أقلام فكرية
ابراهيم طلبه سلكها: ضرورة الفلسفة لتعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء
مقدمة: يشكّل الوعي الذاتي ركيزة محورية في الممارسة الطبية المعاصرة، خاصة في ظل ما يشهده الحقل الطبي من تطورات متسارعة على المستويين المعرفي والتقني. وقد بات واضحًا أنّ الطبيب لا يكتفي بامتلاك المهارات التشخيصية والعلاجية فحسب، بل يحتاج كذلك إلى قدرة عميقة على فهم ذاته، وضبط انفعالاته، وتقييم أحكامه، بما يعزّز جودة قراراته الإكلينيكية ويضمن مستوى أعلى من الرعاية الصحية. ومن هنا تبرز ضرورة الفلسفة بوصفها إطارًا معرفيًّا وثقافيًّا قادرًا على صقل شخصية الطبيب وتنمية مهاراته الذهنية والأخلاقية، نظرًا لما تقدّمه من أدوات للتفكير النقدي والتحليل المنطقي، وما تثيره من أسئلة تتعلق بالقيم، والمسؤولية، وحدود المعرفة، وطبيعة الوجود الإنساني.
وتتأسس إشكالية هذا البحث على التساؤل الرئيس الآتي: كيف تسهم الفلسفة في تعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء، وما أثر ذلك في الممارسة الطبية من حيث جودة القرارات، والأداء المهني، والتكوين الأخلاقي؟ ويتفرع عن هذا التساؤل جملة من الأسئلة الفرعية، تتعلق بمفهوم الوعي الذاتي وأهميته للطبيب، ودور الفلسفة في تنمية التفكير النقدي وتحسين جودة المعرفة الطبية، والعلاقة بين الفلسفة والأخلاق المهنية، فضلًا عن أثر فلسفة الوعي في الحدّ من المخاطر الطبية وتعزيز التناغم الوجودي والانسجام النفسي للطبيب أثناء عمله. كما تمتد الإشكالية إلى مناقشة موقع الفلسفة والمنطق في التعليم الطبي، ومدى ضرورتها في إعداد جيل جديد من الأطباء القادرين على الربط بين العلم والقيم، وبين التقنية والمسؤولية الإنسانية.
يرتبط هذا البحث بمحاور خمسة تكمل بعضها بعضًا في رسم صورة شاملة لدور الفلسفة في تعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء. فالمحور الأول يركّز على فهم طبيعة الوعي الذاتي وأهميته للطبيب، باعتباره قاعدة صلبة لاتخاذ قرارات طبية رشيدة وتحقيق جودة الرعاية الصحية. ومن هذا الأساس، يتصل المحور الثاني بدور الفلسفة في تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي وبناء المعرفة الطبية، بما يعزز قدرة الطبيب على معالجة المواقف المعقدة والمستجدات المهنية بوعي وحكمة. وينبثق عن ذلك المحور الثالث الذي يعالج البعد الأخلاقي للطب، حيث تساعد الفلسفة على تحديد القيم والمعايير الأخلاقية، وتنظيم العلاقة بين المعرفة الطبية والتكنولوجيا، بما يضمن ممارسة مهنية مسؤولة. أما المحور الرابع فيسلّط الضوء على أثر فلسفة الوعي في تحقيق الانسجام النفسي والتوازن الكوني للطبيب، وتقليل المخاطر في الأداء الطبي، مما ينعكس إيجابًا على جودة الحياة المهنية والشخصية. وأخيرًا، يربط المحور الخامس بين التعليم الطبي والفلسفة، من خلال دمج التفكير الفلسفي والمنطق في المناهج الأكاديمية، بما يسهم في تكوين جيل جديد من الأطباء الواعيين بذاتهم، القادرين على المزج بين المعرفة العلمية والحس الإنساني الأخلاقي. هكذا تشكّل المحاور الخمسة شبكة مترابطة من الأفكار، تنبني عليها رؤية البحث الشاملة حول ضرورة الفلسفة لتعزيز الوعي الذاتي في المجال الطبي.
وانسجامًا مع طبيعة هذه المحاور، يعتمد البحث على المنهج التحليلي–الوصفي في دراسة المفاهيم والممارسات المرتبطة بالوعي الذاتي والفلسفة الطبية، وعلى المنهج الفلسفي–الأخلاقي في تحليل القيم والمعايير المهنية، إضافة إلى المنهج المقارن عند الحاجة، خاصة في مواضع المقارنة بين التصورات الفلسفية والواقع العملي للممارسة الطبية. ومن خلال هذه الأدوات المنهجية، يسعى البحث إلى الكشف عن الدور الجوهري الذي تؤديه الفلسفة في دعم البعد الإنساني للطب، وفي تكوين طبيب أكثر وعيًا بذاته، وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات رشيدة ومسؤولة.
المحور الأول: مفهوم الوعي الذاتي وأهميته للطبيب
1- تعريف الوعي الذاتي في السياق الفلسفي والنفسي.
يُعرَّف الوعي بالذات، في السياقين الفلسفي والنفسي، بأنه قدرة الفرد على جعل ذاته موضوعًا لاهتمامه من خلال نشاطٍ مقصود يهدف إلى التعرّف على المعلومات المتعلقة بالذات ومعالجتها وتخزينها. ويتميّز هذا الوعي عن الوعي العام في أن الإنسان لا يكتفي بإدراك المثيرات الخارجية ـ كاللون أو الطعم ـ بل يتأمل خبرة إدراكه لهذه المثيرات وكيفية معالجتها، كقوله: "أرى جسمًا أزرق" أو "أتناول طعامًا لذيذًا". ويمثل الوعي بالذات ظاهرة متعددة الأبعاد، تشمل مجالات مختلفة من كيان الفرد؛ إذ يستطيع الإنسان التفكير في ماضيه (السيرة الذاتية) أو استشراف مستقبله، كما ينتبه إلى انفعالاته وأفكاره وسماته وتفضيلاته وأهدافه ومواقفه وإدراكاته ونواياه. وتُميَّز الانفعالات والسمات الخاصة بالفرد عن الأبعاد العامة أو الظاهرة للذات، مثل المظهر الخارجي والسلوكيات (1).
كما يتضمن الوعي بالذات إحساسًا بالفاعلية ونظرية العقل (أي القدرة على استنتاج الحالات الذهنية لدى الآخرين)، والوصف الذاتي، والتقييم الذاتي، والتنظيم الذاتي، والوعي بالموت، والانفعالات المصاحبة للوعي بالذات، والحديث الداخلي، فضلاً عن شعور بالاستمرارية الشخصية عبر الزمن وإدراك الذات ككيان متميز عن البيئة. ويختلف مستوى الوعي بالذات بين الأفراد؛ إذ تشير مصطلحات مثل "فوق- معرفي"، و"انعكاسي"، و"تمثيلي فوق- معرفي تكراري"، و"الوعي الممدّد" إلى مستويات متفاوتة من إدراك الذات. ويمكن التمييز بين "الوعي الذاتي المفهومي"، الذي يمكّن الفرد من تمثيل ذاته وحالاته الذهنية تمثيلاً مفهوميًا، و"الوعي الذاتي فوق- التمثيلي"، الذي يشمل بناء نموذج ذهني عن الذات وعن الآخرين، وبالتالي الوصول إلى المعرفة السير- ذاتية. أما المستوى الأقصى للوعي فهو "الوعي بالوعي الذاتي"، أي إدراك المرء أنه واعٍ بذاته (2).
ويرتبط مفهوم الوعي بالذات بتجربة الاتصال الداخلي، التي تتكون من ثلاثة مكونات رئيسية: أولها الوعي بالذات، ثانيها القبول الذاتي، وثالثها توافق السلوكيات مع هذا الوعي (3). المكوّن الأول، الوعي بالذات، يُعرّف بمعرفة الفرد بحالاته الداخلية وتفضيلاته وموارده وحدسه. ويعتبر الكثيرون أن لديهم ذاتًا جوهرية خاصة لا يمكن معرفتها إلا لهم وحدهم، بينما ترى بعض النظريات النفسية، مثل نظرية تحديد الذات، أن الذات ليست ثابتة، وإنما ينبغي أن تكون ذات معنى للفرد نفسه. وبالتالي، التركيز يكون على الفهم المدرك لجوانب من الذات التي تشبه مفهوم الذات، مثل القيم المهمة، مع مساهمة اليقظة الذهنية في توضيح تصورنا للوعي بالذات، إذ تشمل ملاحظة الأحاسيس والأفكار والمشاعر في اللحظة الراهنة وإحضارها إلى دائرة الوعي، ما يؤدي إلى وضوح أكبر لتلك التجارب المتعلقة بالذات (4).
المكوّن الثاني، القبول الذاتي، يشير إلى الاستعداد الكامل لتلقي الذات كما هي، دون إنكار أو تجنب، ويوازي الموقف المتقبّل للتجارب في ممارسة اليقظة الذهنية. ويعني هذا الاعتراف بمشاعر الفرد وقيمه وجوانب ذاته الأخرى، دون الحكم عليها بأنها جيدة أو سيئة، مع التركيز على القبول الذاتي للذات كما هي، وليس بالضرورة على محبة الذات أو تقديرها (5).
أما المكوّن الثالث، توافق السلوكيات مع الذات، فيعني التصرف بما يتوافق مع الحالات الداخلية للفرد وتفضيلاته وموارده، مستفيدًا من الوعي والقبول بالذات المُدركة لتسهيل اتخاذ قرارات سلوكية أصيلة ومتوافقة مع الذات. ويعكس هذا المفهوم المفاهيم المتعلقة باتخاذ القرارات وفقًا لنظرية تحديد الذات، والسلوك الأصيل، ويعد تطوير هذا التوافق أمرًا حيويًا لتجربة الارتباط بالذات بشكل ملموس (6).
وقد تم تعريف الوعي بالذات في قاموس علم النفس التابع لجمعية علم النفس الأمريكية بأنه "انتباه موجه للذات أو معرفة بالذات"، مع التركيز على الذات كصفة شخصية تمثل القدرة على التأمل الذاتي، والوعي الذاتي كحالة ضرورية للتنظيم الذاتي، حيث يمكّن الشخص من تقييم ذاته والسعي إلى الاتساق في معتقداته وسلوكياته (7). ومن منظور علم النفس الاجتماعي، وصف ميد Mead الوعي الذاتي بأنه إدراك الشخص لنفسه ككائن، بينما اعتبر باس Buss وإيدلمان Edelmann أن الوعي بالذات له جانبان: خاص داخلي وعام يمكن ملاحظته خارجيًا، كما أكد ويكنز Wiekens أن الوعي بالذات والوعي الذاتي يُستخدمان بمعنى متقارب، مع التأكيد على أن الوعي حالة يمتلكها ويختبرها كل فرد، بينما يُنظر إلى الوعي بالذات على أنه صفة شخصية (8).
2- أهمية الوعي الذاتي في اتخاذ القرارات الطبية:
إن أهمية الوعي بالذات تتجاوز الإدراك الشخصي الداخلي لتشمل القدرة على اتخاذ القرارات العملية، لا سيما في المجال الطبي، حيث يمثل الوعي بالذات مكوّنًا أساسيًا للمهارات الاجتماعية والتواصلية. فالوعي بالذات يرتبط بالقدرة على الانخراط في نظرية العقل، أي استنتاج الحالات الذهنية للآخرين، مثل الأهداف والنوايا والمعتقدات والرغبات والأفكار والمشاعر، مما يمكّن الطبيب من التنبؤ بسلوك المرضى، وتقديم المساعدة لهم أو تجنبهم أو تعديل استراتيجيات التعامل وفقًا للظرف (9).
وقد وصف نوفاك في أواخر سبعينيات القرن الماضي الوعي الشخصي على أنه التأمل في مدى تأثير الأحاسيس، والحياة العاطفية، والأفكار، والمعتقدات، والمواقف، والقيم على تجربة الفرد الحياتية، بما في ذلك التفاعلات مع المرضى والعائلات والزملاء. وينقسم هذا الوعي إلى ثلاثة أبعاد رئيسية: الوعي بالذات، والوعي بالآخرين، والوعي بالبيئة المحيطة. فالأول يشمل إدراك المشاعر والمعتقدات والقيم الخاصة بالفرد، وهو أساس عملية بناء التساؤل الذاتي، بينما الثاني يركّز على فهم الأحاسيس والمعتقدات والقيم الخاصة بالآخرين، أي المرضى، بما يعزز العلاقة العلاجية ويضمن إدراك تجربة المريض ضمن سياقها الكامل (10).
ويُعدّ الوعي الذاتي لدى الأطباء أساسًا لتطوير القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة التي تحافظ على صحة المرضى، باعتبار أن الصحة والرعاية الصحية حق أساسي من حقوق الإنسان، وتشمل حقوق المرضى ومنها الرعاية، والدعم، والخدمات الضرورية خلال مسار العلاج (11). ولتحقيق هذا الهدف، يُنصح الأطباء باستخدام نموذج FIFE، وهو إطار يساعد على فهم تجربة المريض بشكل متكامل وتحسين التواصل معه، إذ يتألف من أربعة عناصر رئيسية:
1- F – Feelings (المشاعر): الانتباه إلى المشاعر التي يختبرها المريض مثل الخوف أو الأمل، وفهم تأثيرها على سلوكه واستجابته للعلاج.
2- I – Ideas (الأفكار): معرفة تصورات المريض الخاصة بالمرض أو الحالة، والمعاني التي ينسبها لها.
3- F – Function (الوظيفة): تقييم تأثير المرض على قدرة المريض على أداء الأنشطة اليومية ووظائفه الأساسية.
4- E – Expectations (التوقعات): فهم توقعات المريض وعائلته ومقدمي الرعاية والأطباء الآخرين، بما في ذلك توقعات الطبيب نفسه، وإدارتها بشكل واقعي.
وباستخدام هذا النموذج، يصبح الطبيب أكثر وعيًا وشمولية في التعامل مع المريض، ليس فقط من الناحية الطبية، بل أيضًا من الناحية النفسية والاجتماعية، مما يعزز العلاقة العلاجية وجودة الرعاية الصحية (12).
3- العلاقة بين الوعي الذاتي وجودة الرعاية الصحية:
يمثّل التأمل الذاتي لدى الأطباء فضولًا حقيقيًا نحو الذات، إذ يكون الفرد منشغلًا بالتعرّف على انفعالاته وقيمه وعمليات تفكيره ومواقفه، ما يؤدي غالبًا إلى نتائج إيجابية ترتبط بالصحة النفسية مثل معرفة الذات والتنظيم الذاتي. على النقيض من ذلك، يُشير اجترار الذات إلى الانتباه القلق الموجَّه نحو الذات، حيث يسيطر الخوف من الفشل والتساؤل المستمر عن قيمة الفرد على التفكير، ما يؤدي عادةً إلى اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، إلى جانب الذنب والخجل والغيرة والأرق، ويسهم في القلق الاجتماعي والاكتئاب، وهو شائع بين الأفراد غير الأصحاء نفسيًا (13).
ويُعدّ الارتباط بالذات أسلوبًا للتفاعل مع الذات يدعم الوظائف الإيجابية والرفاهية، إذ يُفترض أن تجربة الاتصال بالذات تعزز المعنى والهدف في الحياة وتساعد على تحقيق أهداف شخصية أكبر. كما يمكن أن ينعكس هذا الارتباط في زيادة الرضا عن الحياة وتعزيز الرفاهية الإوديمونية، بالإضافة إلى تحسين الاتصال الاجتماعي، إذ يصبح الفرد قادرًا على التعبير بوضوح عن قيمه وتفضيلاته ومساعدة الآخرين على القيام بالمثل. ومن هذا المنطلق، قد يسير الاتصال بالذات والآخرين جنبًا إلى جنب، بما يعزز جودة التفاعل الاجتماعي والمهني (14).
تشير الأدلة إلى أن عدم تطوير استراتيجيات الوعي الشخصي يؤثر سلبًا على الطبيب وعلى رعاية المريض، مع انعكاسات واضحة على الممارسة السريرية وإدارة الخدمات الصحية. فقد يؤدي ذلك إلى فقدان الحكم السريري، أو الشعور بفقدان الشخصية، أو الاحتراق النفسي، أو الإحباط، أو التجرد من الإنسانية، أو فقدان التقدير المهني، وحتى الاكتئاب. أما على مستوى الرعاية، فقد ينتج عن ذلك تحديد أهداف علاجية غير واقعية، أو الاستخدام غير المناسب للموارد، أو انهيار العلاقة بين الطبيب والمريض والأسرة، مما يفضي إلى رعاية ضعيفة وزيادة عدم الكفاءة (15).
ولتلافي هذه المخاطر، يجب التعرف على عوامل الخطر التي تؤثر في موقف الطبيب أثناء تقديم الرعاية، وتشمل:
1- عوامل متعلقة بالطبيب: العمر، المظهر، الشخصية، أو تشابه حالة المريض مع أحد أقاربه أو أصدقائه، التأمل في مشاعر المريض أو الأسرة، الخوف من الخطأ، مواجهة الموت والجوانب الروحية.
2- عوامل متعلقة بالمريض: مشاعر المريض أو الأسرة مثل الاكتئاب أو الحزن أو الغضب، خلفية المريض الاجتماعية والمهنية، أو عدم اليقين بشأن التشخيص أو المستقبل الطبي.
