اخترنا لكم
أمين الزاوي: فخاخ التراث المنصوبة منذ 15 قرناً

العالم مأخوذ اليوم بتغيرات "لوغاريتمات" المستقبل المخيفة والسعيدة والمحيرة ونحن نعيش غارقين في ماضينا بحسرة
النخب الفكرية حين تغرق في التراث تقوم بتحريك العامة (التواصل الاجتماعي)
ملخص: الخصوصية الثقافية والفخر بالانتساب لهوية معينة والسعادة في الإيمان بعقيدة بعينها هي حق يجب حمايته والدفاع عنه لكن هذا لا يعني مطلقاً ترحيل الماضي بتراثه ليحل محل الحاضر أو يغم علينا رؤية المستقبل، أو يحجر على الآخر المختلف، فإن الخصوصية الثقافية هي كيف تحول ثقافتك وذكاءك الجمعي والفردي المبدعين داخل فضاء حضاري معين إلى إرث وكنز إنسانيين شاملين بعيداً من التعصب ومتحرراً من أمراض الـ"غيتوهات".
هل يعد الارتباط الهوسي والمهووس بالتراث وبالماضي كما هو عند العرب ومسلمي المشرق حالاً مرضية، هل هو رهاب من المستقبل؟ هل هو خوف من الآخر؟
فعلاً، هي حال غريبة تلك التي تتعامل بها النخب الفكرية والفلسفية والأدبية العربية والمغاربية الراهنة مع التراث الإسلامي، هذه الحال عاشها أجدادنا ومارسوها منذ نهاية القرن الـ18 ونعيشها نحن اليوم ويواصل عيشها الجيل الجديد، ودائماً بالحماسة نفسها، بل بتشنج، بل بتطرف يتزايد يوماً بعد آخر.
هل نحن مرضى بالماضي وهل لنا منقذ منه، على المدى القريب أو المتوسط؟
حين نريد أن نتحرر منه نتحدث عنه، وحين نريد أن نفتخر به نتحدث عنه، فهو في الحالين حاضر وضاغط وحاسم في تقرير مصيرنا وتحديد مستقبلنا.
حال الغرق في التراث هذه يعيشها تيار اليسار الفكري كما يعيشها التيار الإسلامي والليبرالي على حد سواء وربما قوة الحضور نفسها مع الاختلاف في شكل المداخل.
نحن على أعتاب الربع الثاني من القرن الـ21 وما زلنا نتخاصم حول أمور وقعت أو قيل إنها وقعت قبل 15 قرناً، في طرق إدارة الشأن العام والخاص وفي الاجتماع والوضوء واللباس والأكل والبنوك والزواج والطلاق والختان والحروب ونشوء اللغات ومفهوم العدو والصديق والآخر الذي ليس من ديننا ومتع الجنة وأهوال الجحيم.
سؤال النهضة الأول قام في مركزيته على مساءلة التراث وحوله، وعصرنا الذي هو عصر الذكاء الاصطناعي، أو هكذا يجب أن يكون افتراضاً، لا يزال يطرح السؤال نفسه وربما بطريقة أكثر تخلفاً وأكثر انغلاقاً وتطرفاً.
نخبنا، حتى التنويرية منها، لم تتحرر من فخ "الاتباع" حتى وهي تختلف، حتى وهي تنتقد، لأن في اختلافها وانتقادها تكراراً لهوس معرفي تاريخي- ديني يدور في حلقة مفرغة أو يكاد.
وما زالت النخب الراهنة من الجيل الجديد تقرأ وتناقش وبحماسة تصل إلى حد الخصومة القبلية أو الطائفية أو الإثنية ما كتبه الجابري أو هشام جعيط أو حسين مروة أو الطيب تيزيني أو محمد عمارة أو حسن حنفي في مشاريعهم الفكرية حول التراث الذي يعود لـ15 قرناً، مع احترامي الكبير لجهودهم، وكأن ما تساءل عنه هؤلاء هو أمر حدث البارحة أو قبلها بقليل، وكأن هذا الذي حدث يهم العالم الذي يحيط بنا في فهم واجتياز محنة الفقر والحروب والمجاعة والعلوم واختلال المناخ ومحاربة الأوبئة واكتشاف الفضاء.
النخب في العالم الغربي، على اختلاف توجهاتها، وضعت بينها وبين ماضيها وتراثها مسافة للتأمل، لم تتنكر له ولكنها تحررت من ضغوطه، ودخلت معترك السؤال الجديد المرتبط بالعمل والإنتاج والعلم والحرية والديمقراطية والتداول على السلطة والتعليم والعمران والمساواة والموت والخلود.
إن هذا الذي تغرق فيه نخبنا الفكرية والفلسفية والأدبية منذ قرن ونصف القرن في علاقتها المتوترة مع التراث ومع الماضي تجده ينتقل وبصورة مباشرة إلى العامة ويتحول من نقاش معرفي، أو هكذا يفترض، إلى صخب سياسوي شعبوي لا جدوى من ورائه سوى تكريس الماضي بجراحه وانشقاقه كبديل عن الحاضر وكغشاء سميك يحول دون تأمل وقراءة المستقبل وصناعته ضمن عالم يحيط بنا يعيش على إيقاع حضاري وعلمي وتكنولوجي متسارع.
والعالم مأخوذ اليوم بتغيرات "لوغاريتمات" المستقبل المخيفة والسعيدة والمحيرة ونحن نعيش غارقين في ماضينا بحسرة تارة وببكاء على الأطلال تارة أخرى وبزهو منفلت ثالثة.
متأكد أن نخب العالم الحديث والمعاصر، هذا الذي من حولنا، ستستغرب من وضعنا لو أنها أدركت أننا ما زلنا نناقش قضايا حدثت أو روي أنها حدثت منذ 15 قرناً، وما زلنا نناقشها بكثير من الحماسة والخصومات التي تنعكس وبصورة مباشرة على القرارات السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية والتربوية والعمرانية في بلداننا.
والنخب الفكرية حين تغرق في التراث، من باب التخمة الفكرية، تقوم بتحريك العامة على وسائل التواصل الاجتماعي فيختلط الحابل بالنابل وتسود الفوضى ويتزعزع الانضباط الذي هو من مسؤولية مؤسسات الدولة التي عليها أن تفرضه من خلال ترسانة من القوانين والمسطرات، فكلما شعرت الدولة ومؤسساتها بالخوف من العامة المنساقة وراء سراب الماضي، تبدأ بالتنازل والتراجع خطوة إلى الوراء في فرض الانضباط، وأمام هذا التراجع يبدأ النظام السياسي بممارسة سياسة قبض العصا من الوسط، ويبدأ بلعبة التوازن الداخلي المكذوب على حساب مستقبل التنمية المستدامة البشرية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.
أعتقد، وأقول هذا بكل وضوح، بأنه وما دامت نخبنا الفكرية والأدبية الراهنة لم تتمكن من التحرر، المبني على القراءة والتجاوز، من هذه المشاريع الفكرية التي كتبها هؤلاء (حسين مروة ومحمد عمارة وحسن حنفي وهشام جعيط والطيب تيزيني وعابد الجابري وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد...) وتنتقل وبشجاعة إلى التأسيس لأسئلة جديدة تتقاطع مع أسئلة نخب العالم الذي نعيش فيه، أسئلة حول العلوم والتكنولوجيا والمناخ والحرية والديمقراطية وثقافة المؤسسات والمنافسة والمواطنة والمساواة والطب والفضاء والعمران والفنون الجميلة... إذا لم تحقق نخبنا ذلك، فإننا سنعيد إنتاج فكر منقرض وسنعيد بناء عقل منقرض وسننتج مواطناً معوقاً يعيش خارج التاريخ أو يمشي عكس التاريخ، يمشي سعيداً نحو هاوية الانتحار، وهو ما يحدث يومياً أمام أعيننا في مجتمعات الشرق الأقصى وشمال أفريقيا.
تحتاج النخب المعاصرة إلى خوض معركة فكرية شجاعة ومفتوحة لمواجهة الواقع المتردي، وأولى الجبهات التي تخوضها هي عدم السقوط في إرضاء العامة "الغوغاء" التي تعيش في حال من الغيبوبة التي زرعتها القوى السلفية، وثاني جبهاتها تنبيه الدولة وتذكيرها بمهماتها الدستورية المتمثلة في حماية المواطن والدفاع عن المواطنة، من خلال فرض الانضباط في المجتمع، والانضباط لا يعني مطلقاً القمع.
وما نلاحظه من فوضى في السلوك الاجتماعي الفردي والجماعي في القرى والمدن، وضمن المؤسسات وفي الساحات العامة، والمعروضة بوضوح على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة (فرض طقوس معينة في الشواطئ، حادثة تخريب تمثال امرأة عين الفوارة بسطيف في الجزائر، ما يحدث في كثير من المدارس من ممارسات لا علاقة لها بالتربية والتعليم، ما يقدم من برامج في كثير من القنوات التلفزيونية من دجل وخبل باسم الدين كما يفهمونه، فرض نوع من الألبسة على المواطنين، إطلاق فتاوى متعارضة مع فكرة المواطنة...) كل هذا يؤكد على غياب ثقافة الانضباط التي هي من مسؤولية الدولة ومؤسساتها وأجهزتها.
وإن انزلاقاً، قد يبدو في البداية صغيراً أو تافهاً، فيمر من دون معاقبة ومن دون مساءلة، إلا أنه سيتحول لا محالة، مع مرور الأيام، إلى ما يشبه ظاهرة كرة الثلج، سيكبر ويكبر حتى يدمر العالم ويدمر الفرد ويهدد كيان الأمة ومؤسسات الدولة.
وهناك انزلاقات كثيرة داخل مجتمعاتنا، حيث اختلطت المهام والمهمات، فالمعلم أصبح فقيهاً والدجال أصبح طبيباً والعالم أضحى خاضعاً لجاهل من خريجي التسرب المدرسي وسائق التاكسي أضحى مفتياً والأحمق أصبح منظراً استراتيجياً... وفي ظل هذه الخريطة الاجتماعية الملغومة والمخلوطة يتحول أي نقاش حول الماضي أو حول التراث إلى لغو وهذر، يغطي على أي خطاب جاد ومجتهد يحاول أن يدخل في أسئلة العالم المعاصر، بل يعاديه ويكفره.
إن الخصوصية الثقافية والفخر بالانتساب لهوية معينة والسعادة في الإيمان بعقيدة بعينها هي حق يجب حمايته والدفاع عنه لكن هذا لا يعني مطلقاً ترحيل الماضي بتراثه ليحل محل الحاضر أو يغم علينا رؤية المستقبل، أو يحجر على الآخر المختلف، فإن الخصوصية الثقافية هي كيف تحول ثقافتك وذكاءك الجمعي والفردي المبدعين داخل فضاء حضاري معين إلى إرث وكنز إنسانيين شاملين بعيداً من التعصب ومتحرراً من أمراض الـ"غيتوهات".
***
أمين الزاوي - كاتب ومفكر
عن صحيفة اندبندت عربي، يوم الخميس 7 أغسطس 2025 0:12