شهادات ومذكرات

نبيه القاسم: في الذكرى السّابعة عشرة لرحيل محمود درويش

نعود في هذه الأيام العَصيبة لنُرافقه ونسمعه عندما أعلن بألم: وداعا أيتها الحرب وداعا أيها السلام

لا أعتقد أنّه وجد أو يمكن أن يوجد، عبر التاريخ الطويل، الماضي والحاضر والآتي، مثل هذا التوحّد الكامل الذي يجمع الوطن الفلسطيني بالقضيّة الفلسطينيّة بالإنسان الفلسطيني.

  شعوب كثيرة ضحّت في سبيل حريتها واستقلالها ومستقبلها، ورجال ماتوا في سبيل تحرير وطنهم وكرامته، وأنّ قضايا شعوب استحوذت على اهتمام العالم، ولكن مثل هذا التوحّد الفلسطيني لم يوجد ولن يوجد.

فمثل هذه الخصوصيّة للوطن الفلسطيني وللقضيّة الفلسطينيّة وللإنسان الفلسطيني لا مثيل لها. فاذا سلب الوطن انتفض الانسان وتوهجت القضية، وإذا تعثّرت القضيّة تحرّك الوطن وزمجر الانسان، وإذا مات الانسان سرعان ما يستعيد الوطن صورته في زنبقة فوق ربوة وأنشودة تُردّدها البلابل.

هذه الخصوصيّة الفلسطينية التي لا مثيل لها يرسمها محمود درويش في كتابه الرائع (وداعا أيّتها الحرب وداعا أيّها السّلام).

محمود درويش في نثره كما هو في شعره فنان مُبدع يعرف كيف ينتقي اللفظة والحركة وكيف يسحبنا معه في رحلة طويلة قصيرة يعيشنا في نشوة اللاوعي، يشدّنا إليه بعنف رقيق ننقادُ إليه في طواعية لا إراديّة، نرحل ونرحل، ثم يعود بنا، ورغم الجهد والمشقّة والخوف إلا أنّنا نتمنى لو نبدأ الرحلة معه من جديد.

محمود في رائعته هذه لا يكتب نثراً ولا ينسج شعراً وإنما هو يروي ملحمة يلتقي فيها الشعر مع النثر، ملحمة تؤكّد الخصوصيّة الفلسطينيّة، ملحمة كتب أجزاءها كما قال في مراحل «الانتظار والانفجار والانتظار العائد».

يبدأ محمود درويش ملحمته بالفصل الأوّل، وهو عبارة عن قصيدة رثاء أو صرخة ألم مُتحدٍّ أو مراجعة حساب. سمّها كما شئت، يُخصصها لأبطال فلسطين الذين سقطوا شهداء.

يأخذنا محمود في هذا الفصل في رحلة عذاب ويقظة ووعيّ يُجسّد لنا خلالها رحلة المُعذّب الفلسطيني منذ اليوم الأوّل الذي لوحت فيه رياح الضياع والغربة والتشريد، ويصوّر لنا كيف أنّ الاقتلاع الشرس من الأرض والبيت، والتوزيع الهمجي للشعب الفلسطيني في كلّ جهات الأرض، والخيمة الحزينة التي نصبوها له لتكون بيته، كل هذه لم تستطع أن تنسي الفلسطيني وطنه وتنزع منه انتماءه وتُبعده عن جذوره. هذا الانسان الفلسطيني الذي لا ينسى ولا يغفر تحوّل الوطن عنده إلى خارطة حبيبة يرسمها ويُعيد تشكيلها، وإذا ما تكاملت تشكلت صخورا قويّة تؤكّد الانتماء والتجذير، وإذا ما نسفوا الصخرة تحوّلت إلى فكرة يستحيل على كلّ الجرافات والبلدوزرات والمتفجرات أن تؤثر فيها، فالوطن لم يعد ذلك البيت البعيد الذي يحتفظ بمفتاح بابه أو الذكريات البعيدة المتقطعة أو الحلم الذي قد يتحقّق، وإنما تحوّل الوطن إلى حقيقة واقعة يحملها كل فلسطيني ولا يمكن الفصل بينهما إلا بفصل البحر عن الدم.

وإذا كانت الرصاصة قد أزاحت الستار الذي فصل بين الفلسطيني والوطن وحوّلت هذا الوطن الماديّ البعيد إلى فكرة محسوسة تسكن كلّ فلسطيني وتتوحَّد به، فانّ غسّان كنفاني في حياته وموته كان الدافع نحو تجسّد هذه الفكرة - الوطن إلى واقع ماديّ ملموس يفرض على الفلسطيني حتى يحقّقه أن يُعانق الوطن ويتوحّد معه ويدرك أنّ موته لن يكون طبيعيًا كما يموت كل الناس.

الفلسطيني لا يكون فلسطينيًا إلّا في حضرة الموت.. وفي حضرة الموت يتحقّق التّطابق النهائي بينه وبين الوطن، وعندها فقط، حين تزول الفوارق بين الأجساد وبين الأوطان ويصير الكل في كيس واحد تنزل العودة من الأناشيد الرديئة إلى البندقيّة الجيّدة.. عندها تتجسد الفكرة في واقع ماديّ حقيقيّ يسعى نحوه الانسان الفلسطيني بكل ثقة وإصرار.

موت غسان كنفاني أكد لنا أنّ الذاكرة والخارطة والأغاني لا تحوّل المنفى إلى وطن، وإنّما تدفعنا لنُخرج الثورة من رحم الفكرة والأحلام والأناشيد لدخول مرحلة التحوّل، وهذا الخروج بالثورة من رحم الفكرة إلى مرحلة التحوّل جعل كل فلسطيني يحسّ بأنّه حامل بالموت.