3- العوامل الخارجية: العوامل الاقتصادية، قيود الوقت، طول فترة الاستشفاء والعلاقة الوثيقة بين الطبيب والمريض، انفجار الإنتاج الطبي والأدبيات العلمية، وظروف العمل في خدمات الطوارئ (16).
تتأسس الصلة بين الوعي الذاتي لدى الأطباء وجودة الرعاية الصحية على مفهوم "التحميل الزائد" أو "التحفيز المفرط"، وهو مفهوم لا يُعد عامل خطر بذاته، لكنه كثيرًا ما يُطلق عمليات تؤثر سلبًا في رعاية المريض. ويُقصد بالتحميل الزائد الحالة التي تتجاوز فيها المطالب المفروضة على الطبيب – سواء كانت شخصية أم مهنية – حدود قدرته على الاستجابة، نتيجة تراكم الضغوط الزمنية، وكثرة المسؤوليات، ونقص الدعم، وتوقعات مبالغ فيها يفرضها على نفسه أو يفرضها عليه الآخرون. وغالبًا ما تفضي هذه الحالة إلى الاكتئاب أو الأعراض الاكتئابية، مع صعوبة التعرّف إلى مسبباتها بسبب تكرارها واعتيادية حضورها في بيئة العمل الطبي. وعند غياب هذا التعرف، تتعطل عملية الوعي الشخصي – أي التأمل في سبب تأثير تلك العوامل في سلوك الطبيب – لتبرز علامات تحذيرية داخل العلاقة بين الطبيب والمريض، من قبيل الشعور بالضيق تجاه المريض أو أسرته (17).
تشمل العلامات التحذيرية: رفض المريض أو العائلة والتوتر عند وجودهم، الفشل في التواصل مع المهنيين الآخرين، عدم التعامل الجاد مع تفاصيل الرعاية، والمطالبة بإجراءات تشخيصية أو علاجات مفرطة أو غير مجدية (الطب الدفاعي). أما الأعراض فتتمثل في الغضب تجاه المريض أو الأسرة، الأفكار أو الأحكام المتطفلة، مشاعر الذنب والفشل والشعور بالضحية، والازدراء أو الالتزام القسري بإنقاذ المريض، أو الاعتقاد بأن شكاوى المريض تصرفات تلاعبية لجذب الانتباه (18).
ولتجنب هذه الآثار السلبية، يطوّر الأطباء وطلاب الطب آليات للتنمية الشخصية والتكيف مع المواقف الصعبة في أربعة مجالات رئيسية: الوعي بالذات، الرعاية الذاتية، مشاركة المشاعر والمسؤوليات، وتطوير فلسفة شخصية للحياة (19). ومن منظور شامل، يشمل الوعي بالذات استكشاف الطبيب لنقاط ضعفه ومشاعره وقيوده، ليس كنظرة هزيمة، بل كنقطة انطلاق لتطوير قدراته. ويتطلب هذا التأمل الشخصي الانفصال النفسي، وغالبًا ما يثير مشاعر الخجل، التي قد تؤدي على المدى الطويل إلى العزلة، الإنكار، الإحباط، الرفض، والاكتئاب. ومن استراتيجيات تعزيز الوعي بالذات: قراءة كتب محفزة، الممارسات الدينية، التعليم خارج المجال الطبي، العلاج النفسي، التأمل واليوجا، وتحليل المشاعر والأفكار التلقائية للذات (20).
كما يُعد تطوير فلسفة شخصية للحياة أمرًا مهمًا للتطور الشخصي والمهني للطبيب. فمع تسارع نمو المعرفة الطبية، قد ينسى الطبيب بسهولة هدفه من المهنة. وعادةً ما يُجادل الأطباء بأن فترة الإقامة تتطلب أولوية للتدريب على حساب الحياة الشخصية مقابل الإنجازات المستقبلية، لكن بدون فلسفة شخصية متكاملة بين الأهداف المهنية والشخصية، تصبح المهنة عرضة للتحول إلى ملاذ أو إدمان أو مجرد آلية تفاعلية بين المعرفة والسلطة والاستثمار، مع ما يترتب على ذلك من فقدان الإنسانية في الرعاية. وتشير الأدلة إلى أن الأطباء الذين طوروا فلسفة شخصية، حتى وإن كانت القرارات صعبة وخارجة عن التوقعات التقليدية، تمكنوا من اختبار معنى الحياة وزادت ثقتهم في ممارسة مهنتهم (21).
المحور الثاني: الفلسفة كأداة لتعزيز التفكير النقدي والتحليلي عند الأطباء
1- دور الفلسفة في تنمية مهارات التفكير النقدي للطبيب.
تلعب الفلسفة، إلى جانب تنمية الوعي الذاتي لدى الأطباء، دورًا محوريًا في ترسيخ مهارات التفكير النقدي التي تُعد أساسية لمواجهة تحديات الممارسة الطبية الحديثة. فمع أن التطور المتسارع في التكنولوجيا الطبية قد جلب فوائد كبيرة لصحة الإنسان، فإن توظيف هذه التقنيات بفعالية في السياق السريري يتطلب قدرًا عاليًا من التفكير الفلسفي النقدي، الذي يمكّن الأطباء من تقييم المعطيات العلمية دون التسليم بها تسليمًا غير مدروس، وبذلك يوجّه الطب الحديث نحو مسار أكثر تطورًا وفاعلية. ولا تقتصر المهارات الفلسفية على مجاراة التكنولوجيا السائدة، بل تقوم على فحصها وتمحيصها بدقة، سعياً إلى تحسين جودة الممارسة الطبية، وهو توجّه يتصدر مناهج تعليم الطب في القرن الحادي والعشرين (22).
يُعرف التفكير الناقد بأنه مهارة معرفية يمكن تعليمها وتعلمها، ويُفترض أن المفكرين الناقدين يتخذون قرارات أفضل، ويكونون أكثر كفاءة في حل المشكلات ومهنيًا. وببساطة، يعرفه باير Beyer بأنه إصدار أحكام مستندة إلى العقل والمنطق، أي أسلوب منظم لتقييم صحة المعلومات أو الحجج أو البحوث (23).
ويُعد التفكير الناقد أساسًا للكفاءة المهنية، إذ يساهم غيابه في ظهور تحيزات معرفية تؤدي إلى الأخطاء التشخيصية والعلاجية. وقد طوّرت الأدبيات في تعليم المهن الصحية مفاهيم مشابهة مثل الحكم السريري، والتفكير التشخيصي، وحل المشكلات، والتفكير من النمط الثاني، والتي تبرز العمليات الذهنية اللازمة للتفكير في المشكلات واتخاذ القرارات. ويُعرَّف التفكير الناقد أيضًا على أنه القدرة على تطبيق مهارات معرفية عليا (التصوّر، والتحليل، والتقويم) والميل إلى التفكير المتعمّد، بما يؤدي إلى سلوك منطقي وملائم، وهو ما يجعله كفاءة مستقلة بذاتها (24).
تزداد أهمية التفكير الناقد مع تسارع التقدم في العلوم الطبية، حيث لم يعد اكتساب المعرفة وحده كافيًا لتمكين الأطباء من العمل بكفاءة في البيئات السريرية المعقدة. فالخبرة الطبية التقليدية، المبنية على "المعرفة مضافًا إليها الخبرة"، لم تعد كافية، بل يتطلب الوضع معالجات ديناميكية للتفكير، تسمح بالإبداع وتوليد حلول لمشكلات جديدة، مع الاحتفاظ بالفهم المتين للمبادئ العلمية الأساسية (25).
وتؤكد "منظمة الصحة العالمية" أن التفكير الناقد والإبداع من المهارات الحياتية الأساسية، وأن الأطباء بحاجة إليه لاتخاذ قرارات دقيقة في المواقف الحرجة، ولضمان الاستدلال الصحيح وحل مشكلات المرضى، وهو ما يجعل تدريس التفكير الناقد جزءًا أساسيًا في مناهج التعليم الطبي (26).وتشمل خصائص التفكير الناقد بحسب ويد Wade طرح الأسئلة، تعريف المشكلة، فحص الأدلة، تحليل الافتراضات والتحيزات، تجنب التفكير العاطفي، تجنب التبسيط المفرط، النظر في تفسيرات أخرى، والتسامح مع الغموض، إذ يُعد الغموض والشك جزءًا ضروريًا ومثمرًا من عملية التفكير الناقد (27).
ويوضح باير (1995) الجوانب الأساسية للتفكير الناقد كما يلي:
1- المواقف الذهنية: الشك، الانفتاح الذهني، النزاهة العقلية، احترام الأدلة والمنطق، والقدرة على تغيير المواقف استنادًا إلى الأدلة.
2- المعايير: تطبيق معايير محددة لتقييم مصداقية المعلومات.
3- الحجة: تحديد الحجج، تقييمها، وبناؤها استنادًا إلى الأدلة.
4- الاستدلال: القدرة على استنتاج النتائج من مقدمات متعددة وفحص العلاقات المنطقية.
5- وجهة النظر: النظر إلى الظواهر من زوايا مختلفة لفهم المعنى بعمق.
6- إجراءات تطبيق المعايير: استخدام إجراءات متعددة تشمل طرح الأسئلة، إصدار الأحكام، وتحديد الافتراضات (28).
تعتبر مراحل التفكير الناقد امتدادًا طبيعيًا لتطوير مهارات الوعي الذاتي والفلسفة العملية لدى الأطباء، إذ يتيح هذا التطور مواجهة التعقيدات السريرية بطريقة أكثر نضجًا ووعيًا. تتوافق المحطات التطورية لتطوير الكفاءة في التفكير الناقد مع ست مراحل:
المرحلة الأولى: المفكر غير التأملي
1- القدرات فوق المعرفية: يفتقر إلى القدرة على فحص أفعاله وعملياته المعرفية، ولا يدرك طرق التفكير المختلفة.
2- الاتجاهات: يظهر الجمود في المعتقدات، ولا يتقبل الغموض أو دمج المعرفة الجديدة.
3- المهارات: يعتمد على أساليب بدائية لجمع المعلومات، مثل الحفظ عن ظهر قلب.
المرحلة الثانية: المفكر الناقد المبتدئ
1- القدرات فوق المعرفية: يبدأ بالوعي بطرق التفكير المختلفة لكنه يحتاج إلى تحفيز خارجي للحفاظ على التأمل.
2- الاتجاهات: يتقبل التغذية الراجعة لكنه نادرًا ما يسعى إليها بنفسه.
3- المهارات: يستخدم أساليب تفكير متقطعة، وقد يكتفي بالتفسيرات الأكثر احتمالًا، مع إدراك المبادئ الأساسية دون تطبيق عملي (29).
المرحلة الثالثة: المفكر الناقد الممارس
1- القدرات فوق المعرفية: يطبق نظريات التفكير فوق المعرفي بوعي.
2- الاتجاهات: منفتح على التحديات ويقبل الأساليب الجديدة.
3- المهارات: قادر على التعبير عن عدة أساليب لحل المشكلات وتوجيه القرارات بناءً على المبادئ المعمول بها.
المرحلة الرابعة: المفكر الناقد المتقدم
1- القدرات فوق المعرفية: يمتلك أساليب متعددة للتفكير ويطبقها بوعي كامل مع التنظيم الذاتي.
2- الاتجاهات: يطلب التغذية الراجعة ويظهر فضولًا تجاه الأساليب البديلة.
3- المهارات: يكيف تفكيره بحسب السياق، ويتجنب التحيزات المعرفية، ويعتمد على المبادئ الأساسية في حل المشكلات.
المرحلة الخامسة: المفكر الناقد المتمكّن
1- القدرات فوق المعرفية: يراقب ويطور أساليبه بشكل مستمر، ويستخدم التفكير لتطوير الآخرين أيضًا.
2- الاتجاهات: يعترف بانحيازاته، ويحتضن حالة عدم اليقين لتعميق الفهم، ويبتكر حلولًا جديدة.
3- المهارات: يجمع بين التحليل والحدس، ويستنتج فرضيات تفسر الظواهر، وينتج معرفة جديدة باستدلال استقرائي (29).
مرحلة متراجعة: المفكر المتحدَّى
1- قد تتسبب القوى الخارجية أو المواقف العاطفية المرهقة في تراجع التفكير الناقد. يختلف المفكر المتحدَّى عن الناقد المبتدئ بأنه يقاوم المعرفة والتفكير النقدي عن وعي أو دون وعي، لكنه يعود إلى المستوى المعتاد عند زوال الضغوط.
2- القدرات فوق المعرفية: مقاومة وجهات نظر الآخرين وتجاهل المعرفة السابقة.
3- الاتجاهات: عدم التأمل في الأفكار والأساليب، مع تكبّر فكري.
4- المهارات: التمسك بأسلوب واحد في التفكير دون تعديل (30).
وفقًا لـ (باربرا ك. شيفر Barbara K. Scheffer وم. جاي روبنفيلد M. Gaie Rubenfeld)، يُعد التفكير الناقد جسرًا بين المعلومات والفعل، ويشكل أساس اتخاذ القرارات السريرية في التمريض. يشمل التفكير الناقد عادات عقلية ومهارات معرفية، حيث تم تحديد عشر مكونات وجدانية وسبع مهارات معرفية:
1- المكونات الوجدانية: الثقة، منظور السياق، الإبداع، المرونة، الفضول، النزاهة الفكرية، الحدس، الانفتاح الذهني، المثابرة، والتأمل.
2- المهارات المعرفية: التحليل، تطبيق المعايير، التمييز، البحث عن المعلومات، الاستدلال المنطقي، التنبؤ، وتحويل المعرفة (33).
تُستخدم هذه المكونات في توضيح استخدام التفكير الناقد في العملية التشخيصية وتحديد التشخيص التمريضي الدقيق، إذ يحتاج الممرضون إلى تطبيقها جميعًا لضمان اتخاذ قرارات مهنية دقيقة.
يدعم التفكير الناقد النشاط الإبداعي والفني للعقل، مما يمكّن الممرضين من ابتكار حلول فريدة لمشكلات صحية جديدة أو غير تقليدية. فالإبداع في حل المشكلات واتخاذ القرارات يُعد القدرة على تطوير وتنفيذ حلول جديدة تحقق نتائج صحية محسّنة. ويصبح ضرورياً عند مواجهة مواقف سريرية غير مألوفة، حيث يحتاج المبدع إلى تقييم المشكلة وفهم الحقائق والمبادئ الأساسية المطبقة عليها (34).
يسهم استخدام الممرضين للتفكير الناقد في:
1- توليد العديد من الأفكار بسرعة.
2- المرونة الطبيعية في تغيير وجهات النظر أو أساليب التفكير.
3- ابتكار حلول أصلية للمشكلات.
4- الاستقلالية والثقة بالنفس تحت الضغط.
5- إظهار التفرد والشخصية (35).
يخضع المفكر النقدي في الرعاية الصحية لعدة خطوات معرفية منظمة، تهدف إلى تحليل المعلومات وتقييمها بشكل دقيق، مما يسهم في اتخاذ قرارات مدروسة وتحسين جودة الرعاية الصحية:
1- جمع المعلومات من جميع الحواس والمصادر المتاحة.
2- طرح أسئلة ومشكلات واضحة ومحددة.
3- جمع المعلومات ذات الصلة وتقييمها.
4- استخدام الأفكار المجردة بطريقة مفهومة وفعّالة.
5- التوصل إلى استنتاجات وحلول مدروسة جيدًا.
6- اختبار النتائج وفق المعايير والمقاييس ذات الصلة.
7- استخدام استراتيجيات تفكير بديلة حسب طبيعة المهمة.
8- تقييم جميع الفرضيات والنتائج العملية.
9- التواصل الفعال مع الآخرين لإيجاد حلول للمشكلات المعقدة (36).
يساعد التفكير الناقد المتخصصين في الرعاية الصحية على:
1- تجنب الأخطاء الطبية.
2- تحديد خيارات بديلة أفضل للتشخيص والعلاج.
3- زيادة الإنتاجية واتخاذ قرارات سريرية محسّنة.
4- العمل بكفاءة في بيئات محدودة الموارد.
5- إدخال الابتكار من خلال الإبداع.
6- تطوير الثقة بالنفس وفهم المواد الدراسية بشكل أفضل.
7- التدرج في سلم القيادة وتحقيق نجاح مستدام في الحياة المهنية والتعلم المستمر (37).
2- أهمية الفلسفة فى بناء المعرفة الطبية:
أ- الفلسفة والطب:
حيثما وُجد البشر، سعى الإنسان دائمًا لاستكشاف العلاقة الجوهرية بينه وبين الطبيعة. قبل اكتمال التفكير العقلاني، حاول البشر تفسير الظواهر الطبيعية وتأثيرها عليهم من خلال الأساطير والأديان البدائية، فتحوّل الخوف من الولادة والموت إلى الخوف من الأشباح، وتحول الشك من الألم إلى السعي وراء السحر. في هذا الإطار، وُلد الطب كاستجابة أولية لمعاناة الإنسان ورغبته في تخفيف الألم. ومن أجل تفسير الظواهر المختلفة، أصبح الاستكشاف المستمر أساس الفلسفة، باعتبارها وحدة نظرية ومنهجية للعرض الكوني والمنهجي، وانعكاسًا للعلاقة بين التفكير والوجود، والعقل والمادة، والتي نشأت بطريقة ما في الطب.
