قراءات نقدية

كريم عبد الله: قراءة نقدية تحليلية في قصيدة "جبُلت عفوية" للشاعرة حميدة جاسم علي

استفهامات الروح: رحلة بين الخذلان والصمت

المقدمة: تعد قصيدة /جبُلت عفوية/ للشاعرة العراقية حميدة جاسم علي رحلة نفسية وعاطفية تعكس التوترات الداخلية، والتساؤلات الوجودية، والصراع مع الذات. تكشف القصيدة عن حالة من العفوية المتمردة التي تصطدم بالواقع المرير والتخطيط المستقبلي المبتور. من خلال البنية اللغوية المكثفة والمشحونة بالعواطف، تعكس الشاعرة في هذه القصيدة صراعًا داخليًا بين أمل قديم وألم مستمر، وبين محاولة للمضي قدمًا في عالم من التساؤلات التي لا إجابة لها.

البنية والمضمون:

القصيدة تتسم بالتكرار الذي يعزز فكرة الاستفهام والشكوى المستمرة. يتجسد التكرار في عبارة /جبُلت عفوية/ التي تظهر مرتين، وكأنها إشارة إلى حالة ثابتة، أو /جبلة/ لا يمكن التغيير فيها. العفوية هنا ليست مجرد تصرفات غير مخطط لها، بل هي ملامح للشخصية التي تم تشكيلها بشكل طبيعي دون تدبير مسبق، لتصبح جزءًا من الذات التي لا يمكن تخليصها منها.

الاستفهام والعلاقة مع الآخر:

القصيدة مشبعة بالاستفهامات التي تشير إلى حالة من العزلة والضياع العاطفي. الشاعرة تتساءل عن حالتها وحالة الآخر، وتضع علامة استفهام على علاقاتها مع الناس، بما في ذلك علاقة مع /أنت/ الذي يشير إلى شخص آخر غامض. هذا الآخر لا يجيب على الاستفهام الذي تطرحه الشاعرة، مما يبرز حالة من الفقدان والخذلان الذي تعيشه الذات. الفكرة الرئيسية التي تعبر عنها الشاعرة هي أن كل الذين كانوا في حياتها، وكل الذين منحهم /الأوراق ليكتبوا سيرتهم/، كانوا في الحقيقة /صنيعتي/. وهذا يوضح كيف يشعر الشخص بالخيبة عندما يكتشف أن كل من أعطاهم جزءًا من نفسه قد خذلوه أو لم يكونوا قادرين على الوفاء بتوقعاته.

الخذلان والعلاقة مع الذات:

الشاعرة تعبر عن ألمها الداخلي الذي يتسبب به الخذلان من الآخر، مشيرة إلى أن الآخر -الذي كانت تحلم بالتوجه نحوه- هو نفسه من /أودعها خلف ظهري/، أي أنه أصبح ماضيًا لا أهمية له. كما تصف الآخر بـ/النكرات/ التي لا تعني شيئًا بالنسبة لها، فبذلك تصبح العلاقات العاطفية والاجتماعية في نظرها مجرد /نكرات/ فاقدة للعمق والصدق. في هذه الجملة تكشف الشاعرة عن احتقارها لهذا الشخص الذي كانت تهتم لأمره، في حين أن هذا الشخص لا يكترث بها.

التأمل والرفض:

يبدو أن الشاعرة كانت تخطط في البداية لأن تكون /خطوة إليك/، وهذا يشير إلى محاولة الاقتراب من الآخر أو السعي إلى علاقة معينة، ولكن الحيرة والخذلان يطغيان على هذه المحاولة. إذ تصبح التساؤلات أكثر من إجابات، وتحلّ /علامة استفهام/ محل الفعل. هذه الرمزية تشير إلى تمزق في التواصل الإنساني، وتصورٌ لعلاقة لم تتحقق أو فشلت في الوصول إلى تلبية احتياجات الشاعرة العاطفية والنفسية.

اللغة والأسلوب:

القصيدة مكتوبة بلغة شعرية مكثفة، تنضح بالتوتر الداخلي. استخدمت الشاعرة بعض الصور البلاغية البسيطة التي تجسد حالة الشكوى والتساؤلات المستمرة، مثل /ارتماءاتي التي حنطتها لعمر كامل/، وهي تعبير قوي عن تلاشي الحلم والقرار الذي اتخذته منذ فترة طويلة، والذي لم يتحقق. /صراطي الذي يستقيم وأنا أعد المسافات/ يحمل في طياته إحساسًا بالضياع، إذ يضع الشاعرة في مواجهة مع واقع يعيق سيرها نحو هدفها المنشود.

الرمزية:

تتعدد الرموز في القصيدة، بدءًا من /الأوراق/ التي تشير إلى المحاولات السابقة لتوثيق أو فهم الذات والعلاقات، إلى /الاستفهامات/ التي تصبح بمثابة حجر عثرة في محاولة الوصول إلى معنى حقيقي في هذه العلاقات. كما أن /النكرات/ تمثل الأشخاص الذين يدخلون حياة الشاعرة ويغادرون دون ترك أثر حقيقي، مما يعزز فكرة الخذلان الداخلي.

الخاتمة:

هذه القصيدة انعكاس صادق لمشاعر الشاعرة وحالة داخلية غنية بالاستفهام والرفض. من خلال التركيز على العفوية والخذلان، تنتقل القصيدة من حالة أمل متأمل إلى حالة من الانفصال العاطفي والفكري. يختتم النص بدعوة إلى التفكر في الذات وفي الآخرين من خلال تلك الاستفهامات التي تكشف عن هشاشة العلاقات الإنسانية، وكيف أن الإجابات غائبة دائمًا في العالم الذي تحياه الشاعرة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.......................

جبُلت عفوية / بقلم: حميدة جاسم علي

ارتماءاتي التي حنطتها لعمر كامل

او صراطي الذي يستقيم وانا اعد

المسافات

جبُلت عفوية

رغم اني كنت اخطط لأكون خطوة إليك

هكذا اكو علامة استفهام

لن تجيب عليها

فكل الذين اعطيتهم الأوراق ليكتبوا

سيرتهم

كانوا صنيعتي

وما زلت افكر ان اضعك في استفهاماتي

حتى تجيب

على كل المرات التي تخذل فيها نفسك قبلي

انت من أودعها خلف ظهري

وصرت ككل النكرات

تصيح

ولا التفت .

في المثقف اليوم