أقلام فكرية

محمد الهادي حاجي: التغير الاجتماعي في علم الاجتماع

يعتبر التغير الاجتماعي من الخصائص التي ارتبطت بالظواهر الإنسانية إذ لا وجود لمجتمع ثابت مهما كانت درجة بدائيته، لذلك فإن الباحث في دراسة الظاهرة الاجتماعية يلاحظ كيف تتغير القيم من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر، بل في المجتمع نفسه، فمثلا خروج المرأة للعمل والذي كان يُعد خروجا عمّا هو مألوف أصبح الآن أمرا طبيعيا، ولم يقتصر التغيّر على النواحي الاجتماعية فقط، وإنما تخطاها إلى أساليب الإنتاج واستعمال التكنولوجيا الحديثة عوضا عن اليد العاملة.

بناء على ذلك يدل مفهوم التغير الاجتماعي على التبدّل الذي يطرأ البنيات في فترة زمنية محددة على الأبعاد الاجتماعية زمني ، وما يعني وجود قوى اجتماعية تدفع أو تسهم في حدوث هذا التغير في اتجاه معين وبدرجات متفاوتة الشدة (1)، وهو قد يطال بناء المجتمع بأسره، كما هو الحال في الثورات، كما قد ينحصر في حقل معين أو نظام اجتماعي خاص مثل الأسرة، الدّين، السياسة... ويعرّف معجم العلوم الاجتماعية التغير الاجتماعي على "أنه كل تحوّل يقع في التنظيم الاجتماعي سواء في بنائه أو في وظائفه خلال فترة زمنية معينة ويشمل ذلك كل تغير في التركيب السكاني للمجتمع أو في بنائه الطبقي ونظمه الاجتماعية أو في أنماط العلاقات الاجتماعية أو في القيم والمعايير التي تؤثر في سلوك الأفراد والتي تحدد مكانهم وأدوارهم في مختلف التنظيمات الاجتماعية التي ينتمون إليها (2)

و يميز علماء الاجتماع بين التغيّر الاجتماعي والتغير الثقافي، فالأول يطرأ على العلاقات بينما الثاني يعتري القيم والمعتقدات والرموز السائدة في المجتمع (3). غير أنه تطبيقيا يصعب الفصل بين نمطي التغيّر، إذ التغير الثقافي يسببه أشخاص أو مجموعة، هم جزء من البناء الاجتماعي، كما أن للتغير الاجتماعي مكونات ثقافية مهمة في تحديده، ومع ذلك فإنه يمكن فصل بعض التغيرات الثقافية كالتي لها علاقة باللغة والفن والفلسفة، عن السلوك الاجتماعي.

ويمكن القول في هذا السياق أن تبني مصطلح التغير الاجتماعي من قبل علماء الاجتماع كان للتدليل على صور التباين التاريخي في المجتمع، وقد ساهم في رواج هذا المصطلح كتاب "التغير الاجتماعي" لمؤلفه ويليام اجبرن، عام 1922، الذي بين فيه دور العناصر البيولوجية والثقافية في حدوث التغير الاجتماعي، وطرح فرضية "الهوة الثقافية" وما يسمى بالثقافة التكيفية، وهو التغير الذي يطرأ على جزء من الثقافة اللامادية ويصبح مصدرا للضغط والصراع (4). وقد اختلف علماء الاجتماع حول مفهوم التغير الاجتماعي بين من اعتبره بديلا محايدا عن فكرة التقدم ومن اعتبره تغيرا في البناء الاجتماعي وحجم المجتمع والتوازن بين أجزائه أو نمط التنظيم (Ginsberg) ويرى آخرون أنّه تعديل يحدث في المعاني والقيم التي تنشر في المجتمع أو في جماعاته النوعية (Ross) .(5) ويمكن في هذا السياق تعريف التغير الاجتماعي بأنه تبدل في النظم والأجهزة الاجتماعية من الناحية البنائية والوظيفية خلال مدة زمنية محددة.(6)، ويتجلى التغير الاجتماعي في كل تمظهرات الحياة الاجتماعية، مما جعل بعض علماء الاجتماع يقولون بأن المجتمعات هي وعاء بجملة تفاعلات وعمليات اجتماعية في تغير وتفاعل متواصلين أما الركود أو الجمود في أي مستوى من مستويات الحياة الاجتماعية فأمر لا يمكن التسليم به، إذ المجتمعات المختلفة منذ نشأتها الأولى كانت تتغير  كما لا ينحصر التغير الاجتماعي في حقل من الحقول الاجتماعية وإذا بدأ فمن الصعب إيقافه، نظرا لما بين النظر الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي الشامل من ترابط وتفاعل وظيفي ضمن ما يسمى في علم الاجتماع بالأنساق الاجتماعية (7).