كان "الأطباء"، في مراحل مبكرة من تاريخ البشرية، يمارسون دورهم ضمن إطار السحر والدين، حيث كان يُعتقد أنهم يمتلكون قوى سحرية لمعالجة الأمراض. ومع مرور الزمن وتطور الفلسفة، تحرر الطب تدريجيًا من أوهام السحر والآلهة. فقد تولّى الفلاسفة دور الأطباء، مثل فيثاغورس وإمبيدوكليس، اللذين جمعا بين الطب والفلسفة في آن واحد. في الوقت ذاته، كان يُعبَّر عن لغة الطب من خلال لغة الفلسفة، كما يظهر في قول لاو تزو: "كل الأشياء تترك وراءها الغموض وتتقدم لتحتضن النور". وقد اعتمد مفهوم التوازن بين اليين (Yin) واليانج (Yang) في الطب الصيني القديم، حيث يرمز اليين إلى الجانب السلبي والداخلي والبارد، بينما يرمز اليانج إلى الجانب الإيجابي والخارجي والحار. ويُعتبر التوازن بينهما أساسًا للصحة، كما ورد في "القانون الداخلي لهوانغدي" (38).
الطب والفلسفة متشابهان ومتداخلان. فقد أشار أرسطو إلى أوجه التشابه بين عمل الفيلسوف وعمل الطبيب، وذكر أبقراط أن "الطب لا يمكن أن يوجد بدون الحقيقة الطبية، والفلسفة لا يمكن أن توجد بدون الحقائق الطبية أيضًا". وشدّد تشوانج تزو Chuang Tzu على الانسجام بين الإنسان والطبيعة، والجسد والعقل، وهو المكوّن الأساسي للطب الصيني القديم، حيث يُنظر إلى الشكل والروح كوحدة عضوية متكاملة. وفي الفلسفة اليونانية، استُلهم أبقراط من فرضية طاليس القائلة بأن المبدأ الأصلي للطبيعة هو الماء ليقترح أن "سوائل الجسم" تشكّل أساس جسم الإنسان (39).
يوفر الطب أساسًا واقعيًا للفلسفة؛ فقد اقترح إمبيدوكليس مفهوم "العناصر الأربعة" استنادًا إلى الممارسة الطبية، وتأثر به أبقراط فابتكر فكرة "الأخلاط الأربعة" (الدم، البلغم، الصفراء الصفراء، والصفراء السوداء)، التي شكّلت أساس علم الأمراض لقرون طويلة (40).
يُعدّ الطب،في إطار العلوم الحديثة،مجالا متكاملا يجمع بين المعرفة النظرية والتطبيقية، فهو "علم عملي" يدمج المعرفة بالمهارات العملية، ويتضمن القدرة على تمييز حالة الكائن الحي وتحديد ما هو الصالح لصحته. وتبرز الأسئلة الفلسفية في سياق اللقاء السريري بين الطبيب والمريض، مما يجعل تحليل هذا اللقاء أساسًا لفهم الطب وفلسفته (41).
على الرغم من اختلاف التخصصات، نشأت علاقة عميقة بين الطب والفلسفة منذ اليونان القديمة. ويُعرف اليوم حقل "فلسفة الطب" كفرع مستقل ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، وبرز في القرن العشرين، حيث أصبح مجالًا يدرس الأبعاد الإنسانية الدقيقة في الممارسة السريرية، وما يرتبط بها من جوانب معرفية وأخلاقية ومنهجية (42).
ويمكن توجيه التأملات الفلسفية بمنهج ظاهراتي يبدأ من تحليل التفاعل السريري، للكشف عن أعمق المعاني والبُنى المكوِّنة لعلاقة الطبيب بالمريض، مع التركيز على تجربة المرض واستجابة الطبيب لطلب المساعدة. إذ يتعلّم الأطباء المستقبليون الجسد البشري قبل مواجهة المرضى، وهو ما يؤهلهم للتعامل مع اللقاءات السريرية وإدارة الرعاية، وهو الهدف النهائي للطب (43).
كما تهدف المعرفة الطبية أو التثقيف الصحي إلى تعزيز الوعي الصحي من خلال أنشطة تعليمية مخططة تساهم في تنمية المعرفة وصقل مهارات الحياة المفيدة للفرد والمجتمع، بما يشمل المشاركة، والإصلاح الطوعي، وتمكين المرضى، وصحة الإنسان. وتعتبر الفلسفة رؤية شمولية تُسهم في فهم الصحة وتوضيح المفاهيم، خصوصًا في المجال الطبي الحيوي (44).
ب- الأسس الفلسفية للمعرفة الطبية:
يمثّل السؤال المعرفي مسألة مركزية في العلوم الطبية الحيوية: "كيف يمكن تبرير الادعاءات العلاجية؟ وما الوسائل اللازمة لترسيخ الثقة بهذه الادعاءات؟" وينسحب هذا الاهتمام أيضًا على المعرفة التشخيصية: كيف يمكن للأخصائي التأكد من أن المريض يعاني من مرض معين دون غيره؟ تقليديًا، يُنظر إلى تبرير المعرفة الطبية من خلال نهجين أساسيين: العقلانية والتجريبية.يرى العقلانيون أن المعرفة مسألة عقلية ومنطقية بحتة، إذ تُعتبر الحقيقة فطرية في طبيعة الإنسان، بينما يرى التجريبيون أن المعرفة تُكتسب عبر الخبرة الحسية، فالعقل يولد كصفحة بيضاء تُكتب عليها المعرفة بالتجربة (45).
للنزاع بين العقلانيين والتجريبيين جذور طويلة في تاريخ الطب. فقد أثار النقاش بين النظرية الحديثة (العقلانية) والممارسة التقليدية (التجريبية) جدلاً واسعًا في القرن السابع عشر، كما يظهر في دعوة جورجيو باجليفي لاعتماد الطب التجريبي، قائلاً: "الركيزتان الرئيسيتان للطب هما العقل والملاحظة، لكن الملاحظة هي الخيط الذي يجب أن يشير إليه العقل. لكل مرض طبيعة خاصة، وليس خيالية، مع مبادئه ونموّه وحالته وتراجعه. ولا حاجة لأسلوب دقيق للجدل، بل تكفي الملاحظة الدقيقة والمتكررة لما يحدث للمرضى المختلفين" (46).
استغرق الأمر عدة قرون حتى أصبح الطب التجريبي هو المعيار السائد في الممارسة الطبية. ومع ذلك، تظل العقلانية مكونًا إبستيمولوجيًا مهمًا في النموذج البيوميديكالي، إذ "لا يمكن للعلاج العقلاني أن يدّعي صحته إلا إذا شملت النظرية جميع العناصر ذات الصلة بالمرض". وبناءً على ذلك، فإن الكثير من الإبستيمولوجيا الطبية الحديثة يقودها التجريب وتقنياته المصاحبة. ويعتمد اكتساب المعرفة الطبية وممارستها ضمن النموذج البيوميديكالي على التطورات التكنولوجية في العلوم الطبيعية، خاصة الفيزيائية، كما أن التجارب السريرية وإجراءات الاختبار الأخرى أصبحت أساسًا للطب القائم على البراهين (47).
ورغم التطور التجريبي، لم تحل المناقشات بين العقلانيين والتجريبيين كل الإشكالات المتعلقة بتبرير المعرفة البيوميديكالية. فقد أشار باجليفي منذ قرون إلى ضرورة الجمع بين النهجين: "أولئك الذين يعارضون العقل بالتجربة… يبدو أنهم جميعًا مجانين: فكيف يمكن للعقل أن يتحكم في جميع أجزاء العلم، الذي يُكتسب بالتجربة والاستخدام المستمر على مدى فترة طويلة؟ ومن ناحية أخرى، لماذا الاكتفاء بالتجربة وحدها وطرد العقل؟… الملكة العقل، الموضوعة فوق كل شيء، هي التي ينظر من خلالها الطبيب إلى مبادئ وأسباب الأمراض، ويتنبأ بتقدمها ونتائجها" (48).
يمكن التعبير عن التركيب بين العقلانية والتجريبية عبر الربط بين النشاط الحسي والخبراتي من جهة، والنشاط النظري من جهة أخرى، باستخدام عمليات معرفية تربط بينهما. فالمعطيات الحسية والملاحظات تُعدّ بداية المعرفة، إلا أنها لا تشكّل معرفة في حد ذاتها، بل أدلة يجب تفسيرها معرفيًا لتشكيل النظرية التي تفسر الظاهرة. ومن هذا المنطلق، تظل جميع الأدلة مشبعة بالنظرية بدرجات متفاوتة، من الدليل الشاذ إلى الدليل الموضوع لاختبار التنبؤ.
وعلى الرغم من أن النموذج الطبي- البيولوجي يوفر أدوات منهجية مهمة لاكتساب المعرفة الطبية وتطبيقها، يبقى الكثير من العمل المطلوب تجريبيًا وعقليًا وفلسفيًا لحل الإشكالات الإبستمولوجية. كما يؤكد ليبيراتي Liberati وفينيس Vineis، "لا يزال هناك الكثير لتعزيز فهم طبيعة البرهان والدليل واللايقين، ووضع أجندة بحثية أكثر توازنًا، وآليات أكثر تماسكًا لتحسين جودة الرعاية الصحية، وجهود ثقافية أعمق لتمكين المرضى والمستهلكين"، وهو ما يرتبط أيضًا بـ "منطق الطب" logic of medicine الذي ذكره إدْمُند مورفي (49).
ت- مصادر المعرفة الطبية وعلاقتها بالممارسة
يرتكز عمل الطبيب على تقديم أفضل رعاية ممكنة للمرضى، وهو ما يتطلب الجمع بين التقنيات الطبية المتقدمة، والقدرات الفكرية، والمعرفة النظرية المتينة، والمهارات السريرية العالية، إلى جانب حسن اتخاذ القرار والتفاني في الممارسة اليومية. وتسعى هذه الممارسة إلى إحداث تأثير فعلي ونافع في حياة المريض ومجتمعه، الأمر الذي يتطلب تخطيطًا واعيًا للأفعال الطبية وتنفيذها، من الفحص والتشخيص إلى العلاج والتدخل الجراحي. ويؤكد ماركس في أطروحته الشهيرة عن فويرباخ أن المهم ليس تفسير العالم بل تغييره، وأن التدخل البشري يؤثر في حركة المادة دون أن يضيف إليها أو ينقص منها.
تُكتسَب المعرفة الطبية أساسًا عبر الممارسة العملية ومواجهة المشكلات الواقعية، بينما تُصاغ الحلول النظرية اعتمادًا على الخبرة الاجتماعية والمعرفة المتراكمة، مع معالجة المعطيات الجديدة بطريقة عقلية منظمة. وهكذا، تصبح المعرفة الطبية نتاجًا اجتماعيًا مرتبطًا بمستوى التطور العلمي والمرحلة التاريخية التي تُنتَج فيها (50).
كما أن إنتاج المعرفة يتم عبر أفراد—كالطبيب والباحث الطبي—يعملون ضمن بيئة اجتماعية تشكّل خبراتهم وتتيح لهم التعاون وتبادل الأفكار والاستفادة من الأدوات والمعارف المتاحة. ومن خلال هذا التفاعل، تتوسع المعرفة وتتعمق استجابة للحاجات المستجدة، مستندة دائمًا إلى الإمكانات التي توفرها الممارسة العملية. وتُختبر المعرفة المستمدة من التجربة داخل التجربة نفسها، انسجامًا مع أطروحة ماركس الثانية عن فويرباخ، التي تؤكد أن الحقيقة لا تُبرهَن نظريًا بل عمليًا، وأن الفكر المعزول عن الممارسة يظل سؤالًا نظريًا فارغًا. ومن ثم، لا تُكتسَب المعرفة اللازمة لحل مشكلة طبية إلا عندما تتحول إلى قضية عملية واقعية؛ فالتشخيص يتم عبر الفحص والفحوص المخبرية، والدواء لا يُعتمد إلا بعد اختباره سريريًا فعليًا (51).
يعتمد الطبيب في اكتساب المعرفة على حواسه، مستقبلاً المعلومات التي تتحول لاحقًا إلى معرفة متكاملة. ويتفاعل مع المرضى والأشياء المرتبطة بعمله، لتصبح موضوعات لتدخله العملي ومعرفته. ومن خلال الملاحظة والتفاعل، يصدر الطبيب أحكامًا واستنتاجات تؤدي إلى اتخاذ قرارات علاجية أو إجراء فحوص إضافية للكشف عن عناصر غير واضحة للوهلة الأولى، مثل الفحوص السريرية أو المخبرية، ما يؤدي إلى استنتاجات جديدة. وتتميز هذه الملاحظات بكونها نشطة وليست مجرد مشاهدة سلبية، إذ تنشأ من أفعال الطبيب وتفاعله مع الموضوعات. ويتدرج الطبيب من معرفة سطحية إلى معرفة أعمق وفق مستوى التطور العلمي في بيئته العملية، كما أظهرت العلوم الطبية الحديثة العلاقة بين الأعراض الظاهرة والعمليات البيولوجية الخفية، ما أدى إلى تصنيف الأمراض وتطوير علاجات تستهدف السبب الكامن وليس المظاهر فقط. ويتطلب هذا التطور المعرفي تقدمًا موازياً في الممارسة العملية؛ فبدون المعرفة الجينية والأدوات التقنية لتطوير تقنيات التشخيص الجزيئي، لما كان بالإمكان اكتشاف العوامل المعدية في حالات الإنتان وتطبيق العلاج المناسب (52).
وتواجه المعرفة الطبية حدودًا محددة بالخبرة والأدوات المتاحة، فهي ناقصة ومؤقتة، إلا أن الجهد البشري المستمر يتجاوز هذه الحدود لتنشأ حدود جديدة، وهكذا تستمر عملية اكتساب المعرفة بلا نهاية، كما يشير إنجلز. ويعمل الطبيب مع واقع موضوعي موجود خارج وعيه، ويشترك مع زملائه في نفس الواقع—المريض وأعراضه ونتائج الفحوص—ليبنى على البيانات الموضوعية استنتاجاته. وبهذا تصبح معرفة الطبيب موضوعية لأنها ترتبط بالواقع المادي، لكنها في الوقت نفسه نسبية لأنها في حركة مستمرة، كما قال هيراقليطس: "كل شيء يتغير ويتدفق". ويؤكد الالتزام بالتشخيص الصحيح والعلاج المبني على بروتوكولات دقيقة قبول مبدأ السببية في الظواهر الطبية، ما يمكّن الطبيب من توقع تقدم المرض، والتعرف على عوامل الخطر، والتنبؤ بنتائج العلاج (53).
تنبع المعرفة الطبية من ظهور التناقضات أو الصراع بين المتضادات، مثل المرض والصحة، الطبيب والمريض، أو الحاجة إلى معرفة إضافية والجهل، والتي تتجلى في علاقة الطبيب بمريضه. يكتسب الطبيب المعرفة تدريجيًا من خلال جمع البيانات والملاحظات، وصولًا إلى نقطة حاسمة تؤدي إلى تغيّر نوعي في فهمه، أي الوصول إلى التشخيص الصحيح وإدارة علاجية أكثر فعالية. ويتكرر هذا النهج مع فهم مسببات الأمراض، حيث تتراكم المعرفة تدريجيًا حتى تؤدي إلى تغييرات نوعية في الفهم والعلاج، مثل الانتقال من معالجة الأعراض إلى معالجة السبب الأساسي للمرض. ومع حل هذه التناقضات، قد يتوقف لقب "الطبيب" مؤقتًا بالنسبة لمريض محدد، ليظهر لاحقًا مع مريض آخر أو مع نفس المريض إذا عاد للمرض، لكن مع خبرة أعلى وتطبيق أفضل للعلاج. ويستفيد الطبيب من كل تجربة سابقة لتحسين فعالية أفعاله، بما يعكس اتجاه وطبيعة تطور المعرفة، وفق القوانين الجدلية لحركة المادة عند إنجلز: وحدة وتصارع المتضادات، وتحول الكمي إلى نوعي، ونفي النفي (54).
ث- دور الفلسفة في تحسين ممارسة الأطباء
تشير تحليلات الحكم الخبير لدى الأطباء إلى أن الأداء الأمثل والنتائج الأفضل للمرضى يعتمدان على قدرة الطبيب على التعرف إلى «المناطق الملتبسة في الممارسة»، وعلى ضرورة «الإبطاء» للانتباه إلى الوضع القائم، وإعادة تأطير المشكلة المطروحة، واتخاذ الإجراء المناسب وفق ذلك. ففي حالة الجرّاحين، تظهر علامات الإبطاء في إيقاف الموسيقى الخلفية داخل غرفة العمليات، وإسكات الأحاديث الجانبية، والتوقف لالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الخطوات. كما يمكن أن يكون الإبطاء مخططًا له مسبقًا، بناءً على توقع الجرّاح لخصوصيات الإجراء الجراحي وتعقيداته وما يكتنفه من درجات عدم اليقين المتعلّقة بالمريض (55).
