قراءات نقدية

عادل مردان: إنثيالات المنفيّ قراءة في ديوان (الكحول ياحصاني الهرم)

للشاعر معتز رشدي

يبدأ ديوان الكحول، بالإهداء الى بلقيس، بينما الولد الحالم، طبع تخطيطاً غرائبياً للأب، أبرز مافيه، الإختلاف المفرط بين اليدين المسبلتين . أمّا السّيكارة المعقوفة، مع تهويمة الوجه، بالعينين الحالمتين،فتأكيد للعنوان الصادم . ثريا الغلاف السماويّ، تحتها أكثر من مئة ثريا صغرى .

المستوى الشّائع يتمركز، على مفهوم الحنين، ويحتوي على بعض النصوص: (العربة – عودة الحلزون – حياتي – عفونة – الى بلقيس في يومها – سؤال – ميليشيات – باب كلّ شيء – أبي – مطر الوزيريّة – مدينة الثورة) . يضع الشّاعر تأريخ مولده، في عربة قديمة، مع اسمه، وظلّه المتثائب . المطر يبلّل يومه، والأشياء الملحقة . فالرسائل المبلّلة إحتضنتٔ الأرض، ولم تصلْ الى اللّه ….. عودة الحلزون هي الأمل، الى قوقعته الضائعة، على شاطئ دجلة .