وفي بحثنا في مفهوم التغير الاجتماعي يمكن التسليم بمقولة أن "التغير هو قانون مجتمعاتنا" (8)، وأي نظرة للمجتمع تدل على أنه تغير لا يهدأ وهو لا ينفي استقرار المجتمع وثباته، بل أن حقيقة البناء الاجتماعي هي ضمن مفارقة الثابت والمتحول في آن واحد.

ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن الأبحاث والدراسات حول مفهوم التغير قد مثلت تقليدا في علم الاجتماع قد عرفته عديد الثقافات والمجتمعات فآبن خلدون قد حلل وأشار إلى العناصر المؤثرة في عملية التغير عندما ركز على المجتمع العربي البدوي ذي النعرة العصبية القوية والذي يقوم على الفلح والحيوان في معاشه، وهؤلاء البدو تدعوهم الضرورة "ولا بد إلى البدو لأنه متسع لما لا يتسع له الحواضر، ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفاه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، وتعانوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر" (9)، يرى ابن خلدون  أن المجتمعات تمر بمراحل تبدأ بالطفولة ثم مرحلة الشباب والنضج، ثم مرحلة الشيخوخة وهذا تغيّر دائري، يُرجع المجتمع من حيث بدأ فهو تحول من البداوة البسيطة إلى الحضارية المعقدة، هو حصيلة أساسية لتغيير موارد معاشية بدائية إلى أخرى تتميز بالثراء والترف والتأنق ومعقدة الطّبيعة (10).

و في هذا الإطار يرى بعض علماء الاجتماع على غرار ماكس فيبر أن التغير الحقيقي في المجتمع، هو تغيّر في نسق القيم عند ربطه بين الدين والرأسمالية، بينما يرى البعض الآخر أن تعدد العناصر مجتمعة هو الذي يحدث التغيّر وذلك من خلال المزج بين العناصر المادية واللامادية. (11) ويذهب "أندرسون" إلى أن تقبّل التغيّر الاجتماعي مرتبط بعناصر أساسية أهمّها: الحاجة إلى التغيّر بمعنى أن يكون المجتمع في حاجة ماسّة إلى التغير، أي في وضع تقبله، عند وجود وعي بأنه ضروري لتحقيق جملة من الأهداف بنجاعة وفاعلية ثمالتوسع في الإشباع إذا كان التغيّر أقدم وأعمق من العوامل القديمة على إشباع الحاجيات المادية والمعنوية والنفع والفائدة عند القبول الطوعي والتلقائي للتغير وبسهولة هو مؤشر على حصول المنفعة وتلبية الحاجيات.