تأتي الفلسفة هنا لتُمكّن الطبيب من أداء مهامه بجدية، فهي بوصفها المنهج الأساسي تتيح التوقف عند لحظات التعقيد وعدم اليقين، وطرح أسئلة جوهرية حول ممارسات تبدو بديهية، بما يمكّن من رؤية الأمور والقيام بها بطرق جديدة. المفاهيم الأساسية التي تُستخدم في التعليم الطبي تعود جذورها إلى الفلسفة؛ فعلى سبيل المثال، فكرة أن ما نقوم به ينبغي أن يستند إلى بحث تجريبي منهجي يُحدد فيه «الأسباب» و«النتائج» يمكن ردّها إلى هيوم ولوك، أما التفكير في المتعلمين من حيث المعرفة والمهارات والاتجاهات فيرجع إلى أفلاطون وأرسطو. كذلك، نماذج التأمل، مثل نموذج دورة التعلّم التجريبي لكولب، تستند إلى فلسفة جون ديوي، الذي استلهم بدوره من فلسفة هيجل (56).
ويمكن للأطباء مواجهة الغموض في الممارسة العملية من خلال ثلاث ممارسات فلسفية رئيسية:
1- اعتماد عقلية المبتدئ والانتباه للحظة الراهنة: تهدف هذه الممارسة إلى الاستجابة للحاجة إلى "التأنّي" عند مواجهة التعقيد أو عدم اليقين، وهي سمة من سمات الخبرة. ويتجسّد ذلك في القول الشهير المنسوب غالبًا إلى سقراط: «كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا» (حتى لو كان الشخص ذو خبرة)، مما يتيح النظر إلى الممارسة من منظور مفتوح.
2- إعادة المشكلة إلى جوهرها وتحليل الافتراضات: تُعيد هذه الممارسة طرح الأسئلة الأساسية لتوضيح معنى المفاهيم المستخدمة، كما يوضح ديلوز وغوتاري: «العموميات لا تفسر شيئًا، لكنها يجب أن تُفسر نفسها». على سبيل المثال، إذا كان سبب التدخل الطبي هو أنه "جيد" أو "مبني على الأدلة"، فإن الفلسفة تدفع لطرح سؤال: ماذا يعني بـ"الجيد"، و"الأدلة"، أو "التعلم"؟ ويمكن صياغة السؤال بطريقة فلسفية لتوضيح دور الطبيب أو المعلّم: من «كيف يمكنني جعل متدربيّ يتعلمون؟» إلى «كيف أرى نفسي كمربٍ، وما هي تداعيات منظوري على معنى التعلم؟».
3- تعطيل أطر المرجعية واستكشاف وجهات نظر مختلفة: النظر إلى الممارسة من منظور مختلف، سواء بتخيل كيف تبدو المشكلة عبر عيون شخص آخر أو بالتحدث مع شخص لديه رؤية مختلفة، يكشف عن الافتراضات الضمنية. مثال ذلك ما وصفه أفلاطون في محاورة سقراط مع إيوثيبرو، حيث أجبر سقراط إيوثيبرو على شرح قناعته بشأن العدالة، مما عطّل الإطار المرجعي الروتيني له (57).
يوجد اليوم إجماع متزايد على الدور الذي ينبغي أن تلعبه الفلسفة في العلوم الطبية الحيوية، لا سيما في تدريب الباحثين والممارسين المستقبليين. وتستهدف حركة العلوم الإنسانية الطبية التأمل الفلسفي في الطب البيولوجي بمعناه الأوسع، بما يشمل التفكير النقدي المطبق على العلم، والأساليب العلمية، والتأملات الأخلاقية، لتزويد الممارسين بمجموعة أدوات تساعدهم على فهم مكانة الطب، ومهامه، وتأثيراته، ونتائجه العملية. وقد ازدادت أهمية فلسفة العلوم الطبية على مدى العقود الأربعة الماضية، مع تعزيز التفاعلات المباشرة بين الفلاسفة والأطباء. وتشدد هذه التفاعلات على أهمية أن يكون الأطباء على دراية بالفلسفة، وأن يكون الفلاسفة على اطلاع على العلوم الطبية الحيوية، بما يتيح تبادل المعرفة بطريقة تعود بالفائدة على كلا المجالين. ومن هذا المنطلق، قد يتساءل الطبيب: "كيف تجعلني الفلسفة طبيبًا أفضل؟"، بينما يخوض الفلاسفة ما يشبه "تدريبًا عمليًا فكريًا في الطب". ويُعَدّ التأمل النقدي في الجوانب المفاهيمية والنظرية للطب، وليس مجرد نقل مفاهيم فلسفية جاهزة، هو جوهر فلسفة الطب، كما أكد جالينوس: «أفضل طبيب هو أيضًا فيلسوف» (58).
1- «تعامل الفيلسوف مع السؤال يشبه علاج المرض»:
تبدأ الفلسفة من الرغبة في فهم قضية مهمة للفرد، وغالبًا مع شعور بعدم الرضا أو إحباط من طرق التفكير الحالية. ومن هذا المنطلق، تُعد الفلسفة امتدادًا للصفات الإنسانية الأساسية نفسها التي تقف وراء التقدم العلمي والتقني. ورغم هذا، تحتفظ الفلسفة بقربها من الأسئلة، محافظةً على حيويتها من خلال فضول يشبه فضول الأطفال ورغبة صادقة في الفهم. على سبيل المثال، عند معالجة سؤال مثل: «ما هو التعليم الجيد؟»، قد يستعين الفيلسوف بمناظير تربوية أو نفسية أو عصبية لدراسة استراتيجيات التدريس، لكنه سرعان ما يتوسع لدراسة مصطلحي "الجيد" و"التعليمي" من مناظير سياسية وتاريخية ولغوية ومنطقية وروحية. يمكن اعتبار الفلسفة شكلًا من البحث الذي لا يلتزم بعدسة واحدة أو مجال محدد، فهي تعمل كوسيط بين المناظير المختلفة، موجهة التفكير نحو الافتراضات الأساسية وموفرة أرضية مشتركة بدلًا من تأجيج الخلاف بين وجهات النظر المتعارضة (59).
2- أسطورة الكهف لأفلاطون:
توضح أسطورة الكهف كيف يمكن للتحرر من قيود الافتراضات أن يكون مفيدًا للغاية. ففي الأسطورة، يُقيَّد السجناء داخل كهف طوال حياتهم، وهم يشاهدون الأشكال الدنيوية ترقص على جدار الكهف، معتقدين أن هذه الظلال هي الواقع نفسه. يتعلم السجناء أن عالم الظلال مجرد وهم فقط عندما يتحررون، ويستديرون لاكتشاف النار ورؤية الأشياء الحقيقية التي كانت ظلالها أمامهم. بالنسبة للمربّين الطبيين والفلاسفة، تدفعنا هذه الأسطورة إلى التوقف، والاستدارة، ورؤية أهداف التعليم الطبي بطريقة جديدة تتجاوز المظاهر الأولية (60).
3- أن تكون فلسفيًا:
الهدف من أن يكون المرء فلسفيًا ليس التوصل إلى فلسفة محددة أو نظام أخلاقي معين، بل استخدام الفلسفة كمنهج لإيجاد المشكلات وتحليلها باستمرار، وتحويل العدسات التي نرى من خلالها العالم إلى موضوعات تحليلية. أن تكون فلسفيًا يعني طرح أسئلة لا تُجاب واستكشاف طرق محتملة للإجابة عليها، وفي اللحظة التي تصل فيها العملية إلى "إجابة"، يصبح المشروع من اختصاص مجال آخر. على سبيل المثال، يمكن النظر إلى حركة الطب المبني على الأدلة على أنها إجابة علمية لسؤال إبستمولوجي: ما نوع المعرفة التي يمكن الاعتماد عليها لتوجيه أفعالنا في رعاية المرضى؟ وقد كرّس العديد من المفكرين حياتهم لتصور الفلسفة كمسار تفكير مستمر «لا يتوقف» ضمن إطار نظري أو مفاهيمي (61).
4- الأساس الأخلاقي للطب والفلسفة:
تستند ممارسة الطب اليوم إلى مبادئ أخلاقية متجذرة في مفاهيم فلسفية، مثل: «عدم إلحاق الضرر» و«فعل الخير للمريض». وتشير النصوص الطبية الكلاسيكية إلى حدود لأهداف الطب، وأوقات لا يجوز فيها استخدام الخبرة الطبية، مثل القتل الرحيم، والإجهاض، والتعذيب، أو ممارسة السلطة عبر التدخل الطبي، باعتبارها تجاوزًا للسلوك المهني. تقليديًا، ترتبط الأخلاق الطبية بالخبرة ارتباطًا وثيقًا؛ إذ لا يمكن للأخلاق أن تكون فعّالة دون خبرة، كما أن الخبرة من دون أخلاق لن تخدم غالبًا مصلحة المريض (62).
5- التحديات الحديثة والمسؤوليات الأخلاقية:
توفر إمكانات الطب الحديث القدرة على إطالة حياة بعض المرضى في وحدات الرعاية المركّزة، مما يثير تساؤلات حول مدى وجوب هذه الإطالة وفق الروح الأخلاقية للطب وتقاليده العريقة. ومن الأمثلة على المسؤوليات الأخلاقية المتزايدة الناتجة عن القدرات التقنية المتصاعدة: زرع الأعضاء، الإخصاب خارج الرحم، العناية المركّزة، الإنعاش، والصيدلة النفسية. وفي المقابل، تشير تغيّرات تنظيمية مثل العمل الجماعي، الاختصاصيون الطبيون، نظام الورديات، التأمين الصحي، وأنظمة الرعاية الصحية إلى تغيرات في جوهر العلاقة التقليدية بين الطبيب والمريض. وقد برزت مفاهيم مثل «استقلالية المريض» و«الموافقة المستنيرة» نتيجة هذه التحولات، متأثرة بنزعات نحو نمط حياة أكثر تحررًا وفهمًا ذاتيًا أوسع لدى المواطن المتعلم (63).
6- أهمية الفلسفة للممارسة التمريضية:
يشكّل التمريض أحد أكثر مجالات الممارسة الصحية التصاقًا بالتفكير الفلسفي؛ فالسؤال عن ماهية التمريض، وماهية المعرفة التمريضية، وما الذي يجعل التمريض جيدًا أو رديئًا، يمثل امتدادًا طبيعيًا للأسئلة الفلسفية الجوهرية التي تبحث في طبيعة الفعل الإنساني ومعاييره. ولهذا، فإن الممرضين يتعاملون بشكل واعٍ أو غير واعٍ مع هذه الأسئلة الفلسفية عند اتخاذ القرارات الإكلينيكية اليومية بدرجات متفاوتة (64).
ويتّسق هذا مع ما سبق طرحه حول دور الفلسفة في الطب؛ إذ تُعين الفلسفة على كشف الافتراضات الضمنية، وتوسيع مجال الرؤية، وتوفير أدوات التفكير النقدي اللازمة لفهم الممارسة ضمن سياقاتها الأخلاقية والإنسانية.
أ- الفلسفة كمحتوى في التمريض
تؤدي الفلسفة—بوصفها محتوى معرفيًا—دورًا محوريًا لكل من الممرضات والممارسين والمربين والباحثين؛ إذ تتيح لهم فهم الهدف الجوهري من الرعاية التمريضية، وتوضيح طبيعتها داخل مؤسسات الرعاية الصحية. ويستعين بعض الكتّاب بالمفاهيم الفلسفية لتحديد «غاية» الرعاية التمريضية، مما يساعد الممرضات على إدراك دورهن الحقيقي ورفض الأدوار الاختزالية التي تحوّل التمريض إلى مهمة ميكانيكية تابعة للنموذج الطبي بدل أن تكون ممارسة إنسانية متكاملة الأبعاد.
ويمكن لهذا الفهم الفلسفي أن يمكّن الممرضات من تحدي النموذج الطبي التجزيئي وتأكيد أهمية الرعاية الشمولية، مما يعزز من قدرتهن على استخدام التفكير النقدي والانعكاسي في تقييم ممارساتهن السريرية، وبالتالي دعم تطور الممارسة التمريضية نحو مستويات أعلى من الاتساق المعرفي والأخلاقي (65).
ب- الفلسفة كمنهج في التمريض
أما حين تُستخدم الفلسفة كمنهج، فإنها تتحول إلى أداة تحليلية تسمح للممرضات بفحص المواقف السريرية نقديًا، خصوصًا تلك التي قد تهدد سلامة المريض أو تضع الممرضة أمام تحديات أخلاقية حساسة. ويشير الباحثون إلى أن الفلسفة تزوّد الممرضات بالأدوات الأخلاقية واللغوية اللازمة ليكنّ «وكلاءً أخلاقيين» قادرين على التعرف على المسؤوليات الأخلاقية والتأمل فيها والعمل وفقها.
وبفضل هذه الأدوات، تستطيع الممرضات كشف الافتراضات التي تحرك الممارسات اليومية، وتوجيه النقاشات المهنية نحو إعادة النظر في المبادئ الأخلاقية للتمريض. وقد لخّصت إحدى الممرضات هذا الدور بقولها: «معرفة فلسفتي الإنسانية تمنحني القوة في ممارستي، لأنني أستطيع الجدال بشكل أقوى من أجل الرعاية المرتكزة على المريض».وهكذا، تمنح الفلسفة الممرضات قدرة أقوى على التأثير في القرارات المتعلقة بميزانيات الرعاية، وسياسات الصحة، وإجراءات تنظيم المؤسسات الصحية (66).
ت- استكشاف الأسئلة الأساسية في التمريض
ولا يقتصر دور الفلسفة على الجوانب الأخلاقية والمنهجية فحسب؛ بل تتيح أيضًا للممرضات دراسة الأسئلة غير العلمية التي تُعد مركزية لهوية التمريض نفسه، مثل:
1- ما المبادئ التي تُوجّه ممارسة التمريض؟
2- ما حدود المعرفة التمريضية؟
3- هل تتيح ظروف العمل الحالية بناء علاقة ممرضة–مريض قائمة على القرب الإنساني؟
ومن خلال التأمل النقدي والمنطق الفلسفي، تستطيع الممرضات تحديد ملامح تخصص التمريض وتطويره، والحفاظ على هويته باعتباره ممارسة إنسانية تتجاوز الإطار التقني الصرف (67).
ث- الفلسفة كأسلوب حياة وممارسة
يشكّل توظيف الفلسفة كأسلوب حياة الامتداد الطبيعي لما سبق عرضه عن دورها كمحتوى وكمنهج في الممارسة التمريضية؛ فإذا كانت الفلسفة تقدّم للممرضات أدوات تحليلية وتصورات معرفية حول طبيعة التمريض ومبادئه، فإنها—بوصفها أسلوبًا للعيش—تنتقل من مستوى الفهم النظري إلى مستوى التشكيل العملي للشخصية المهنية. فالممرضات يمارسن يوميًا نسقًا من المعتقدات الفلسفية، حتى وإن لم يسمينه كذلك، من خلال تبني موقف مهني قوامه الامتناع عن الأحكام الشخصية، وتقديم الرعاية لكل محتاج، وجعل أولوية الرعاية القيمة المركزية التي ترتكز عليها الممارسة التمريضية.
وبهذا المعنى، تتجسد الفلسفة في الممارسة اليومية باعتبارها رؤية توجه القرارات لا تنظيرًا مجردًا، وهو ما ينسجم مع تصور بيير هادوت Pierre Hadot للفلسفة بوصفها «ممارسة» تتجاوز حدود النظرية وتعيد تشكيل نمط وجود الإنسان نفسه؛ إذ تصبح الحكمة ليست مجرد معرفة، بل تحولًا في طريقة الوجود (68).
ويمثّل هذا المنظور امتدادًا لما طوّره كلٌّ من بيلينكي وكلينتشي وجولدبرجر وتارول من أن الحقيقة، والواقع، وأصول المعرفة، هي عناصر تُعيد تشكيل رؤيتنا للعالم، وعلاقتنا بذواتنا وبالآخرين، وتؤثر في إحساسنا بالتحكّم، وتصوراتنا للتعلم والأخلاق. ومن ثمّ، فإن الفلسفة—بما تتضمنه من أنطولوجيا وإبستمولوجيا وأخلاق—توفّر إطارًا لفهم أعمق للعوامل التي تؤثر في الممارسة التمريضية الفردية، وفي توجيه السلوك المهني نحو وعي نقدي بالذات وبالرسالة المهنية (69).
ولا يقف دور الفلسفة عند حدود تشكيل الرؤية، بل يمتد ليظهر عمليًا في الأفعال اليومية للممرضات والممرضين، حين يترجمون معارفهم وقيمهم إلى ممارسات ملموسة تُجسّد العناية والاحترام والالتزام الأخلاقي. وقد عبّرت إحدى الممرضات عن هذا البعد العملي بقولها: «فلسفتي الشخصية تقوم على الرعاية والاحترام للآخرين... وهذه الفلسفة تقود قراراتي المهنية والشخصية».
ويكشف هذا المثال عن عدم قابلية الفصل بين النظرية والممارسة، وبين الشخصي والمهني، مما يجعل الفلسفة مدخلًا طبيعيًا لتعميق البعد العلائقي في التمريض، وتعزيز قدرة الممرضات على تجاوز الأطر التقنية الضيقة لصالح رؤية إنسانية واسعة للمهنة (70).