ترميز للمكان المفقود، إذ تتمرّى في المشهد، القوارب المقلوبة، على السّاحل الأجرد، أيّة قوقعة بين القواقع الفارغة، مسكنه الأول.. حياته المنهارة، تمشي على سلك مكهرب، بين بغداد وتورنتو: (قبضة الزلزال أقوى من السقف – تزوجت الكحول – هل يدوم زواج كهذا؟) …… ليست النافورة إلاّ إغراء مكانيّ، سواء في المنفى، أو متنزه الزوراء (ماؤها مزدحم بالضحكات). الضحك الرقراق هنا، رمز تطهيريّ لمسوح العنوان.. لماذا الزهور ذابلة، في ذكرى المكان؟، وكانّ حبّة قمح تهمسْ: (ماقلته أول مرة – قبل سنين – في شارع فلسطين: أحبّكِ) . ثلاث محطات الى الحبيبة، فدائماً يبحث الشّعراء، عن الحبّ الجارح، لأنّه سعادتهم . يقول شمس الدين التبريزيّ: الحبّ هو البهجة التي تجرح.. في نص – سؤال –، تخطيط خارجيّ لبويب، النهر الجاف، فضاء تطلّ منه مدينة الجنوب.. في محطة الميليشيات، حيث العاصمة المبتلاة، (الكلاب – المدججون – البغال – الثيران والخيول المسنة – سيرك الرعب له الكلمة الطولى: فرقعة السّياط تملأ الأسماع – رائحة الروث ملء الحياة) ….. أيّة لُقية تركها المنفيّ، بين ساحة الميدان، وباب المعظّم . للذكرى رائحة الجن، الممزوج بالنارنج، في قنينة الماء،تلك من مآثر حصانه الهرم: (كلّ طابوقة وكلّ خرابة – حتى عرقي هناك – في ظهيرة آب اللّهاب – أتمناه هنا).. في الشاكريّة، يركض خلف رشك والد معتز، طنطل خاكي، وهو رمز الدكتاتوريّة المبادة، ثم يحكي الى طفله، من مروياته عن الهور: (سحب جدّك جثّة منفوخة في الهور، فإنفجرتْ في وجهه فمات – أنا اليوم ياابي جثّة طافية).. تحت مطر الوزيريّة، معتز رشدي، أبان تسعينيات القرن الماضي، بشبابه المنتحب، كان يتمنى البقاء، في قاعة حوار، وقد انعشه السّكر، تحت ظلال الرسم: (أمّا كان بإمكاننا البقاء في القاعة حتى تلاشي الزمن).. تواتر جنائزيّ للحصار، في مدينة الثورة . (وجهُ رشگ صحراء، وعيناه سوط، الأمّ ضوضاء في المطبخ – سوى شجرة لاتثمر إلاّ عاطلين – سقطتُ منها الى المنفى).. تمتاز بعض النصوص، بالمَنتجة والحذف والتقطيع . تلك مزايا الشعر الحديث، حيث ينزاح الكلام بلاغياً . كذلك المسكوت عنه، في ثنايا المختارات، تمنح القارئ حريّة البحث . ثلاثة نصوص موضوعها، صاحب التخطيط، الأول يعاتب أمّه، والثاني آدم، ثم آدم وأباطيله . الأخير ينماز بظاهرة التكرار: (ذكريات ابناء جيلي). هناك في بعض الثريات الصغرى، لعبٌ على الضمير بأنواعه: (غيومه – تخيلوا – عن البيت وأحواله – مُدي ضفيرتك – صرخته – العويل وأقاصيه – عنها – أنا- سلطتهم – الى بلقيس في يومها – يده – من رآه – أصدقائي – نحن – ابي).. عناصر الإكولوجيا مبثوثة على البياض . اذ تُمسرح الطّبيعة بثرائها، الحيوان النبات المناخ وتعالق الأشياء: (شجرة جرداء – في الربيع – خريف دائم – سماء سوداء – غراب الخيال – براميل تتدحرج – بلّلها المطر – طائر مقتول – القواقع الفارغة – الصّدى دراجة الصّوت الهوائيّة – وصولاً الى الجذور – حصاني الهرم – ترتفع بهم الأراجيح – وحشة قارب مقلوب – الندى في الفجر – يقول العنب – الحياة قدم حافية – أطيافهم في الّليل – يتشممني كلب سائب – في الصحراء بقايا جثّة – يملؤه الشّتاء بالثلج – لأجلكِ إستدارة الأرض – عصفورة الّله وأفعاه – نافورة في ليل تورنتو – قلبه عش وفي داخله شجرة – ويشيخ بين الفؤوس – عويل كائن مجهريّ – ياوعداً في قاع نهر – قال الغصن لرماديّ – تنظرين إليّ بعين فاختة – من جبينك العالي الوضاء – ياعطراً يعاتب الوردة ياحملاً يعاتب المرعى – كصيحة في بئر – تشرق من شقّ الحائط – في ضوء مصباح شحيح – نافذتها يرشقها الحصى). ومثل هذا كثير – أيّها القارئ الحائر، كهذه المناداة التي يحبذها الشّاعر.. هناك نص يحلّق بعيداً، (قهقهة الحفاة قرب أطلال أور)، هو من تكفّل، بسرد الشعريّ، بذلك التحلّيق . لأنّه أكثر حريّة وتجديداً . يتصف بالفتنة والبوهيميّة: (شعلتها المرشوقة بالوحل – وبينهما سمائي في الإطار تتشقّق – في قراطيس سيرهنها القارئ لدى بائع الباقلاء – في حبال المطر المتيبس – أجبلَ اللّه مصائرنا من لُعاب إبليس – كان شخير الواقع يوقظنا – مسكوكة من أضراص ملوكنا الذهبيّة – ملوكنا الشاخرين في مدافن بابل).. إخترت بعض المجزوآت، الأكثر جاذبية، من ديوان الكحول . اذ تمثل البؤر المشعة، في كلّ نص،فهو المكان الأنسب، الذي يتواجد فيه العالم، حسب موريس بلانشو: (1 فكروا بالغراب، غراب الخيال أين يحطّ بعدها؟ 2 نبتتٰ في حياتي شجرة جرداء حتى في الربيع لكأنّي خريف دائم 3 في كلّ حفرة طائر مقتول في ريشه رائحة السّماء 4 كأن لامعنى لبياض من دون سوادك أيّها الغراب 5 من السّماء هذا الحبل الملتف على الرقبة إلهي: اجذبه اليّك بكلّ ما أوتيت 6 كالسّائر أرتعش الكحول حصاني الهرم أسقط منه كلّ مساء أمام الناس 7 حين أنام يعود الغائبون أطفالاً بدشاديش مقلّمة ترتفع بهم الأراجيح عالياً عالياً وتعود فارغة 8 إلهي: لاأجد من أحد سواك هذه اللّيلة انت ترى عزلتي عزلة العش في غابة تحترق 9 تلك النوافد يَطلُّ منها الشّخص نفسه في أماكن شتى طفلاً هناك أشيب الشعر هنا 10 يُشعل الظلام النار في الانسان أهذا مايسمونه الفجر؟ 11 أيّها الجسد يامرآة مهشمة أيّتها الروح ياخُطىً تبعد داميةً في الظلام 12 من بين كلّ الغيوم أقربها الى نفسي تلك التي يرسمها في دفاتره المدرسيّة 13 مرض أصاب العتبة ساكنو البيت امّا ذاهبون الى عزاء او قادمون من مقبرة 14 كيف أضعتكِ في الزخام ياعباءة أمّي 15 شَعر عانتك دوختنا صرعتنا السّرة أرواحنا ملطخة بحنانك 16 الجدار حتى الجدار يصرخ من سياط الزمن صرخته الطويلة الخرساء 17 أعلمُ أنّي في العالم والعالم ليس بيتي إنّه مستنقع يتقيح في الصيف ويتجمد 18 مَشيتك تُزيل عن روحي الشّتاء ضحكتكِ مصباح حين يغيب يبكي ظلامي 19 انتِ نائمة وأنا أحلم في الصباح تروين لي حلمي 20 جسدي هو الباب ولاباب فيا يد اللّه يد السّوأل الكبير متى تطرقين؟ 21 إنّه النبيذ من يكتب الآن؟ فيابحر خذني إليّك خذني ياعسل الشمس 22 كلّما هممنا بخلع بناطيلنا أمام شهواتهن هكذا كنا نستيقظ محاطين بقوقأة الدجاج.

***

بقلم: عادل مردان

في المثقف اليوم