كما يعرف التغيّر الاجتماعي بأنه "التغيّرات التي تحدث في التنظيم الاجتماعي أي في بناء المجتمع ووظائف هذا البناء المتعددة والمختلفة" (12). وهو ما يدل على أن التغير الاجتماعي تأتي على عدة أشكال منها التغير في القيم الاجتماعية، والتي تؤثر بطريقة مباشرة في مضمون الأدوار الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي والتغير في النظام الاجتماعي، أي في الأدوار والمراكز، فهو "ظاهرة تخضع لها نواميس الكون وشؤون الحياة من خلال التفاعلات والعلاقات والتبادلات الاجتماعية المستمرة والتي تفضي إلى تغير دائم" (13)، ويذهب (جنزبيرج) إلى أن التغيّر الاجتماعي "هو كل تغيّر يطرأ على البناء الاجتماعي في الكل والجزء، وفي شكل النظام الاجتماعي، ولهذا فإن الأفراد يمارسون أدوارا اجتماعية مختلفة عن تلك التي كانوا يمارسونها خلال حقبة من الزمن" (14)، ويعرّف "جي روشي" التغيّر بأنه كل تحوّل في البناء الاجتماعي يلاحظ في الزمن لا يكون مؤقتا سريع الزوال لدى فئات واسعة من المجتمع ويغير مسار حياتها (15) كما يعرّف التغيّر بكونه عملية اضطرارية ومستمرة للتحوّل أو التعديلات التي تطرأ على أنساق العلاقات الاجتماعية (16). ويعتبر "ميلز" أن التغيّر الاجتماعي هو التحول الذي يطرأ على النظم الاجتماعية، وقواعد الضبط الاجتماعي التي يتضمنها البناء الاجتماعي في مدة معينة من الزمن ، ولا يعني التغيّر أنه دائما للأفضل فقد يكون للأسوأ، وماهو سلبي لمجتمع معين قد يكون إيجابيا لآخر، لأن التغيّر ليس واحدا أو خطيا وأداتيا يعتمد نفس التوجهات والوسائل، ويكون نتيجة عوامل داخلية متراكمة عبر التاريخ الاجتماعي وعوامل أخرى قد تكون خارجية (17) بفعل التفاعل مع مجتمعات أخرى وهي عناصر داخلية وخارجية متفاعلة ومتداخلة تضع هذا التغيّر (18)، الممتدة في مرحلة زمنية معينة (19)

 ***

د. محمد الهادي حاجي - تونس

...................................................

(1) الحسيني (السيد)، مفاهيم علم الاجتماع، دار قطري بن الفجاءة الدوحة، الطبعة الثانية، 1987، ص 23.

(2) بدوي (أحمد)، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان بيروت 1978، ص 382

(3) سعد عبد الحميد (محمود)، دراسات في علم الاجتماع الثقافي التغير والحضارة، مكتبة نهضة الشرق ، القاهرة 1982 ص 41.

(4)سعد عبد الحميد (محمود)، دراسات في علم الاجتماع الثقافي التغير والحضارة، مكتبة نهضة الشرق ، القاهرة 1982 ص 63.

(5) الجوهري (محمد) وآخرون، التغير الاجتماعي، دار المعرفة الجامعية الاسكندرية، 1995 ص 42.

(6) غيث (محمد عاطف)، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية 1988 ص 414.

(7) الجوهري(محمد)، وآخرون، التغير الاجتماعي، مرجع سابق، ص 42.

(8) Aubin (F), "Anthropologie du Nomadisme", in cahiers de sociologie V-I vi, 1974. P 83.

(9)ابن خلدون (عبد الرحمان)، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، الكتاب الأول، المقدمة، دار التراث العربي، بيروت، الطبعة 4، ص 38.

(10) الذوادي (محمود)، أضواء جديدة على محددات العقل العمراني الخلدوني، مركز النشر الجامعي، تونس 2003، ص 208.

(11) الجوهري (محمد) وآخرون، التغير الاجتماعي، مرجع سابق، ص 56.

(12) غيث (محمد عاطف)، التغيّر الاجتماعي والتخطيط، دار المعارف، الطبعة الثانية، القاهرة، 1966، ص 25.

(13) العسل (إبراهيم)، الأسس النظرية والأساليب التطبيقية في علم الاجتماع، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1997، ص 75.

(14) النكلاوي (أحمد)، التغيّر والبناء الاجتماعي، مكتبة القاهرة الحديثة، 1968، ص 8.

(15) Rocher (Guy), le changement social, introduction à la sociologie générale, éd H.M.H. Paris 1968, p19.

(16) السيد عبد العاطي (السيد)، المجتمع والثقافة والشخصية، دار المعارف الجامعية، القاهرة، (لا- ت)، ص 83.

(17) السعيداني (منير)، مقدمات في علم الاجتماع الهوية، مكتبة علاء الدين، صفاقس، كلية العلوم الإنسانية أفريل 2005، ص 152.

(18) (جماعي)، المجتمع والدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1988، ص 39.

(19) غيث (محمد عاطف)، علم الاجتماع، النظم والتغير والمشاكل، الجزء2، دار المعارف الإسكندرية، (لا- ت)، ص 191.

 

في المثقف اليوم