وتبرز الفلسفة كأسلوب حياة أيضًا في مواقف عملية تتصل بصلب العمل التمريضي، مثل:
1- الاستجابة للامساواة النظامية عبر دعم الوصول العادل للرعاية الصحية.
2- الدفاع عن العدالة والإنصاف في مختلف مستويات تقديم الرعاية.
3- تقديم رعاية مرتكزة على الشخص تُستمد من قيم العدالة الاجتماعية والاحترام الإنساني (71).
ج- الفلسفة والتفكير الناقد في التمريض
ويمتد هذا البعد الفلسفي ليشكّل الأساس الذي تُبنى عليه مهارات التفكير الناقد، التي تُعدّ عنصرًا جوهريًا في الممارسة التمريضية اليومية. ويستخدم الممرضون التفكير الناقد من خلال الاستفادة من المعرفة المستقاة من مجالات متعددة، والتأمل في هذه المعرفة، وتطوير خصائص شخصية مثل الصدق والإنصاف والإبداع والصبر والثقة بالنفس. كما يتطلب الأمر تحمل المسؤولية، والسعي المستمر نحو تجارب تعلم جديدة، وتطوير المهارات الشخصية من عمل جماعي، وحل للنزاعات، وتلقي وإعطاء التغذية الراجعة.ويترافق ذلك مع إتقان المهارات التقنية—كالتعامل مع الأجهزة الطبية وإدارة القساطر—لتجنب الإرهاق المعرفي الذي قد يحدّ من قدرة الممرض على التركيز في مراقبة استجابات المرضى (72).
كما يستند التفكير الناقد إلى دمج المعرفة البيوفيزيائية والسلوكية والإنسانية، خصوصًا في مواقف حساسة مثل رعاية المرضى في نهاية الحياة، حيث يتطلب الأمر فهمًا ثقافيًا وروحيًا عميقًا لضمان رعاية حساسة وإنسانية.ويظهر التفكير الناقد أيضًا في قدرة الممرضين على الاستجابة للتغيرات الحادة في حالة المريض، وتعديل التدخلات وفق احتياجاته، واتخاذ قرارات فورية تتعلق بالأولويات العلاجية—مثل تقديم دواء لإنقاذ حياة مريض يعاني من أزمة ربو قبل التعامل مع قلقه العاطفي (73).
المحور الثالث: الفلسفة والأخلاق الطبية
1- العلاقة بين الفلسفة والأخلاق في ممارسة الطب.
تشكّل العلاقة بين الفلسفة والأخلاق في ممارسة الطب محورًا أساسيًا لفهم طبيعة هذا الحقل المعرفي، إذ لا يوجد تصور موحّد للطب في الوسط الأكاديمي والطبي، فهو يشمل الشفاء، والأمراض، والأدوية، وصحة الإنسان، والأخلاقيات، والكفاءات الطبية، وغيرها. ومع ذلك، يمكن النظر إلى الطب بوصفه مجموعة من ممارسات الرعاية الصحية المتطورة عبر الزمن، هدفها الوقاية من الأمراض والحفاظ على الصحة في المجتمعات الماضية والحاضرة. وتمثل ممارسة الطب كفن منظومةً من المهارات والقيم الإنسانية التي تتجلى في علاقة الطبيب بالمريض، مثل العناية والرحمة ووضع الخطط العلاجية المشتركة، وهي قيم تجعل مصلحة المريض في المقام الأول، مما يبرز دور الأخلاق بوصفها عنصرًا تأسيسيًا في العمل الطبي (74).
وقد رافقت ممارسات الطب والشفاءُ الإنسانَ منذ أقدم العصور، وشكّلت مرآةً لتطور المجتمعات في فهمها للمرض ووسائل مواجهته. ويكشف تاريخ الطب عن جذور المصطلحات الطبية في اليونانية واللاتينية، اللتين كانتا أساس الكتابة العلمية لقرون طويلة. ففي المجتمعات القديمة، فُسّرت مظاهر المرض تفسيرًا روحياً مرتبطًا بالمعتقدات السائدة، كما في الطب المصري والبابلي والصيني واليوناني والروماني. فكان الشامان والكهنة يقومون بأدوار علاجية تستند إلى مزيج من الأعشاب والطقوس التي تحمل طابعًا سحريًا، انطلاقًا من اعتقادهم بامتلاك معرفة تتجاوز الطبيعة البشرية (75).
ومع حلول القرن الخامس قبل الميلاد، جاء التحول الجذري على يد أبقراط، الذي قدّم نظرية الأخلاط وحرّر الطب من الخرافة، مؤكِّدًا ضرورة الاعتماد على الملاحظة السريرية والتفسير العقلاني. وأرجع أبقراط الأمراض الجسدية والنفسية إلى اختلال توازن الأخلاط الأربعة، واضعًا أساسًا معرفياً جديدًا يقوم على دراسة الأسباب الطبيعية للمرض. كما قدّم تصنيفات ما تزال مستخدمة حتى اليوم، مثل التمييز بين الأمراض الحادة والمزمنة والمتوطنة والوبائية، وصاغ ما يُعدّ أهم وثيقة أخلاقية في تاريخ الطب، وهو قسم أبقراط. وقد أثّرت هذه التطورات في الطب الروماني أيضًا، الذي استثمر التراث الأبقراطي وأضاف إليه ممارسات جراحية وعلاجية جديدة (76).
ومع ذلك، لم تقف العلاقة بين الفلسفة والطب عند حدود الأخلاط؛ إذ كانت الفلسفة دائمًا هي التي تضع معيار القيمة للممارسة الطبية. وقد عبّر عن ذلك التراثُ الصيني القديم الذي شدّد على الرحمة والمساواة في العناية بالمرضى. وكذلك قال أبقراط عبارته الشهيرة: «حيثما وُجد حب الإنسانية، يجب أن يوجد حب الطب»، مؤكدًا أن الطبيب لا بد أن يتحلى بصفات الفلاسفة كاللطف والتواضع والإيثار (77).
ولم يكن قسم أبقراط مجرّد وثيقة مهنية، بل كان تعبيرًا عن رؤية فلسفية للطب باعتباره ممارسة أخلاقية قبل كل شيء. فقد أكّد القسم احترام المعلّم، ومنع القتل الرحيم، والحفاظ على أسرار المرضى، وهي مبادئ تُعد حتى اليوم الركائزَ الأخلاقية للمهن الطبية (78).
ومع توسع مفاهيم الرعاية الصحية، توسّعت الفلسفة بدورها، فأصبحت العلاقة بينهما أكثر عمقًا، وهو ما يتجلّى في محاورة أفلاطون «بروتاجوراس»، حيث يربط بين «الجسم الصحي والإنسان الصالح». ويرى أفلاطون الفردَ طبيبًا لنفسه، مسؤولًا عن عناية عقله وروحه كما يعتني بجسده، مؤكدًا أن علاج الجسد لا ينفصل عن صفاء الروح، وأن الحكمة جزء من الصحة الإنسانية الشاملة. فالجسد يُعالَج بالروح، ولا يمكن لروح فاسدة أن تعالج شيئًا على نحو صحيح (79).
ومع بداية عصر النهضة، عاد الاهتمام بالتراث الطبي القديم، واستُثمر اختراع الطباعة في نشر المعارف الطبية. كما أدى صعود البحث التجريبي إلى تقدّم كبير في التشريح، والفسيولوجيا، والجراحة، والأحياء الدقيقة. وقد أسهم عمل فيزاليوس في إعادة تصور بنية الجسم البشري، وشرح هارفي للدورة الدموية في إعادة فهم وظائف القلب. ومن خلال الملاحظة والتجريب، تبنّى أطباء عصر التنوير منهجًا تجريبيًا سمح بتطبيق المعرفة العلمية على علاج المرضى (80).
أما القرن التاسع عشر، فقد شهد انفجارًا علميًا أحدث نقلة نوعية في تكوين المعرفة الطبية. فقد تطورت مجالات الأنسجة، والأمراض، والبكتيريا، والفيروسات، مما سمح بفهم الجراثيم بوصفها سببًا مباشرًا للأمراض المعدية. كما ظهرت تقنيات جديدة للتعقيم والتخدير، وتقدمت الطب الوقائي والصحة العامة. وأدى نمو الطب النفسي مع فرويد وتطور الأنظمة الصحية الوطنية إلى تنظيم المهنة الطبية ووضع معايير للتدريب والممارسة، مما جعل الطب أكثر ارتباطًا بالعلم والتقنية، دون أن يفقد جذوره الأخلاقية والفلسفية (81).
أما القرن العشرون، فقد شهد قفزة غير مسبوقة في التطورات الطبية بفضل التخصص المتزايد، واكتشاف المضادات الحيوية، والتقدّم الهائل في مجالات الكيمياء الحيوية والغدد الوراثية والمناعة، وصولًا إلى زراعة الأعضاء. كما أتاح اختراع وسائل التشخيص غير الجراحية — مثل الأشعة السينية، والتصوير المقطعي، والرنين المغناطيسي — نظرة أعمق داخل الجسد دون تدخّل. وقد أدى ذلك إلى نشوء «الطب المبني على الأدلة» الذي يجمع بين الخبرة العلمية والقيم الإنسانية في اتخاذ القرارات السريرية (82).
ومع تزايد الاعتماد على النظم الصحية الحديثة، برزت الحاجة إلى الفلسفة الطبية لتحديد الأطر الأخلاقية التي تنظّم علاقة الطبيب بالمريض وقرارات العلاج. فالمعرفة العلمية وحدها لا تكفي، ما لم تُفسَّر وتطبَّق في ضوء مبادئ فلسفية موجِّهة. ولهذا، يعدّ الطب اليوم مزيجًا بين العلم والفن، يستهدف تخفيف معاناة الإنسان من خلال موازنة الحقائق العلمية بالقيم الأخلاقية (83). ومن هنا، اكتسب تعليم الفلسفة الطبية أهمية قصوى، لأنها تساعد المتخصصين على تحويل المبادئ النظرية إلى ممارسات سريرية مسؤولة تستجيب لحاجات المرضى والمجتمع (84).
وتعتمد النظرية الأخلاقية في جذورها على أربعة مصادر أساسية: الدين، والعلم، والثقافة، والفلسفة، ويتفاعل كل منها في تشكيل معايير السلوك الأخلاقي داخل المجتمعات. فالدين قدّم نماذج للسلوك الصالح، والعلم قدّم معرفة جديدة تتحدّى التصورات التقليدية، والثقافة تحمل بقايا الخبرات الجماعية، بينما توفر الفلسفة التحليل التجريدي والمبادئ العامة التي تتجاوز الإطار الديني والثقافي (85).
وانطلاقًا من هذا الأساس، تتفرّع الأخلاقيات الطبية الحديثة إلى ثلاثة مستويات: أخلاقيات السياسات العامة (Macro)، والأخلاقيات التطبيقية (Meso)، والأخلاقيات السريرية (Micro)، وكلها تتعامل مع قضايا حساسة مثل الإجهاض، والقتل الرحيم، واختيار المرضى عند نقص الموارد، والتلقيح الصناعي، والتلاعب الجيني، وقرارات إنهاء العلاج، وغيرها من المسائل التي توازن بين قيم الفرد والمجتمع والمهنة (86). كما تتناول الأخلاقيات الحيوية موضوعات جوهرية مثل تعريف الصحة والمرض، وعلاقة الطبيب بالمريض، ومفهوم التطبيب بوصفه طريقة حياة (87).
ولمواجهة تنوع المجتمعات وتعارض الرؤى الأخلاقية، طورت الأخلاقيات الحيوية عددًا من المبادئ العملية، من أهمها: احترام أولويات الفرد، تشجيع اللامركزية الأخلاقية، تقديم احتياجات المريض الفرد على الاعتبارات العامة، تعزيز التضامن الإنساني، وتطبيق مبادئ الموافقة المستنيرة والخير وعدم الإضرار وفقًا لتعقيد كل حالة. وتستلزم بعض الحالات مزيجًا من أكثر من مبدأ، مثل محاولة التوفيق بين استقلالية المريض وبين الرعاية الأبوية في آن واحد (88).
2- القيم والمعرفة الطبية
بعد أن اتّضح أنّ الممارسة الطبية عبر تاريخها لم تكن نشاطًا تقنيًا فحسب، بل ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالمعايير الأخلاقية والإنسانية التي توجه فعل العلاج، يعود مفهوم القيم في الرعاية الصحية ليحتل موقعًا مركزيًا في النقاشات المعاصرة حول إصلاح نظم الصحة. ومع أنّ الحديث المكثّف عن «القيمة» في الرعاية الصحية يبدو حديثًا، إلا أنّ جذوره قديمة؛ فقد عبّر ويليام مايوWilliam Mayo عام 1908 عن هذا المبدأ بقوله: «المصلحة الفضلى للمريض هي المصلحة الوحيدة التي يجب أخذها في الاعتبار…»، مؤكدًا أن قيمة الرعاية تنبع من فهم مشترك وجهد تعاوني بين جميع العاملين في القطاع الصحي (89). وهكذا يتّضح أنّ القيمة ليست عنصرًا طارئًا على الممارسة الطبية، بل هي معيار توجيهي يحدّد غاياتها ويضبط آلياتها.
وانطلاقًا من هذا الفهم، يقدّم كاسيلCassell خريطة مفاهيمية للقيم التي تُعدّ ضرورية للمعرفة الطبية والممارسة السريرية. فهو يحدّد خمسة مصادر أساسية للقيم:
1- القيم التي يمنحها المجتمع لمفهومي الصحة والمرض،
2- الأهداف العامة للرعاية الطبية،
3- القيم الشخصية والمهنية للأطباء،
4- القيم الفردية للمرضى،
5- والقيم المنظمة لعمل النظام الصحي بوصفه بنية معقّدة.
ويرى كاسيل أن القيم، تمامًا كالحقائق العلمية، جزء لا يتجزأ من المعرفة الإكلينيكية؛ فلا يمكن للطبيب أن يفهم المريض فهمًا صحيحًا دون إطار قيمي ينظم عملية الإدراك الإكلينيكي. ويشارك تاوبر Tauberهذا التصور، إذ يؤكد أنّ «القيم تُشكِّل جميع الوقائع»، لأنها تمنحها المعنى والدلالة عبر عملية الفرز والترتيب ومنح الأولوية التي يقوم عليها اتخاذ القرار العلاجي (90). وبهذا يصبح الفصل التقليدي بين «الوقائع» و«القيم» ثنائية مضلّلة، لأن الوقائع ذاتها لا تُفهم إلا داخل بنية من القيم التي تعطيها غايتها.
وفي ضوء هذا الفهم، يقدّم تاوبر إطارًا إبستمولوجيًا جديدًا يقوم على دمج الوقائع بالقيم ضمن ما يسميه الإبستمولوجيا الأخلاقية. ولتفسير ذلك، يميّز بين نوعين من القيم:
1- القيم الوضعية: وهي موضوعية ومحايدة، تمنح المعرفة الطبية صفتها العلمية،
2- والقيم غير الوضعية: وهي قيم ذاتية وإنسانية تعبّر عن الأهداف الشخصية للمريض والطبيب على حدّ سواء.
وعلى الرغم من أن القيم الوضعية ضرورية لضبط المعرفة الطبية وإكسابها طابعها العلمي، إلا أنّ الاعتماد عليها وحدها يؤدي إلى تجريد الممارسة الطبية من جوهرها الإنساني؛ ذلك أن ما «يلحم مختلف الخيوط الإبستمولوجية للطب المعاصر» هو البعد الأخلاقي الشخصي الذي تتيحه القيم غير الوضعية. ومن هنا، يصبح هذا البعد الأخلاقي هو الذي يمنح الطب معناه الحقيقي بوصفه ممارسة إنسانية وليست مجرد تقنية تطبيقية (91).
3- أخلاقيات الطب والتكنولوجيا
بعد بيان مركزية القيم في المعرفة الطبية، يتّضح أن التحوّلات التكنولوجية المعاصرة قد أصبحت عاملاً حاسمًا في إعادة تشكيل الممارسة الإكلينيكية. ففي عصرنا الراهن، لم تعد التكنولوجيا مجرّد أداة مساعدة، بل غدت جزءًا لا ينفصل عن بنية الطب والرعاية الصحية؛ إذ تتوزّع تطبيقاتها بين الأجهزة المتطوّرة والبرمجيات المتقدّمة التي تدير العيادات والمستشفيات. وقد أحدث هذا التطوّر ثورة حقيقية في طرائق التشخيص والعلاج، غير أنّ هذه الثورة، على الرغم من فوائدها الهائلة، حملت معها أيضًا مخاطر وثغرات تستدعي وعيًا أخلاقيًا يقظًا؛ فالتكنولوجيا قادرة على أن تكون بنّاءة ومدمّرة في آن واحد داخل المجال الطبي (92).
ومن هنا أخذ التقدّم التقني يطرح تحدّيًا متزايدًا للعديد من جوانب الحياة الإنسانية، بما في ذلك المبادئ الطبية الراسخة المتعلقة بقيمة الإنسان وقدسية الحياة. ومع توسّع التكنولوجيا الطبية بين الحربين العالميتين، برزت مشكلات أخلاقية هددت البنية الهيبقراطية التقليدية التي تطورت عبر قرون، وظهر ما يُسمّى بـ"الغرباء عند السرير"، أي دخول أطراف مؤسسية وقانونية وتقنية إلى صميم العلاقة الثنائية بين الطبيب والمريض. وقد دفع ذلك الكثير من المرضى والأطباء إلى اللجوء إلى الأخلاقيين والمحامين والمحاكم لتحديد حدود الواجبات الطبية. وإزاء هذا التعقيد، شاع الاعتقاد بأنّ كثيرًا من المعضلات الأخلاقية لا حلّ لها أو أنّه «لا يوجد صواب أو خطأ» في مثل هذه القضايا (93).
