وهنا لا يسعنا إلّا أن نتوجّه بالامتنان للأديب سوف عبيد الذي لم يقف عند النّبش عن هذه الوثيقة وغيرها من مخلّفات الشّابّى شأن سابقيه وبادر بنفض الغبار عنها وإخراجها إلى النّور مسخّرا لذلك سنوات من الجهد والوقت لكي يحقّق رغبة الشّاعر الذي لم يسعفه العمر ولم يشفق عليه الدهر ولكي يصدر كتابه في مئويته:
"صفحات من كتاب الوجود" ابو القاسم الشابي..
فجمعه وحقّقه ونشرته مؤسسة بيت الحكمة في 2009 .. اشتمل على قصائد الشاعر التونسي ابي القاسم الشابي النثرية ((بقايا الشّفق - أيّتها النّفس - الأحزان الثلاثة - أمام كهف الوادي - الدّمعة الهاوية - اللّيلِ - كفّ يا قلبي - الخريف - أغنية الألم - النّفس التّائهة - الشّاعر - صفحات دامية من حياة شاعر - أيّها القلب - الذكريات الباكية - الذكرى)) التي لم تنشر في ديوان اغاني الحياة مهّد الأديب سوف عبيد لإصدارها في كتاب أصدره سنة 2008 عنوانه: "حركات الشعر الجديد بتونس" في فصل خاص كتب فيه عن هذه القصائد وعن مصادرها وخصائصها الأدبية..
وهنا نؤكّد على انّ كتاب "الصفحات " لم يستند إلى عملية جمع وتحقيق عادية بقدر ما كان بحثا تاريخيا واستقصائيا ونقديا متكاملا لتجربة الشابي الشعرية برمتها..
فقد استهلّه الأديب سوف عبيد بفصل مدخل سلّط الضوء على هذه التجربة بالنظر إليها من زاوية تطورها ونضج تَمثّلها لمحاولة المغايرة والتجديد قبل الشروع في كتابة قصيدة النثر مما اقتضي إرجاعها إلى مراحل ثلاث هي:
- مرحلة البدايات التي أرخ لها بسنة 1923 استنادا إلى رواية شقيق الشٍاعر "محمد الأمين الشابي" الواردة في مقدمة ديوان أغاني الحياة والتي نظم الشابي خلالها.. كتب (ص 9: مقطوعات وقصائد ذات سمات تقليدية واضحة تبد ومنذ الوهلة الأولى في أغراضها ومعانيها كما تبد وفي المعجم اللغوي والصور.. وهي محافظة إلى حد كبير على الصياغة العروضية للبحور الخليلية) واستعرض في الاثناء أمثلة من أغراض شعرية متنوعة متفحصا لها ومحيلا اياها على المؤثرات الثقافية لعائلة الشابي وطبيعة تعليمه ومطالعاته ومقيّما لمميّزاتها الأدبية بعين الناقد الحصيف.. كتب (ص 13: الشابي إذن في قصائده الأولى شاعر تقليدي بأتم معنى الكلمة)
و توخى الناقد الطريقة الدقيقة ذاتها في الإحاطة بالمرحلتين:
- الثانية التي اعتبرها: مرحلة التجريب وأرخ لها ابتداء من 3 فيفري 1925 حيث نشر الشابي قصيدة *تونس النادبة* وهي قصيدة ممتدة على ستة وخمسين بيتا خرج الشابي فيها عن القافية الموحدة والأغراض المتعارفة وعن الأساليب البلاغية التقليدية في التعبير إلى (ص 14: التصوير والرمز والحكي لتعبر عن الوطنية في معاني الأمومة والمحبة والولاء والألم والأمل) وفي تقييم الناقد لقصائد هذه المرحلة نجده اعتبرها
وصلة الانتقال (ص 17: من مرحلة التقليد الصارم للنماذج القديمة إلى البحث عن الآفاق الأرحب لنحت اسلوبه الخاص) وكذلك بالنسبة إلى المرحلة الثالثة:
- مرحلة التحول حسب تسمية الناقد.. وقد أرخ لها ابتداء من 2 جوان 1925 تاريخ صدور قصيدة تونس الجميلة التي اعتبرها (ص 17: القصيدة المفصل نقرأ فيها علامات التطور الفكري والفني لدي الشابي بحيث يعلن القطيعة مع السّابق قائلا في مطلع القصيدة:
