قراءات نقدية

بهيج حسن مسعود: قراءة في قصيدة الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي

فالنتاين

(الى كلِّ الآمرين بالحبّ المشعِّ بياضا وفضيلة، والناهين عن البغضاء والرياء والخطيئة)

***

في عيدِ ميلادِ الحدائقِ

راودتني وردة ٌ عن عِطرها..

بيضاءَ كانتْ مثلَ أحلام ِ الطفولةِ..

قلتُ في نفسي: سأقطفها

*

مددتُ يدي..

فكرَّ عليَّ سِربٌ من فراشات ٍ..

سقطتُ مُضَرَّجا ً بالخوفِ

مَغشِيّا ً عليّا

*

هل كان يومَ الحَشْر ِ؟

أمْ أنّ الذي أبصرتهُ هذيٌ ثقيلُ الهذر ِ

من أثر ِ الحُمَيّا؟

*

أبصرتُ أزهارَ الحديقة ِ تشتكي حَمَقي !

وحين نكرْتُ

جاء الصوتُ يشهدُ للحديقة ِ من يَديّا

*

فخجلتُ مني

واسْتحْتْ عينايَ من وجهي !

وروحي غادرَتْ جسدي فصحتُ بها:

أغيثني

فقالتْ: لاتَ وقتَ ندامة ٍ

فاخلدْ بنار الإثم ِ ملعونا ً شقِيّا

*

فسقطتُ ثانية ً ببئر الخوفِ

مغشيّا ً عليّا

*

قُمْ صاحَ صوتٌ...

فاستفقتُ

وجدتُ " عشقائيلَ " قربي..

قال: تهديكَ المَلاكُ السومرية ُ:

عِشقَها وكتابَ عِفتِها..

فخذهُ بقوّة ٍ

واصْدعْ بنورِ صَباحِهِ الليلَ الدّجيّا

*

وتقولُ: يا يحيى السماويُّ

الذي خَبَرَ الخنادقَ.. والحدائقَ..

والعذاباتِ.. المسرّات ِ..

الذي مضغَ اللظى والصّابَ..

والعذبَ الشّهيّا

*

إني قَبَلتُكَ تائِبا ً

فاحذرْ جنوحَا ً عن صِراطِ الياسمين ِ..

كُن ِ الحديقة َ للفراشةِ..

والظليلة َ للحَمامَة ِ..

للضّرير ِ الدربَ والعكازَ..

للرّاعي الرّبابة َ..

للغزالِ الخائِفِ الظمآن ِ رِيّا..

*

وتقولُ:

يا يحيى السّماويُّ الفراتيّ التسابيح ِ

الشهيدُ الحيُّ.. والحيُّ الشهيدُ

وخاتمُ العشّاق ِ في عصر ٍ يضجُّ

خنا ً وغيّا:

*

اليومَ قد أكملتُ سِفْرَكَ..

فانطلِقْ برسالة ِ العشقِ المُقدَّس ِ

كنْ رسولي في الهوى حتى يُعادَ الإعتِبارُ

لعَقلِ " قيسِ بنِ الملوّحِ " و" الشريدِ السّومريِّ "

ويسْتعيدَ عَفافهُ: الوَجْدُ.. التهَيُّمُ..

يَسْتحيلُ العِشقُ خبزا ً للقلوبِ

فلا يعودُ الحزنُ سيماءَ المُحَيّا

*

وتقولُ:

يا يحيى السّماويُّ المُضرَّجُ بالتبتّل ِ

كنْ بعِزّة ِ سَيِّدِ الشّجَر ِ النخيل ِ:

يموتُ مُنتصِبا ً..

ومثلَ الوردِ: لو ذبحوهُ يبقى عطرُهُ

يذكو شذِيّا

*

العِشْقُ بابٌ للخلودِ

فإنَّ " قيسَ بنَ الملوّح ِ " لمْ يزلْ لليوم ِ حَيّا!

*

فاحفظْ وصِيَّتها المُقدَّسة َ الأخيرة َ:

لا تخنْ شرفَ النخيل ِ

ولا تمُتْ إلآ " بلالا ً " سومريّا!

***

القراءة:

1- السياق والبنية الفنية:

يُقدّم الشاعر يحيى السماوي في قصيدته "فالنتين" رؤيةً وجوديةً تتعانق فيها الذات الشاعرة مع رمزية الحب المقدس والصراع الأخلاقي، عبر لغة شعرية مكثفة تستدعي التراث الثقافي العراقي "السومري" والأساطير العربية "كقيس بن الملوّح".