وعلى الرغم من هذا المشهد المربك، فإنّ التكنولوجيا تظلّ تحمل جوانب إيجابية وسلبية معًا، إذ تفوق فوائدها—وفق التحليل العملي—ما قد تسبّبه من أضرار. فالابتكارات الطبية الحديثة قادرة على إنقاذ الأرواح، وتخفيف الألم، وتقديم حلول علاجية لملايين البشر حول العالم. ولذلك يبقى السعي إلى تطوير التكنولوجيا ضرورة إنسانية، بشرط أن يُضبط بقيم الرعاية والتضامن والالتزام الأخلاقي تجاه الإنسان. فطالما كانت التكنولوجيا وسيلةً لخدمة المحتاجين ودعم كرامة الإنسان، أمكن التعامل مع سلبياتها وتجاوزها بصورة مسؤولة (94).
وفي هذا السياق، يتّجه مستقبل الرعاية الصحية سريعًا نحو الاعتماد على تكنولوجيا المعلومات، حيث تَعِد الابتكارات الصحية—من الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة السحابية—بتحقيق معرفة أوسع وقدرة أكبر على مواجهة التحديات الصحية. وتتجه الأنظمة الصحية الحديثة إلى توظيف الأدوات الرقمية لتحسين جودة الرعاية، وإدارة الموارد، وتقليل التكلفة، وتخفيف ضغط العمل على الطواقم الطبية. وتشمل الاتجاهات الراهنة الذكاء الاصطناعي، الرعاية الافتراضية، الطبّ عن بُعد، الصحة المتنقّلة، والاجتماعات الافتراضية، إضافة إلى إنترنت الأشياء الطبية، بما يمهّد لدمجٍ أوسع لتقنيات التعلّم الآلي والحوسبة المتقدّمة في مختلف جوانب العمل الإكلينيكي والإداري خلال العقد القادم، بشرط تعزيز ثقافة مؤسسية داعمة لهذا التحوّل (95).
ويُعَدّ الذكاء الاصطناعي أحد أهم محركات هذا التحوّل؛ إذ بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي بتطوير خوارزميات للتشخيص، كما حدث في تطبيقه عام 1976 لتحديد أسباب آلام البطن. واليوم أصبح عنصرًا مركزيًا في الروبوتات الطبية وفي مختلف مراحل التشخيص والعلاج (96). ويضم الذكاء الاصطناعي فرعين رئيسين: الأول «افتراضي» يقوم على التحليل المعلوماتي المتقدّم—وخاصة التعلّم الآلي والتعلّم العميق—الذي يعتمد على معالجة البيانات السريرية والمخبرية والنسجية وبيانات شركات الدواء وغيرها، بهدف صياغة خوارزميات دقيقة للتشخيص والعلاج. ويعمل هذا الفرع عبر ثلاثة أنماط من الخوارزميات: النمط غير المُراقَب، والنمط المُراقَب، ونظام التعلّم التعزيزي. أمّا الفرع الثاني فهو «فيزيائي» يشمل الروبوتات المستخدمة في إعادة التأهيل ورعاية المُسنّين والجراحة الدقيقة (97).
وما يمنح الذكاء الاصطناعي قوّته هو قدرته على معالجة كمّ هائل من البيانات يعجز الإنسان عن إدارتها بفاعلية مماثلة؛ فالجمع بين السجلات السريرية والبيانات المخبرية والمراجع العلمية والسياقات الاجتماعية والبيئية يشكّل مهمة مرهقة للعقل البشري. ومع ذلك يظلّ الطب ممارسة إنسانية في جوهره، لا يمكن اختزالها في تحليل البيانات وحده؛ إذ يبقى فهم المعاناة فعلًا إنسانيًا يتطلب التعاطف والحضور الأخلاقي. ولا يمكن للتعلّم الآلي أو التعلّم العميق استنساخ الوعي أو الإحساس الإنساني، ما يجعل الحديث عن «آلة بشرية» أمرًا سابقًا لأوانه (98).
وتتفق الأدبيات الحديثة على أن الذكاء الاصطناعي يمثّل فرصة واعدة للطب، كما يشير خان إلى أنّ ظهوره يعيد تعريف حدود الممارسة الطبية ويوفّر مسارات جديدة لتحسين نتائج المرضى. ويذهب أورتيجا Ortega وآخرون إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يشكّل «لحظة جوتنبرج» جديدة للطب، نظرًا لقدراته على دعم استقلالية الطبيب وتقليل الأعباء الإدارية والمساعدة في تقديم رعاية مراقبة في المناطق النائية (99).
ولا يقتصر تأثير الذكاء الاصطناعي على المجالات التقليدية، بل يمتد إلى الطب التكميلي والبيولوجي والوراثي والطب الأورثوموليكولي. كما تعدّد الدراسات مجموعة من الفوائد المحتملة، من بينها: التشخيص الدقيق، المتابعة الدقيقة للأورام والأمراض القلبية، مراقبة الأعراض النفسية، الجراحات الروبوتية عالية الدقة، زراعة الرقائق الإلكترونية لمتابعة الأمراض، تجديد الخلايا، الشبكات العصبية الاصطناعية وربطها بالخوارزميات الجينية، إلى جانب برمجيات متقدّمة لإدارة الرعاية الطبية (100).
وتشير التحليلات المستقبلية إلى أنّ الذكاء الاصطناعي سيواصل التأثير العميق في الطب الوقائي والعلاجي، وسيوسّع نطاق استخدامه في مراقبة الأمراض، والوقاية من النوبات القلبية، والكشف المبكر عن السرطان، وإدارة العمليات الجراحية بدقة متناهية، مع تسريع خدمات الإمداد وتحسين كفاءة الأنظمة الصحية (101).
المحور الرابع: أثر فلسفة الوعى فى تحقيق التناغم الكونى لدى الأطباء
1- فلسفة الوعي وتقليل المخاطر في الأداء الطبي
يبدو أنّ الموضوع الأكثر جوهرية في العلاقة بين الفلسفة والطب هو الفناء؛ إذ إن الأسئلة التي تتقاطع مع مفاهيم الحياة والموت والمعنى—وهي أسئلة يُضطر كل إنسان لمواجهتها يومًا ما—تنشأ في الغالب داخل سياق طبي. ويُنظر إلى الفناء بوصفه «التربة» التي يقوم عليها التعليم الطبي؛ فلو لم نكن معرضين للفناء، لما احتجنا إلى الرعاية الصحية أصلًا. ومن هذا الإدراك الوجودي ينبثق التساؤل الجوهري: كيف يمكن دعم المتدرّبين الطبيين في التوفيق بين طرائق التفكير التقنية/المهنية، وطرائق التفكير التعاطفية/الإنسانية؟
وقد عبّر كالانيثي Kalanithi، جرّاح الأعصاب والكاتب المعروف، عن هذا المأزق تعبيرًا مؤثرًا عند حديثه عن تشريح الجثث؛ فالممارسة الطبية—في رأيه—تتضمّن دائمًا انتهاكًا لـ«عوالم مقدّسة»، إذ يرى الأطباءُ البشرَ في أشد لحظاتهم ضعفًا وخوفًا وخصوصية. والنظر إلى الجسد على أنّه مادة وآلية يشكّل وجهًا آخر لمهمة الطب النبيلة في التخفيف من أعظم المعاناة البشرية؛ غير أنّ هذه المعاناة نفسها تتحوّل أحيانًا إلى «أداة تعليمية». وهنا يبرز السؤال الفلسفي: كيف يمكن للفلسفة أن تساعد المتدرّبين (ومدرِّبيهم) على صون إنسانيتهم في مواجهة الأسئلة الوجودية والرموز والمحرمات الطبية؟ (102)
وتكشف هذه الإشكالات أن الطب والفلسفة لم يكونا يومًا مجالين غريبين عن بعضهما؛ فالقضايا المرتبطة بالميلاد والحياة والمعاناة والألم والسعادة والموت هي قضايا جوهرية في الوجود الإنساني، وتتقاطع فيها المقاربات الطبية والفلسفية بعمق. فالفلسفة الطبية الكلاسيكية تدرس مفاهيم ميتافيزيقية تتعلق بموقع الإنسان في الطبيعة، وعلاقته بالمقدّس، وطبيعة الصحة والمرض، إضافةً إلى الأسس الإبستمولوجية والمنهجية للتشخيص والتصنيف وتقدير المخاطر والعلاج. أما الأخلاقيات الطبية التقليدية فتركّز على علاقة الطبيب بالمريض، ومبدأ «المصلحة الفضلى»، والفضائل المهنية التي يجب أن يتحلّى بها الطبيب الجيّد (103).
وكانت مفاهيم الانسجام والتوازن حاضرة في معظم النُّظُم الطبية القديمة؛ إذ فُهِمت الصحة والسعادة بوصفهما حالة من التوازن الكوني أو انسجام الحياة، بينما ينشأ المرض من اختلال هذا التوازن. وهكذا تمثّلت مهمة الطبيب في إعادة هذا الانسجام، والتعامل مع مظاهر فقدانه، مع الاعتراف في الوقت نفسه بحدود الخبرة الطبية باعتبارها حدودًا طبيعية لقدرة الإنسان. وقد شددت مدرسة أبقراط، وكذلك التقاليد الطبية الآسيوية المبكرة مثل سون سِيمياؤو في الصين، على ضرورة الدراسة الفلسفية لتحقيق الإتقان الطبي (104).
ورغم أنّ الطب والفلسفة قد يظهران كحقلين مستقلين، إلا أنّهما في الواقع متداخلان عبر «تقسيمات متشابكة للعمل». فالفلسفة تقدم أدوات تحليلية ومنهجية تساعد على فحص القضايا الطبية، بينما يوفر الطب مادةً خصبة للتأمل الفلسفي. وتظهر أسئلة الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والمنطق والأخلاق بشكل مباشر في الممارسة السريرية اليومية، سواء في التشخيص أو العلاج. كما يشترك المجالان في السعي إلى تحقيق رفاه الإنسان؛ فالمفاهيم الخاطئة أو المتحيزة حول الصحة والمرض يمكن أن تُحدث اضطرابات ذهنية تؤثر في الرعاية الصحية، بينما يهدف الطب إلى مكافحة الاضطرابات الجسدية. وإذا كانت الفلسفة تبحث عن الحقيقة والطمأنينة—أي عن «شفاء الروح»—فإن الطب يسعى إلى تحقيق السعادة من خلال «شفاء الجسد»، ومن هنا يملك المجالان غايةً علاجية مشتركة (105).
وفي هذا الإطار، يرى بيلجرينو Pellegrino وتوماسما Thomasma أنّ «الفلسفة في الطب» تعني توظيف الأدوات الفلسفية التقليدية—مثل التأمل النقدي، والحجاج الجدلي، وكشف القيم، وطرح الأسئلة الأساسية—في معالجة المشكلات الطبية المحددة. وقد تكون هذه المشكلات منطقية أو معرفية، لكن معظمها يتعلق بالأسئلة الأخلاقية. وهنا يعمل الفلاسفة «داخل المجال الطبي» بوصفهم معلمين ومفكرين مهنيين يوضّحون كيف يمكن للفلسفة تحليل الممارسة الطبية ونقدها وتطويرها. ويشير بيلجرينو إلى أنّ الفينومينولوجيا والوجودية تُعدّ من أكثر المقاربات الفلسفية ثراءً في تحليل الطب وفهمه (106).
2- دور فلسفة الطب في تحقيق جودة الحياة
بدأ استخدام مصطلح جودة الحياة (Quality of Life – QoL) في أوائل الستينيات، تزامنًا مع التحولات التي طرأت على الصحة والبنية الديموغرافية في المجتمعات الحديثة المتأخرة. فقد كانت الصحة العامة تركز تقليديًا على الوفيات، وتم تطوير الأطر الصحية في النصف الأول من القرن العشرين لمواجهة الأنماط المعقدة للوفيات المبكرة، وبدرجة أقل لمتابعة انتشار الأمراض ومعدلاتها، أي ركّز الطب اهتمامه على كمية الحياة. وقد ذكر إلكينجتون (Elkington) مصطلح "جودة الحياة" لأول مرة في المجال الطبي عام 1966، مشيرًا إلى أن التقنيات الجديدة، وخصوصًا الغسيل الكلوي المزمن وزراعة الأعضاء، أثارت تساؤلات جديدة: كيف يحافظ الطبيب على جودة حياة المريض الفرد؟ وكيف يمكن تحسين جودة حياة مرضى آخرين دون المساس بجودة حياة المريض الحالي؟ وإلى أي برامج وقائية أو علاجية ينبغي توجيه موارد المجتمع لتحقيق أكبر قدر من الصحة وجودة الحياة لجميع أعضائه.(107)
وفي السبعينيات، أصبح مصطلح "جودة الحياة" كلمة مفتاحية ضمن موضوعات البحث الطبية في مكتبة الولايات المتحدة الوطنية للطب، وقد تم تعريفه بأنه «مفهوم عام يعكس الاهتمام بتعديل وتعزيز خصائص الحياة، مثل البيئة الفيزيائية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية، والحالة العامة للحياة البشرية» (108).
دخل مصطلح جودة الحياة النقاش الفلسفي في الثمانينيات عبر الفلاسفة الذين يقيمون الأفعال الأخلاقية بالاعتماد على نتائجها، مع التركيز على بعدي اللذة (Hedonism) والرفاهية (Welfarism)، وربطوا ذلك بمسائل الصحة ورفاهية الإنسان والحيوان، في مقابل التركيز على الفلسفة السياسية التقليدية. وقد أثارت هيلجا كوز (Helga Kuhse) جدلاً حول عقيدة قدسية الحياة، ورفضها الفارق الأخلاقي بين وقف العلاج الطبي العادي وغير العادي عمدًا، معتبرة أن القرارات الطبية يجب أن تستند إلى جودة الحياة، إذ أن التمييز بين الوسائل العادية وغير العادية لا يزيل التناقضات الأخلاقية المرتبطة بها (109).
كما ناقش كل من هيلجا كوز وبيتر سينجر (Peter Singer) مسألة إنهاء حياة الأطفال ذوي الإعاقات الشديدة، مؤكدين أنه في بعض الحالات يمكن تبرير إنهاء الحياة على أساس جودة الحياة. ويشير هذا إلى أن تجاهل اعتبارات جودة الحياة يقلل من أهمية التعاطف، ويختزل دور الطبيب إلى مجرد تقني يُعنى بتنفيذ العلاج الحديث دون مراعاة العواقب الإنسانية المحتملة، ويُعدّ اختيار الموت مبرّرًا في الحالات التي تكون فيها الحياة مليئة بالألم والمعاناة، باعتباره يحقق مصلحة المريض الفضلى (110).
في منتصف الثمانينيات، اهتم هوجو تريسترام إنجلهاردت الابن (Hugo Tristram Engelhardt Jr.) بمفهوم جودة الحياة بوصفه أداة لتقييم حقوق الفرد والحرية في اتخاذ قراراته، مثل السماح بالولادة أو استخدام وحدات الرعاية الحرجة، بهدف وضع خوارزمية لتقييم الواجبات العلمانية تجاه الأفراد المحتاجين للرعاية بطريقة موضوعية. ومع دخول التسعينيات، استخدم أصحاب مذهب اللذة هذا المفهوم لتبرير القرارات المتعلقة بالقتل الرحيم أو إيقاف العلاجات الداعمة للحياة، في ظل انتشار الموت في المستشفيات ودور الرعاية، واعتماد التكنولوجيا على تأخير الموت حتى في الحالات الحرجة جدًا (111).
اعتمدت هذه النقاشات على مفهوم سنوات الحياة المعدلة حسب الجودة لتحديد ما إذا كان تقديم العلاج أو التوقف عنه يصبّ في مصلحة الشخص الفضلى، مع التركيز على نوعية الحياة المستقبلية التي يريدها الفرد. وفي هذا السياق، ربط الفلاسفة الرفاهيون جودة الحياة بمفهومي الصحة والسعادة، إذ يرى نوردنفلت (Nordenfelt) أن السعادة تتحقق بتحقيق أهداف الفرد الحيوية، وأن جودة الحياة الجيدة تتحقق عندما يتمكن الشخص من متابعة هذه الأهداف في الظروف الطبيعية، ما يعادل الصحة الكاملة عند القدرة على تحقيق جميع الأهداف الحيوية الضرورية (112).
الخلاصة: خلال العقود الأربعة الماضية، أصبح استخدام مفهوم جودة الحياة متزايدًا في البحوث الطبية والتمريضية، رغم عدم وجود توافق حول تعريفه وطرائق قياسه. فقد استخدم الأطباء والممرضون جودة الحياة كأساس لاتخاذ القرارات الصحية، فيما استند الفلاسفة إلى هذا المفهوم لتشكيل الأحكام الأخلاقية المتعلقة بالقتل الرحيم أو إنهاء العلاجات الداعمة للحياة. ومع تطور أدوات قياس جودة الحياة، ظهرت تحديات مفهومية ومنهجية في التطبيق العملي، لكنها أسهمت في إدخال منظور المريض في الممارسة السريرية، وتعزيز الربط بين الصحة والسعادة، وتأكيد جودة الحياة بوصفها مفهومًا ذاتيًا مركزيًا في الطب والفلسفة (113).
