اخترنا لكم
محمد البشاري: سوق المعاني.. كيف تُباع الهويات بلا وعي؟

في زمن فقدت فيه الأشياء معناها، وأصبحت القيم تُقاس بعدد المتابعين، واللغة تُختزل في شعارات سطحية، نخوض حرباً صامتة، ليست على المال ولا على الأرض، بل على أعمق ما يشكّلنا: هويتنا. لم تعد هذه الهوية تُستهدف بوضوح، كما في عصور الاستعمار المباشر، بل تُستنزف تدريجياً تحت غطاء العولمة من جهة، وعبر استيراد نماذج فكرية متصلّبة تُلبّس بلبوس الأصالة من جهة أخرى. وبين هذين القطبين، ينشأ الفراغ الذي تذوب فيه الشعوب وتتحول إلى كتل بشرية بلا ذاكرة ولا ملامح.
إن أخطر أشكال التزييف اليوم لا يتم في الأوراق النقدية، بل في المفاهيم، في اللغة، في الرمز. وكما أن تزوير العملة يُفقد الاقتصاد استقرارَه، فإن تزوير الهوية يُفقد الإنسان قدرته على إدراك نفسه وحدود عالمه. تُلقى في أسواق الفكر رموز جديدة مصنوعة في مختبرات العولمة: لغة هجينة، ذوق مسطح، أخلاق نفعية، ولاء للمظهر بدل الجوهر.. إلخ، ومعها يتسلل استهلاك صامت لقيم لم ننتجها، ولم نعِها، ولكننا نتماهى معها تحت إغواء الحداثة.
تزييف الهوية لا يكون دائماً مفروضاً من الخارج، بل أحياناً نحن مَن نستدرجه بأيدينا، حين نستورد خطاباً دينياً أو أيديولوجياً يُعيد تقسيم المجتمع إلى حق وباطل، إلى نحن وهم، ويزرع في الوعي ثنائياتٍ زائفةً: مَن معنا ومَن ضدنا، مَن يدخل الجنة ومَن يُقصى منها! باسم الدين أو التراث أو النقاء، تُعاد صياغة مجتمعاتنا وفق خرائط لا تراعي تنوعها، ولا تعترف بتاريخها الحقيقي، بل تفرض سرديات تُنتج العنف والإقصاء.بين هذا وذاك، يتحول الإنسان إلى كائن متردد الهوية: يتحدث لغة لا يُتقنها، ويمارس طقوساً لا يفهمها، ويعتنق مفاهيم لا تُشبه بيئتَه. فيعيش اغتراباً مضاعفاً: اغتراب عن العالم الذي يُفرَض عليه، واغتراب عن ذاته التي لم تُمنح فرصةَ التعبير الحقيقي. تتحول هويته إلى بطاقة افتراضية، شعار على الشاشة، صورة مستعارة من إعلان أو ماركة تجارية. وما يُنتجه هذا من هشاشة نفسية وسلوكية يجعل المجتمعات أكثر قابلية للاختراق، وأكثر عجزاً عن مقاومة التذويب.
والأخطر من التزييف هو القبول به.. حين يصبح التضخم في المعاني كما في النقود: كلماتٌ تُستعمل بلا مدلول، شعاراتٌ تُرفع بلا ممارسة، رموزٌ تُقدَّس بلا وعي. هذه الهشاشة الرمزية تُسهم في انهيار البنية الثقافية، كما يسهم التزوير النقدي في إفلاس الدول. والنتيجة واحدة: فقدان الثقة، سواء في الذات أم في المستقبل.
مقاومة هذا الفقد لا تكون بالشعارات، بل بإعادة تأسيس العلاقة بين الفرد ومعناه. لا بد من مشروع ثقافي يعيد للغة قيمتَها، للتاريخ مكانته، وللرمز قدسيتَه.. مشروع لا يكتفي بمواجهة العولمة، بل يعيد بناء الذات من الداخل، عبر تعليم يعمّق الانتماء، وإعلام يصون الذاكرة، ومؤسسات تحمي الهوية كما تحمي العملة الوطنية من التزوير. وكما لا تقبل الدول بعملة مزيفة تتداول في أسواقها، لا ينبغي لها أن تقبل بهوية مزيفة يتداولها أبناؤها.
إن معركة الهوية معركة وجود، لا تقبل الحياد ولا تؤجل إلى الغد. إما أن نكون شعوباً تعرف مَن هي، وإلى أين تمضي، أو نصير سوقاً رمزية مفتوحة لكل بضاعة فكرية أو ثقافية عابرة. ومَن لا يحمي هويته، يُنتزع منه المعنى، ويُصبح رقماً في سردية غيره. هكذا فقط نفهم أن الحرب الصامتة ليست بين دول، بل بين من يعرف معناه، ومن يُصادر منه هذا المعنى كل يوم، بهدوء وبلا ضجيج.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 22 يوليو 2025 23:42