تُبنى القصيدة على حوار درامي بين الشاعر وذاته، وبينه وبين كينونات رمزية "كالفراشات، الصوت الغيبي، الملاك السومري"، مما يُضفي طابعًا أسطوريًا على النص.

2- الثيمات الرئيسية:

أ- الصراع بين البراءة والإثم: تبدأ القصيدة باغراء الوردة البيضاء، رمز الطفولة والنقاء، لكن محاولة قطفها تُقابل بمقاومة سرب الفراشات، وكأنها حراس للحديقة المقدسة. هذا الصراع يعكس التناقض بين رغبة الإنسان في امتلاك الجمال وبين قدسيته التي ترفض الانتهاك، مما يولد الشعور بالذنب "سقطت مضرجًا بالخوف".

ب- التكفير والخلاص:

يتحول الخطاب من فضاء الحديقة "الطبيعة" إلى فضاء ديني "يوم الحشر، نار الإثم"، حيث تُلام الذات على "حماقتها"، وتنفصل الروح عن الجسد في إشارة إلى الانهيار الأخلاقي. لكن الصوت الغيبي "قمْ... اصْدعْ بنور صباحه الليل الدجيّا" يمنح فرصة للخلاص عبر تبني رسالة الحب المقدس.

ج- الهوية الثقافية:

يربط السماوي بين الحب والتاريخ العراقي عبر شخصيات مثل "الشريد السومري" و"بلالًا سومريًا"، مؤكدًا أن الحب ليس عاطفة فردية بل تراكمٌ حضاريًّ. الإشارة إلى "الفراتي" و"النخيل" يربط النص بجغرافيا العراق، مع تحويلها إلى رمز للصمود "يموت منتصبًا مثل النخيل".

د- الشهادة والخلود:

تُقدَّم فكرة الموت كفعل مقاومة "لا تَمُتْ إلا بلالًا سومريًا"، حيث يتحول الشاعر إلى شهيد حي يحمل رسالة الحب في زمن "الخنا والغي". هنا، يصبح العشق بابًا للخلود، كما في أسطورة قيس الذي لم يمت رغم موته الجسدي.

3- الأدوات الفنية:

أ- التناص:       

يحاور النص نصوصًا دينية "إشارات إلى يوم القيامة، الصراط"، وأدبية "قيس بن الملوّح، بلال الحبشي"، وأسطورية "الملاك السومري"، مما يخلق حوارًا بين الماضي والحاضر.

ب- الرمزية:

- الوردة البيضاء: البراءة المفقودة.

- الفراشات: حراس الفضيلة أو ضمير الجماعة.

- النخيل: الصمود والهوية.

- النار/الليل الدجيّ: الخطيئة والجهل.

ج- المفارقة:

استخدام لغة دينية لوصف العشق "سِفْرَكَ"، "رسولي في الهوى" يرفع الحب إلى مرتبة القداسة، في مقابل تشويه القيم في العصر الحديث "عصر يضج خنا وغيّا".

د- التكرار:

تكرار سقوط الشاعر "سقطت مغشيًّا عليّا" يعكس دورته بين الخطيئة والتكفير، بينما تكرار فعل "تقول" يُؤنسن صوت الملاك، جاعلًا الوصية حوارًا داخليًا.

4- السياق التاريخي والاجتماعي:

لا يمكن فصل النص عن سيرة السماوي العراقي المهاجر، الذي عاش الحرب والمنفى. ف"الخنادق" و"العذابات" تشير إلى عنف الواقع، بينما تمثل الحديقة فضاءً مثاليًا للمقاومة بالجمال. الدعوة إلى "أن يكون الرسول في الهوى" هي محاولة لاستعادة الإيمان بالإنسان وسط الدمار.

5- الخاتمة:

"فالنتين" ليست قصيدة حب تقليدية، بل بيانٌ فلسفيًّ يدعو إلى تحويل العشق إلى فعل ثوري ضد الانحطاط الأخلاقي والسياسي. السماوي يصهر الموروث الديني والأسطوري في بوتقة الحداثة، مقدّمًا الحب كمشروع خلاص فردي وجماعي، حيث الجمال (الوردة) والمقاومة (النخيل) وجهان لروح واحدة.

***

بهيج حسن مسعود

 

في المثقف اليوم