المحور الخامس: تعزيز الوعي الذاتي بالفلسفة والمنطق في التعليم الطبي
1- دمج التفكير الفلسفي في مناهج كليات الطب
تُبرز الحكاية المنسوبة إلى فولتير أن "الأطباء هم رجال يصفون أدوية لا يعرفون عنها الكثير ، لعلاج أمراض يعرفون عنها أقل، في بشر لا يعرفون عنهم شيئًا"، الدور الأساسي للتعليم الطبي في إعداد الأطباء المستقبليين من خلال نهج شامل، قابل للتكيف، ومستشرف للمستقبل (114). ومع توسع المعرفة الطبية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بدأ التعليم الطبي بالاعتراف بالطابع متعدد الأبعاد للصحة، حيث أعاد تطوير المبادئ الأخلاقية، ومهارات التواصل، والتعاطف، والرعاية المتمحورة حول المريض، مؤكدًا على ضرورة اعتماد منظور شامل في الممارسة السريرية (115).
بالرغم من الطابع العملي للطب، إلا أنه مشبع بالتزامات مفهومية وافتراضات نظرية؛ فالأدوات الطبية الأساسية تعتمد على فرضيات سببية واستدلالات استقرائية، كما أن البحث الطبي يتأثر بالسياقات السياسية والاقتصادية. ومن ثم، أصبح الطب مجالًا بارزًا للتحليل الفلسفي ودمجه ضمن مناهج كليات الطب (116). ويظل توسيع التعليم في العلوم الإنسانية والأخلاقيات ضرورة لتعزيز التعاطف، والإبداع، والتفكير الأخلاقي لدى المهنيين الطبيين، حيث يشكّل الدمج المتوازن بين الخبرة التقنية والقيم الإنسانية أساسًا لتدريب أطباء متكاملين قادرين على تقديم رعاية رحيمة ومتمحورة حول المريض (117).
يهدف تعليم العلوم الإنسانية الطبية إلى تشكيل أطباء يرون المرضى أكثر من مجرد مجموعة من الأعراض، إذ تسهم تخصصات مثل الأنثروبولوجيا، والفنون، والفلسفة، والأدب في تعزيز مفاهيم الغموض والدقة وعدم اليقين، بما يعكس طبيعة الإنسان ويشجع على التفكير النقدي في تفاعلاتهم مع نظام الرعاية الصحية، ويعزز تطويرهم المهني والشخصي (118). ولعل هناك طريقين لمعالجة المشكلات الصحية المتعلقة بالفلسفة: الطريقة الأولى تطبيق الميتافيزيقا أو المنطق أو نظرية المعرفة أو الجماليات على الطب، أما الثانية فهي دمج فروع الفلسفة المختلفة وفق طبيعة المشكلات المراد حلها والمراحل المعرفية التي تتقاطع مع الرعاية العلاجية والوقائية (119).
لطالما ارتبط التعليم الطبي بالفلسفة، إذ يساهم النهج الفلسفي في تطوير التعليم الطبي من خلال التأنّي عند مواجهة التعقيدات وعدم اليقين، ورؤية المشكلات القديمة بطرق جديدة، واتخاذ إجراءات منتجة. فالفلسفة ليست مجرد إنشاء إطار مفاهيمي، بل هي "مسار" للتفكير المستمر، يهدف إلى التحرر من طرق التفكير الاعتيادية والافتراضات المسبقة، وإثارة الفضول والبحث داخل النفس (120).
يلعب التعليم الطبي دورًا محوريًا في إعداد الأطباء لمواجهة تحديات الممارسة المعقدة والمتنوعة، ومع زيادة التركيز على المعرفة العلمية والتقنية، يظهر الحاجة الملحة لإدماج الفلسفة، بما في ذلك الأخلاقيات والفكر النقدي، في المناهج الطبية. فالطب ليس مجرد إجراءات تشخيصية وعلاجية، بل ممارسة إنسانية تتطلب فهم المرضى كأفراد كاملين، والتفاعل معهم بمسؤولية، وتعاطف، ووعي بالقيم الأخلاقية والاجتماعية (121).
تشير الدراسات إلى أن إدخال الفلسفة في التعليم الطبي ينمي التفكير النقدي لدى الطلاب ويحفزهم على التساؤل والتحليل بدل الاكتفاء بالحفظ الصم للمعرفة العلمية، إذ أظهرت دراسة بعنوان "الفلسفة والتعليم الطبي" أن الطلاب الذين تعرضوا لمناهج فلسفية وأخلاقية طوروا قدرة أكبر على التعامل مع المعضلات السريرية المعقدة (122). ويمكن دمج الفلسفة عمليًا في مناهج الطب عبر دراسة الأخلاقيات الطبية، التفكير النقدي، فلسفة المعرفة الطبية، وأسس العدالة الصحية، كما يُبرز نموذج "الفضيلة والتعليم في أخلاقيات الطب" تعزيز الفضائل المهنية مثل الرحمة، التعاطف، والمسؤولية (123).
تشير التجارب الدولية إلى أن إدماج الأخلاقيات والفلسفة يمتد ليشمل تطبيقات عملية عبر مناقشات الحالات الواقعية، المحاكاة، والتقييم المستمر لمواقف الطلاب، إذ أظهرت دراسة في نيبال أن الطلاب الذين تلقوا تدريبًا أخلاقيًا كانوا أكثر استعدادًا لمواجهة المعضلات السريرية وأكثر التزامًا بخدمة المجتمعات الضعيفة (124). إضافةً إلى ذلك، تعزز الفلسفة الوعي بالقيم الإنسانية والاجتماعية والثقافية المؤثرة في الصحة، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل العولمة وتنوع خلفيات المرضى، مما يتيح للطلاب القدرة على التعامل مع تحديات الصحة العالمية مثل الأمراض المعدية وصحة الأم والتغيرات البيئية (125).
وهكذا يظهر بوضوح أن إدراج الفلسفة ضمن مناهج كليات الطب يعزز قدرة الطبيب على اتخاذ قرارات مدروسة ومتوازنة وإنسانية، ويُعدّ الطلاب لممارسة الطب ليس فقط كعلم، بل كفن قائم على القيم الأخلاقية والإنسانية. ويجب أن تكون هذه المواد جزءًا من المنهج الدراسي المستمر، متدرجة من المفاهيم الأساسية إلى التطبيقات العملية، لضمان تطوير أطباء يمتلكون المعرفة التقنية والفكر النقدي، وقادرين على مواجهة تحديات العصر الحديث بكفاءة ومسؤولية.
2- الأسس المنطقية للطب
أ- الطب والمنطق: علاقة جوهرية
الطب يُعدّ من الحقول التي تتقاطع فيها المعرفة النظرية والممارسة العملية. فالطبيب ليس مجرد خبير في وظائف الأعضاء والأنسجة، بل هو مستدل منطقي قادر على المقارنة والترجيح بين الفروض واتخاذ القرار الأمثل في ظروف غامضة وغير مؤكدة. ومن ثمّ، فإن المنطق ليس علمًا منفصلًا عن الطب، بل يشكّل الهيكل البنيوي الذي ينظم عمليات التشخيص والعلاج ويضمن اتساقها وسلامة نتائجها (126).
ب- أهمية التفكير المنطقي في التشخيص الطبي
يلعب المنطق دورًا أساسيًا في تحقيق تشخيص دقيق وموثوق. فزيادة المعلومات الطبية المعقدة تستلزم قدرة الطبيب على معالجة هذه البيانات بشكل منطقي، بحيث يكون التشخيص دقيقًا وواضحًا. ويؤكد التاريخ الطبي على هذا الدور: أبقراط أشاد بالاستنتاجات المنهجية، وجالين انتقد من لا يعرفون مبادئ التفكير المنطقي، وابن سينا درس المنطق وطور منهجه بما يخدم الممارسة الطبية (127).
ت- المنهج العلمي والتفكير النقدي في الطب الحديث
الطب الحديث لا يقتصر على الخبرة والأدلة، بل يعتمد على المنهج العلمي، والمنطق، والتفكير النقدي لفهم المشكلات الصحية والتعامل معها بفعالية. تطور التفكير الطبي عبر القرون من خلال فلسفة اليونان القديمة وفلسفات أخرى، وأصبح اليوم عملية معرفية أكثر وضوحًا ودقة، مدعومة بعلم الأوبئة الإكلينيكي والطب المبني على الأدلة ودراسات الحالات (128).
ث- مشكلات المصطلحات الطبية والحاجة للتصنيف المنطقي
تواجه الممارسة الطبية مشكلة غموض المصطلحات؛ فمصطلحات مثل "اعتلال القلب"، أو "متلازمة اللوزة والقلب" قد تشمل أمراضًا متعددة ذات أسباب ومسارات مختلفة. هذا يفرض على الطبيب فهمًا دقيقًا للقواعد المنطقية في تصنيف وتفسير الأمراض، لضمان تشخيص موثوق وفعّال (129).
ج- المنطق كأساس للفهم السليم واتخاذ القرارات
الالتزام بقوانين المنطق يمكّن الطبيب من التفكير الصحيح في جميع مراحل التشخيص والعلاج. فهم المفاهيم الطبية واستيعاب معاني المصطلحات الحديثة يضمن اتساق المعرفة الطبية مع إنجازات الطب الحديث، ويعزز القدرة على اتخاذ قرارات دقيقة وعلاجية سليمة (130).
ح- منطق الطب وتحليل البيانات التجريبية
النموذج الطبي- البيولوجي يعتمد على العلاقة المنطقية بين القضايا المستخلصة من التجارب والدراسات السريرية. فالاستدلال المنطقي يمكّن الطبيب من سد الثغرات التي تتركها التجارب المختبرية، وتحليل الملاحظات الطبية بشكل منهجي. وفقًا لمورفي، "منطق الطب" يعنى بعلاقات البيانات والملاحظات وليس مجرد القضايا المنطقية، ويضع قواعد الدليل كأساس للتفسير وإضفاء المعنى على الوقائع (131).
توجد أمثلة كثيرة تؤكد عمق العلاقة بين المنطق والطب منها:
أولًا: فلسفة الطب والمنطق
1- تتداخل "فلسفة الطب" و"فلسفة في الطب" مع النماذج الأساسية للطب والتجريبية والمنهج العلمي والهرمنوطيقا والأخلاقيات، ويُدمج معها مفاهيم علم الأوبئة والإحصاء الحيوي مثل الاحتمالية، وعدم اليقين، والسببية.
2- ساهم الفلاسفة المتميزون بإثراء هذه الحقول بخبرات ومعارف تتجاوز العلوم الصحية.
3- تظل مجالات الجراحة النظرية والطب النظري منفصلة إلى حد الآن عن التطبيق العملي، ما يبرز طبيعة الطب كعلم قائم على أساس فلسفي ومنطقي، وليس مجرد ممارسة تقنية (132).
ثانيًا: المنطق والتفكير النقدي في الطب
1- بدأ استخدام التفكير النقدي والمنطق في الطب بالارتباط مع علم الأوبئة الحديث والإحصاء الحيوي، ثم أصبحا عناصر أساسية لفهم واتخاذ القرارات في علوم الصحة وتحليل المعلومات الطبية.
2- يشمل الاستدلال السريري الآن التشخيص، واتخاذ القرارات العلاجية، وحل المشكلات السريرية، ومعالجة الأخطاء المعرفية.
3- الإدراك وعلوم المعرفة تساعد على تطوير فهم طبيب أفضل للعمليات العقلية التي تقود إلى التفكير والعمل، وتكشف عن مصادر الأخطاء الطبية التي قد لا تنتج عن النشاط الحسي وحده.
4- الحكم السريري يعتمد على "ملاءمة المريض/الأدلة/السياق"، ويستند إلى التفكير الاحتمالي، وتقييم القيم، والفلسفة العامة، ويغطي البحث، والصحة العامة، والإدارة، والتواصل المهني (133).
ثالثًا: منطق التشخيص الطبي
1- يقوم التشخيص على عمليات استدلالية متسلسلة: من ملاحظة الأعراض، جمع البيانات، إلى تكوين الفرضيات الأولية.
2- الاستدلالات الاستبعادية تعتمد على استبعاد الفروض غير المتسقة مع المعطيات للوصول إلى الفرض الأكثر ترجيحًا، وهو مشابه للقياس الأرسطي، لكن مع إدخال الاحتمالية المتعلقة بتواتر المرض وشدة الأعراض (134).
3- يعتمد التشخيص الحديث على المنطق البايزي Bayesian Logic ( وهو نسبة الى العالم الرياضي توماس بايز Thomas Bayes ) لتحديث الاحتمالات عند ظهور معطيات جديدة، مثل نتائج التحاليل أو استجابة العلاج، وهو أساس التفكير الطبي الحديث، خصوصًا مع الذكاء الاصطناعي والخوارزميات (135).
رابعًا: العلاقة بين البرهان العلمي والممارسة السريرية
1- الممارسة الطبية تجمع بين المعرفة النظرية والخبرة العملية؛ التجارب العيادية تساعد على قراءة الأعراض واقعيًا، بينما يضمن البرهان العلمي التناسق مع المبادئ البيولوجية والدوائية.
2- المنطق يربط بين هذين المستويين ويمنع الانخداع بالقرائن الجزئية أو الانطباعات الشخصية غير المبنية على دليل (136).
3- الطب القائم على الدليل (Evidence- Based Medicine) يضمن التمييز بين قوة الأدلة المختلفة، ويستلزم فهم مبادئ مثل العشوائية، المقارنة، والتعمية لضمان الصدق المنهجي ومنع التحيز (137).
خامسًا: منطق اتخاذ القرار الطبي
1- القرار الطبي مزيج من الاستدلال العلمي والحكم القيمي، ويوازن الطبيب بين منافع العلاج ومخاطره واحتمالات النجاح والفشل.
2- المنطق يلعب دورًا مزدوجًا:
- منطق تجريبي: تحديد ما إذا كان التدخل مدعومًا بالأدلة ويحقق الهدف.
- منطق معياري: توجيه القرار وفق مبادئ الأخلاق الطبية (احترام المريض، عدم الإضرار، تحقيق أكبر منفعة) (138).
سادسًا: المنطق في تصميم البحوث الطبية
1- البحث الطبي عملية منظمة منطقيًا تبدأ بمشكلة، ثم فرضيات، تصميم منهجي، اختبار، وتفسير النتائج.
2- المبادئ المنطقية تشمل:
- الاتساق الداخلي: التأكد أن النتائج ناتجة عن المتغيرات المدروسة فقط.
- الاستدلال السببي: إثبات العلاقة الزمنية، الترابط الإحصائي، والاتساق.
- قابلية التكرار: ضمان تجريد النتائج من الصدفة.
3- المنطق الإحصائي ضروري لتحليل البيانات، حساب الدلالة، تقييم قوة الارتباط، وتحديد حجم العينة المناس(139).
سابعًا: دور المنطق في التواصل الطبي واتخاذ القرار الجماعي
1- المنطق أساسي في التواصل بين الأطباء وبناء الإرشادات الطبية، التي تعتمد على مراجعة منهجية للأدلة وتصنيف قوتها.
2- الحوار الاستدلالي بين أعضاء الفريق الطبي يتيح اتخاذ القرار الأمثل، خاصة في الحالات المعقدة متعددة التخصصات.
3- المنطق يدخل أيضًا في الممارسة العملية للتمريض، وتحليل الدراسات، وقراءة المجلات الطبية بشكل نقدي (140).
الخاتمة
خلال هذا البحث، اتضح أن الفلسفة تشكّل أداة أساسية لتعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء، وذلك من خلال تطوير التفكير النقدي والتحليلي، وتنمية الحس الأخلاقي، وبناء القدرة على اتخاذ قرارات طبية مسؤولة ومستنيرة. فقد بيّن البحث أن فهم الوعي الذاتي في السياق الفلسفي والنفسي يسهم في تحسين جودة الرعاية الصحية، ويحد من الأخطاء المهنية، بينما يتيح دمج الفلسفة في التعليم الطبي للطلاب فرصة لتكوين عقلية نقدية، ومهارات تحليلية دقيقة، وفهم أعمق لأبعاد الممارسة الطبية الإنسانية. كما أظهر البحث أن الفلسفة لا تقتصر على تعزيز المعرفة النظرية، بل تتعداها إلى التأثير على السلوك المهني والأخلاقي، وإرساء أسس للتناغم النفسي وتقليل المخاطر في الأداء الطبي، بما يضمن توازنًا بين التقنية والإنسانية، وبين العلم والقيم.