لست أبكي لعسف ليل طويل
أ ولرَبع غدا العفاء مراحه
*
إنّما عبرتي لخَطب ثقيل
قد عرانا ولم نجد مَن أزاحه)
و قد ربط الباحث هذه المرحلة بالتقاء الشابي بالنخبة المثقفة لمّا أصبح يتردد على المكتبة الخلدونية وكذلك بتبلور الحركة النضالية ضد الاستعمار الفرنسي والحركة النقابية وظهور فكر "الطّاهر الحدّاد" مما كان له عميق الأثر في فكر الشاعر ومواقفه بشكل دفعه إلى البحث عن طرق جديدة في التعبير وكذلك عن معاني شعرية تناسب أحلامه ورؤاه .. إلا أن تجربته الجديدة التي قوبلت بالرفض لعقود على ما يبد وتسببت في إهمال قصائد النثر التي لم تحظ بالإهتمام حتى من قبل عائلته والمقربين منه .. ولم ينفض عنها غبار الإهمال إلا عندما دفع شغف ناقدنا بابداعات الشابي رائدا للشعر التونسي المعاصر والتعمق في دراستها وتقصيها إلى البحث عنها في بعض المصادر والرسائل والمخطوطات تحصل عليها بعد لأي من المكتبة الوطنية ا وحتى بشكل شخصي من عائلة الشابي رغم إحالة الناقد " توفيق بكّار" عليها في أكثر من مناسبة ودعوته عائلة الشابي والجهات الرسمية إلى جمعها ونشرها.. وأحالة الشاعر " أب وزيان السعدي" في كتابه (في الأدب التونسي المعاصر: 1974) عليها.. إلّا أن الفضل الفعليّ في إخراج هذه القصائد إلى النّور كان للأديب سوف عبيد الذي احاطها بما يكفي من الوثائق والدعائم والتحليل بما يثبت انتماءها إلى الشابي والى الكتابة الشعريّة رغم انه كان قد دونها بشكل مسترسل شبيه بكتابة النثر.. إلا أن الباحث أعاد كتابتها بطريقة الأسطر الشعرية على غرار قصائد النّثر الراهنة بعد أن وضعها في سياقها من تاريخ الشعر المعاصر في تونس والبلاد العربية ووصلها بالظروف التاريخية التي حالت دون صدورها قبل 2009 ضمن فصل:
- عودة الدّرّ إلى معدنه: وفيه قراءة نقدية وتاريخية دقيقة ومعمّقة لهذه القصائد التي تعُدّ خمس عشرة قصيدة واحدة واحدة اوردها مرتبة حسب تاريخ كتابتها بعد التحقق منه والتثبت في صحته من أكثر من مصدر مردفا تحليله بتقييمات واستنتاجات نقدية قيمة ونافذة من صنف:(ص 39 إنّ تعبير الشابي بالقصيد النثري يندرج ضمن بحثه عن التجديد في مجالات التجريب تلك التي مارسها في قصائده السابقة دون أن يخرج فيها عن الضوابط العروضية الأساسية اما في هذه القصائد فكأنه يمرح في جنان الشعر بلا رقيب وبلا قيد ولا حدّ فراح على سجيّته مرفرفا ومبحرا فإذا القصيد ينثال بالمعاني لوحات وصورا..) ولا يفوتنا هنا أن نحيل على دقّته وه ويتدرج مع هذه القصائد متقصّيا تعرجاتها الأسلوبية والدّلالية مقارنا بينها باحثا في ما يربطها إلى بعضها من قرائن ووشائج زمنية وفنية ودلالية مقارنًا بينها باحثا ايضا في ما يربطها من وشائج مع قصائده الخاضعة إلى نظام البيت الشعري المتقيّد بالعروض .. مثال ذلك ما ورد في قراءته للقصيدة السادسة: (الليل ص 60: لقد سبق للشّابّي في قصائده النثرية السابقة ان ذكر الليل بالإشارة إلى الظلام في أوّل قصيدة وهي" بقايا الشفق " ثمّ صرّح به في صيغة الجمع عند آخرها... أمّا في القصيدة الثالثة " الأحزان الثلاثة" فإنّ الليل يتصدّرها بقوله - انا والليل كئيبان - فيجعل من الليل صنوًا له وشبيها.... أما في هذه القصيدة فاللّيل يبدأ مع لوحة الغروب التي تبسط الوانها على الكون فيغيب النّاس في الأحلام؛ عندئذ ينفرد الشّاعر بذاته في مُكاشفات وتأمّلات فإذا الإنسانيّة تبد ورازحة تحت الحروب) هذا كان دأبه مع مختلف قصائد " الصفحات " التي ختم دراسته لها بالتأكيد على تناسقها وإن تنوّعت موضّحا ما بينها من مظاهر الائتلاف في اختلافها وتنوّعها مقارنا مع العديد من قصائد ديوان" أغاني الحياة ؛" خاصة التي تزامن نشرها مع مرحلة كتابة الشّابّى لقصائده المنثورة (بين 1925 و1930) مفسّرا ذلك بالاشتراك في المرجعية التاريخية والذات الشعرية.. هذا وقد أثرِيَ الكتاب في آخره بفصل:
- الأفق (كما سمّاه الباحث): قدّم فيه بسطة تاريخية عن قصيدة النثر العربية والتّونسيّة وأبرز أعلامها ومراحل تطوّرها بدءً باتّشاحها بالرّومتطيقية مع مطلع القرن العشرين 20 مرورا بنهلها من مقولات الأدب الواقعي وتصويرها للحياة في تفاصيلها وهوامشها وصولا إلى ما افضت إليه المرحلة الرّاهنة من ظهور ما سمّاه قصيدة اللّمحة الخاطفة المكتنزة بالأبعاد وظهور المُطوّلات الملحميّة بما فيها من استرسال وتنوّع في مستويات التوظيف للغة وفق النّفس الشعري..
ليستنتج في الأخير (ص101: أ ليس الشعر رحلة في الزّمان والمكان ورحلة بين مختلف الأجناس الأدبية وحتّى الفنّية أيضا؟)
خاتمة:
هكذا كشف مشوار طويل من البحث والدّراسة عن ديوان شعري ثاني لأبي القاسم الشابي لم يكن له ذكر.. وبدلا من أن يثير هذا المنجَز مزيدا من الاهتمام بمدونتها البحث في كنوزها المغمورة فقد أثار حفيظة بعض المتنكّرين لأهمّية هذه المدوّنة وأعلامها بدعوى الموضوعيّة وعدم التعصّب في التعامل مع موروثنا دون انغلاق أو نكران لفضل التّثاقف والتأثّر بآداب الحضارات الأخرى على أدبنا..
و هنا أورد على سبيل المثال ما كتبه أحد الباحثين في مقال بعنوان:" قصيدة النثر التونسية - أسطرة الشابي ووهم الحداثة" (إنّ هذا التضخيم والأسطرة - على مشروعيته إلى حدّ ما - رغم المبالغة المفرطة لا يجعلنا نعتبر الشّابّي شاعر القديم والحديث والمستقبل... وأنّ القول بكون الشّابّى كتب قصيدة النثر منذ ثلاثينيات القرن الماضيي هو موقف شاذ... ومجرّد محاولة إيديولوجية سافرة الغرض منها الالتفاف على منجزات الحداثة والتّمسّك بهوية مصطنعة ومؤدلجة أتاح سهولة رواجها تربّع الشّابّي على مملكة الشعر التونسي في ساحة ثقافية فارغة من الأصوات الشعرية... كلّ ذلك حتى لا نُتّهم بالاقتداء بالغالب على رأي " ابن خلدون") معتبرا ان الإحاطة بقصائد الشّابّى المنثورة وإخراج ديوانه الثاني فيها تضخيم غير موضوعي لقيمته الأدبيّة على حساب شعراء آخرين من جيله ومن الأجيال اللّاحقة له؛ وفيها تجنّ على قصيدة النثر العربية وروادها الحقيقيين حسب رأيه..
فمتى يجرّد نقّادنا الكبار والباحثون الأكاديميون في المجال الأدبي أقلامهم لمواجهة هذا التيّار المستهدف لهوية الكتابة في ثقافتنا والمستنقص لقيمة أعلامنا وإنجازاتهم الجادّة؟؟
***
كوثر بلعابي
تونس في: 24 فيفري 2024