إن النتيجة الرئيسة التي يمكن استخلاصها من هذا البحث هي أن تعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء لا يتحقق من خلال التدريب المهني والتقني وحده، بل يحتاج إلى منهج معرفي يربط بين الفلسفة، والمنطق، والأخلاق، والطب. ومن هنا تنبع أهمية إدراج الفلسفة والمنطق في المناهج الأكاديمية الطبية، ليس فقط لتعميق المعرفة، بل لتشكيل طبيب واعٍ بذاته، قادر على الموازنة بين المهارات التقنية والمسؤولية الإنسانية، وبالتالي تحقيق ممارسة طبية أكثر فعالية وإنسانية.ويمكن فهم ضرورة الفلسفة للأطباء فى ضوء النتائج التالية:
1- الوعي الذاتي ضرورة أساسية للطبيب: يتضح أن فهم الطبيب لذاته ولانفعالاته وقدراته العقلية يسهم في تحسين جودة القرارات الطبية والحد من الأخطاء المهنية.
2- الفلسفة أداة لتعزيز التفكير النقدي والتحليلي: تساعد الفلسفة الأطباء على تطوير مهارات التحليل والتفكير النقدي، بما يمكنهم من التعامل مع الحالات الطبية المعقدة بطريقة واعية ومنهجية.
3- الفلسفة والبعد الأخلاقي في الطب: تُمكّن الفلسفة الأطباء من فهم القيم والمعايير الأخلاقية، وتنظيم العلاقة بين المعرفة الطبية والتكنولوجيا، ما يعزز الممارسة الطبية المسؤولة والإنسانية.
4- فلسفة الوعي والتناغم النفسي: تؤدي الفلسفة إلى تعزيز التوازن النفسي للطبيب وتقليل المخاطر المهنية، مما يسهم في جودة الحياة المهنية والشخصية للطبيب.
5- أهمية دمج الفلسفة والمنطق في التعليم الطبي: يشير البحث إلى ضرورة إدراج التفكير الفلسفي والمنطق في المناهج الأكاديمية، لتكوين جيل من الأطباء الواعيين بذاتهم، القادرين على مزج المعرفة العلمية مع الحس الإنساني والأخلاقي.
6- التكامل بين المعرفة والفلسفة: تُظهر النتائج أن تعزيز الوعي الذاتي لا يقتصر على المعرفة التقنية أو التدريب العملي، بل يتطلب منهجًا فلسفيًا متكاملًا يجمع بين التفكير النقدي، الأخلاق، والفهم الذاتي.
***
دكتور ابراهيم طلبه سلكها
2025
.........................
الهوامش
1. Morin, Alain. “Self- Awareness Part 1: Definition, Measures, Effects, Functions, and Antecedents.” Social and Personality Psychology Compass, vol. 5, no. 10, 2011, pp. 807–823. DOI: 10.1111/j.1751- 9004.2011.00387.x, p. 808.
2. Loc- Cit.
3. Klussman, Kristine and others. "The Importance of Awareness, Acceptance, and Alignment with the Self: A Framework for Understanding Self- Connection." Europe's Journal of Psychology 18, no. 1 (2022): 120–131. https://doi.org/10.5964/ejop.3707, p. 121.
4. Ibid, pp. 121–122.
5. Ibid, p. 122.
6. Loc- Cit.
7. Yılmaz, Hanzade Aslan. "Self- Awareness and Self- Consciousness: A Review from a Social Psychology Perspective." Psikiyatride Güncel Yaklaşımlar – Current Approaches in Psychiatry 14, no. 4 (2022): 437–445, p. 438.
8. Loc- Cit.
9. Morin, Alain. “Self- Awareness Part 1: Definition, Measures, Effects, Functions, and Antecedents.” Social and Personality Psychology Compass, vol. 5, no. 10, 2011, pp. 807–823. DOI: 10.1111/j.1751- 9004.2011.00387.x, p. 814.
10. Jorge Manuel Castro and others. Self Awareness among Doctors: The Importance of Reflecting on Medical Practice / Self- Awareness nos Médicos: A Importância da Reflexão na Prática Médica. Pontos de Vista / Points of View, 24(1), 56–65, pp. 56–57.
11. Roth- Cohen, O., Levy, S., and Zigdon, A. (2021). “The mediated role of credibility on information sources and patient awareness toward patient rights.” International Journal of Environmental Research and Public Health, 18(16), p. 8628. doi: 10.3390/ijerph18168628, p. 1.
12. Jorge Manuel Castro and others, Op- Cit, p. 57.
13. Morin, Alain, Op- Cit, p. 809.
14. Klussman, Kristine and others. "The Importance of Awareness, Acceptance, and Alignment with the Self: A Framework for Understanding Self- Connection." Europe's Journal of Psychology 18, no. 1 (2022): 120–131. https://doi.org/10.5964/ejop.3707, p. 124.
15. Jorge Manuel Castro and others, Op- Cit, p. 57.
16. Loc- Cit.
17. Loc- Cit.
18. Loc- Cit.
19. Ibid, p. 58.
20. Loc- Cit.
21. Ibid, p. 59.
22. Du, Y., X. Zhang, J. Zhang, and G. Wang. 2021. "The Application of the Philosophical Thinking of 'Three' From I Ching to Medical Education." Frontiers in Medicine 8: 759282. https://doi.org/10.3389/fmed.2021.759282, p. 3.
23. Zayabalaradjane, Zayapragassarazan, and others. “Understanding Critical Thinking to Create Better Doctors.” Journal of Advances in Medical Education and Research 1, no. 3 (April–December 2016), p. 10.
24. Papp, Klara K., and others. “Milestones of Critical Thinking: A Developmental Model for Medicine and Nursing.” Academic Medicine 89, no. 5 (May 2014), p. 1.
25. Loc- Cit.
26. Sharifinia, Reza, and Abdolhussein Shakurnia. “Critical Thinking of Medical Students: Does It Change during the Study in Medical School?” Journal of Medical Education Development 15, no. 45 (2022): 26–33, p. 26.
27. Zayabalaradjane, Zayapragassarazan, and others, Op- Cit, p. 10.
28. Loc- Cit.
29. Papp, Klara K., and others, Op- Cit, pp. 2–3.
30. Ibid, p. 3.
31. Ibid, p. 4.
32. Alfaro LeFevre, Rosalinda. “Critical Thinking and Clinical Reasoning.” In Critical Thinking, Clinical Reasoning, and Clinical Judgment: A Practical Approach, 7th ed., pp. 144–153. St. Louis, MO: Elsevier, 2019, p. 144.
33. Loc- Cit.
34. Ibid, p. 145.
35. Loc- Cit.
36. Zayabalaradjane, Zayapragassarazan, and others, Op- Cit, pp. 10–11.
37. Ibid, p. 11.
38. He, Z.- X., & Lang, J.- H. (2017). “Our thoughts on medicine and philosophy.” Chinese Medical Journal, 130(3), p. 253.
39. Loc- Cit.
40. Ibid, p. 254.
41. Karaboue, M., and G. V. Lacasella. 2025. “Philosophy and Medicine: An Aristotelian Reflection.” Clin Ter 176, no. 1: 114–117. https://doi.org/10.7417/CT.2025.5174, p. 114.
42. Loc- Cit.
43. Ibid, pp. 114–115.
44. G. C., K. B., & Rajbhandari, E. (2024). Philosophical perspective on health: A review paper. (Received March 18, 2024; Reviewed June 25, 2024; Revised July 15, 2024; Accepted August 26, 2024), pp. 14–20.
45. Marcum, James A. 2012. An Introductory Philosophy of Medicine: Humanizing Modern Medicine. New York: Springer, pp. 101–102.
46. Loc- Cit.
47. Loc- Cit.
48. Ibid, p. 103.
49. Vasileiadis, Ioannis. Medicine, Epistemology and Constructional Paradoxes. Princeton University Press, 1995, p. 2.
50. Ibid, pp. 2–3.
51. Ibid, p. 3.
52. Ibid, pp. 3–4.
53. Ibid, p. 4.
54. Boniolo, Giovanni, and Raffaella Campaner. "What Philosophy for Medical Education? Theoretical Issues in Practice." Journal of History of Medicine and Medical Humanities 35, no. 1 (2023): 17–32, p. 1.
55. Ibid, p. 2.
56. Ibid, pp. 4–5.
57. Ibid, p. 18.
58. Veen, Mario, and Anna T. Cianciolo. 2020. "Problems No One Looked For: Philosophical Expeditions into Medical Education." Teaching and Learning in Medicine. https://doi.org/10.1080/10401334.2020.1748634, p. 5.
59. Loc- Cit.
60. Loc- Cit.
61. Hans- Martin Sass. “Bioethics: Its Philosophical Basis and Application.” Bulletin of PAHO 24(4), 1990, pp. 372–373.
62. Loc- Cit.
63. Anne Bruce and others. Understanding Philosophy in a Nurse’s World: What, Where and Why? Horizon Research Publishing, 2014, p. 68.
64. Ibid, p. 69.
65. Ibid, pp. 68–69.
66. Ibid, p. 69.
67. Loc- Cit.
68. Loc- Cit.
69. Loc- Cit.
70. Ibid, pp. 69–70.
71. Alfaro LeFevre, Rosalinda. “Critical Thinking and Clinical Reasoning.” In Critical Thinking, Clinical Reasoning, and Clinical Judgment: A Practical Approach, 7th ed., pp. 144–153. St. Louis, MO: Elsevier, 2019, p. 145.
72. Loc- Cit
73. Tessuto, Girolamo. English for Medicine: A Toolkit for Discourse and Genre- Based Approaches to ESP. Language, 2021, pp. 1–3.
74. Ibid, pp. 3–4.
75. Ibid, p. 5.
76. He, Z.- X., & Lang, J.- H. (2017). “Our thoughts on medicine and philosophy.” Chinese Medical Journal 130(3), 253, p. 254.
77. Chrousos, George P., et al. “The Role of Philosophy in Medical Practice.” Received July 22, 2019; Accepted August 26, 2019, p. 3215.
78. Borchers, Hannah. 2019. The Role of Compassion in Medical Ethics and Its Reintegration in Modern Practice. Liberty University, Spring 2019, p. 6.
79. Tessuto, Girolamo. English for Medicine: A Toolkit for Discourse and Genre- Based Approaches to ESP. Language, 2021, p. 6.
80. Loc- Cit.
81. Ibid, pp. 6–7.
82. Chrousos, George P., et al. “The Role of Philosophy in Medical Practice.” Received July 22, 2019; Accepted August 26, 2019, p. 3215.
83. Loc- Cit.
84. Thomasma, David C. 2003. “Theories of Medical Ethics: The Philosophical Structure.” In Military Medical Ethics, vol. 1, edited by Thomas E. Beam and Linette R. Sparacino, pp. 23–53. Washington, DC: Office of the Surgeon General; Borden Institute; Uniformed Services University of the Health Sciences, pp. 27–28.
85. Ibid, p. 34.
86. Hans- Martin Sass. “Bioethics: Its Philosophical Basis and Application.” Bulletin of PAHO 24(4), 1990, p. 373.
87. Ibid, pp. 375–376.
88. Sturmberg, Joachim P., and Sara Taher. “What We Mean By ‘Values in Healthcare’: The Importance of Reaching a Consensus.” Cureus 17, no. 2 (February 15, 2025): e79034, p. 2.
89- Marcum, James A. 2012. An Introductory Philosophy of Medicine: Humanizing Modern Medicine. New York: Springer, p. 114.
90- Ibid, p. 115.
91- Anthony Velladao. Technology from a Medical Perspective. Oxford Scholars, March 27, 2023, p. 1.
92- Thomasma, David C., Op- Cit, p. 4.
93- Anthony Velladao, Op- Cit, p. 3.
94- Mhatre, Saujanya Pradeep. “The Importance of Medical Technology in Next Few Years.” International Journal of Advanced Research in Science, Communication and Technology (IJARSCT) 3, no. 5 (June 2023), p. 679.
95- Jiménez- Ponce, Fiacro. "Artificial Intelligence in Medicine." Revista Médica del Hospital General de México, 2024, p. 39.
96- Jiménez- Ponce, Fiacro. "Artificial Intelligence in Medicine." Revista Médica del Hospital General de México, 2024, p. 39.
97- Jiménez- Ponce, Fiacro. "Artificial Intelligence in Medicine." Revista Médica del Hospital General de México, 2024, p. 40.
98- Quissanga, Fernando Cassinda, and Ataúlfo Malé Arsénio de Fontes Pereira. "The Future of Artificial Intelligence (AI) in Medicine." Biomedical Journal of Scientific & Technical Research, August 20, 2025, p. 161.
99- Ibid, p. 163.
100- Loc- Cit.
101- Veen, Mario, and Anna T. Cianciolo. 2020. "Problems No One Looked For: Philosophical Expeditions into Medical Education." Teaching and Learning in Medicine. https://doi.org/10.1080/10401334.2020.1748634, p. 6.
102- Hans- Martin Sass. “Bioethics: Its Philosophical Basis and Application.” Bulletin of PAHO 24(4), 1990, p. 372.
103- Loc- Cit.
104- Loc- Cit.
105- Chib, S., & Chib, S. “Metaphysics and its relation with medicines: A descriptive review.” International Journal of Innovative Science and Research Technology. ISSN 2456- 2165, p. 75.
106- Marcum, James A., Op- Cit, p. 2.
107- Pennacchin, M., and others. "A Brief History of the Quality of Life: Its Use in Medicine and in Philosophy." Medical Humanities Clin Ter 162, no. 3 (2011): e99–e103, p. 99.
108- Loc- Cit.
109- Ibid, p. 100.
110- Loc- Cit
111- Loc- Cit
112- Ibid, p. 101.
113- Loc- Cit.
114- Miguez- Pinto, João P., and others. "The Medical Student of the Future: Redefining Competencies in a Transformative Era." Frontiers in Medicine, June 16, 2025. https://doi.org/10.3389/fmed.2025.1593685, p. 2.
115- Ibid, p. 3.
116- Stegenga, Jacob. Philosophy of Medicine: Lower- Level Undergraduate Course, Sample Syllabus. Oxford University Press, 2011, p. 1.
117- Loc- Cit.
118- Melhem M., et al. “Teaching and learning medical humanities in medical school: a student’s perspective on Professional Practice curriculum in Australia.” Monash Bioethics Review, 2025. https://doi.org/10.1007/s40592- 025- 00258- x, p. 1.
119- Jenicek, Milos. How to Think in Medicine: Reasoning, Decision Making, and Communication in Health Sciences and Professions. London: Taylor & Francis, 2018, p. xiii.
120- Veen, Mario, and Anna T. Cianciolo. 2020. "Problems No One Looked For: Philosophical Expeditions into Medical Education." Teaching and Learning in Medicine. https://doi.org/10.1080/10401334.2020.1748634, pp. 6–7.
121- Miguez- Pinto, J. P., and others. “The Medical Student of the Future: Redefining Competencies in a Transformative Era.” Frontiers in Medicine, 16 June 2025. https://doi.org/10.3389/fmed.2025.1593685.
122- Kopelman, L. M. (1995). “Philosophy and medical education.” Academic Medicine, 70(9), 795–805. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/7669156/, pp. 798–800.
123- Lyon, W. (2021). “Virtue and medical ethics education.” Philosophy, Ethics, and Humanities in Medicine, 16, 12. https://peh- med.biomedcentral.com/articles/10.1186/s13010- 021- 00100- 2
124- Loc- Cit.
125- Loc- Cit.
126- Norman, Geoffrey. “Research in Clinical Reasoning: Past History and Current Trends.” Medical Education, 2005, p. 280.
127- Abilov, O`rol. "Logic and Its Significance for Medical Field." Web of Journals, Volume 1, Issue 8, November 2023, pp. 54–56.
128- Jenicek, Milos. How to Think in Medicine: Reasoning, Decision Making, and Communication in Health Sciences and Professions. London: Taylor & Francis, 2018, pp. 3–4.
129- Abilov, O`rol, Op- Cit, pp. 56–57.
130- Ibid, pp. 57–58.
131- Marcum, James A. 2012. An Introductory Philosophy of Medicine: Humanizing Modern Medicine. New York: Springer, pp. 103–104
132- Jenicek, Milos, Op- Cit, pp. 11–12.
133- Eva, Kevin W., & Norman, Geoffrey. “Advances in Clinical Reasoning.” Academic Medicine, 2007, p. 100.
134- Elstein, Arthur. “Clinical Reasoning in Medicine.” In Clinical Reasoning in the Health Professions, 3rd ed., 2007, pp. 99–101.
135- Kassirer, Jerome. “Teaching Clinical Reasoning: Bayesian Logic and Diagnostic Errors.” New England Journal of Medicine, 2010, p. 185.
136- Gigerenzer, Gerd. Calculated Risks: How to Know When Numbers Deceive You. Penguin, 2003, pp. 70–75.
137- Sackett, David, et al. Evidence- Based Medicine: How to Practice and Teach It. Churchill Livingstone, 2000, p. 21.
See Also:
- Guyatt, Gordon, et al. User’s Guide to the Medical Literature. JAMA Press, 2015, pp. 3–4.
138- Friedman, Charles, et al. Fundamentals of Clinical Data Science. Springer, 2019, pp. 40–42.
See Also:
- Rothman, Kenneth. Epidemiology: An Introduction. Oxford University Press, 2012, pp. 18–19.
139- Hill, A. Bradford. “The Environment and Disease: Association or Causation?” Proceedings of the Royal Society of Medicine, 1965, p. 299.
140- Berner, Eta. Clinical Decision Support Systems: Theory and Practice. Springer, 2016.