لقد كان كمال ناصر يُصرّ دائما أنّه حامل بالموت ويُعلن بحزن أنّه ضيَّع زمان الشعر وأنّه لم يُنجز شيئا حتى الآن.. لكن مسحة الحزن هذه هي سِمات حلّ تائر يتلاقى عنده الواقع والحلم.

كان كمال ناصر يرى أنّ فلسطين على أهبّة الرحيل من القضيّة إلى الوصول، ومن البندقيّة إلى المحراث. كان يسكن تفاصيل الواقع وجوهر الحلم، لهذا كان دائم الاحساس بالخسارة والاحباط ودائم القناعة بالوصول والتجلّي.

وكما كانت الرصاصة موقظة للإنسان الفلسطيني وموحدة له مع الوطن الضائع على شكل فكرة لا يمكن الفصل بينهما، وحياة وموت غسان كنفاني دافعا لإخراج الثورة والوطن من رحم الفكرة إلى مرحلة التحوّل ومعانقة الموت، فان موت كمال ناصر ورفاقه محمد يوسف النجار وكمال عدوان يُعلن بداية السير في الطريق نحو تحقيق الهدف، ونحو الشهادة.

بهذه الروعة استطاع محمود درويش أن يصوّر لنا هذا التوحّد بين الوطن والانسان ويرسم مراحل اليقظة والوعي والتحرّك التي عبَرتها الثورة الفلسطينية متمثلة في شهدائها غسان كنفاني وكمال ناصر وغيرهما.

حرب عام ١٩٧٣ وماذا تعني للعرب واليهود

يخصص محمود درويش الفصل الثاني من كتابه لحرب عام ١٩٧٣ وماذا كانت هذه الحرب تعني لكل من العرب والفلسطينيين واليهود سكان إسرائيل، والعالم أجمع.

قد يفاجأ القارئ هنا وهو يشهد حماس محمود الشديد لهذه الحرب وفعاليتها وماذا تعنيه، ولكننا حتى ننصف محمودا ونقف على الدافع لهذه اللهفة والدهشة علينا أن نعود إلى كتاباته في (يوميات الحزن العادي) حيث يرسم لنا حزن الانسان العربي وتمزّقه وشعوره بالخذلان والانكسار بُعَيد حزيران عام ١٩٦٧، وعندها فقط ندرك لماذا كانت هذه اللهفة وهذه الفرحة بهذه الحرب.

يبدأ الشاعر كلامه بتصوير فرحة الانسان العربي بانفجار هذه الحرب ومن ثمّ مفاجأة العالم بما يعمله العرب، فقد اعتاد العالم على صمت العرب وانكسارهم واهمالهم، وها هم الآن يعلنون حضورهم وهذا ما يفاجئ العالم.

بعد ذلك يأخذ محمود بلغة نثرية شاعرية بتصوير وقع هذه الحرب على كل من العرب واليهود. وتكون المقارنة الرائعة التي يُحاول بها تكسير مفاهيم سادت وتجذير أخرى لم تكن.

فبالنسبة للعربي كانت هذه الحرب إعلان حضور على خريطة العالم، واشعال ثورة وطرد الغريب هو طرد الاغتراب عن الوطن، فالحرب قد لا تُحقّق الحلم بالسعادة والعدل والمساواة، ولكنّها حققت الكثير، فقد حقّقنا بالحرب انتصارنا على ذاتنا وأفكارنا..

فالحرب حرّرت ذواتنا من الاحتلال المعنوي ومن التسكع على أرصفة الحياة، والنصر الأكبر الذي حقّقناه بهذه الحرب هو تحرير الذات والارادة، وهذا التحرير هو الأساس لتحرير الأرض والقرار ببدء الحرب، وإطلاق النار هو الذي أدى إلى استرجاعنا لشرفنا الانساني من مَهانة ربع القرن.

الحرب التي خاضها العربي كانت تجربة ضرورية لاختبار معدن هذا الانسان العربي الذي لم يُمارس اختباره منذ مدة طويلة فكان يتوحد في الشك.. وإطالة الحرب لا يخيف العربي، بل على العكس.. فان تطول الحرب معناه أن تكتمل عملية التحقّق من أصالة هذا المعدن، وأن تنضج عمليّة صهر الانسان العربي في قيم مختلفة وقناعات جديدة.

بعد هذا الحشد الزخم لأثر الحرب على العرب يروح محمود درويش في تفصيل معنى الحرب نفسها بالنسبة لليهودي.. هذا الذي عاش طوال حياته الماضية مُستَعبَدا للوهم والأسطورة وللرعب من المستقبل الآتي إنْ لم يُحافظ على قوته أمام عدوّه.

أوّل ما فعلت هذه الحرب أنْ حطّمت الخرافة التي عاش في ظلّها.. فقد حكمت الصهيونية بمفاهيمها العنصرية على اليهودي أن يعيش في ظلّ الخرافة وأن يربط مستقبله بالخرافة ويُقلّد الخرافة وينتمي للخرافة ويُراهن بالخرافة ويُعيد التاريخ إلى الوراء ليكرّر نفسه.. وجاءت هذه الحرب لتحطم له هذا التواصل بين الحاضر والماضي البعيد.. ولتؤكّد له وَهْم الماضي الذي بنى عليه وجوده ليكتشف وَهمَ حاضره ومستقبله.

لقد عيّشت الصهيونية كل يهودي في ظلّ الوهم بالقوّة.. فأحيت في شرايين كل فرد «مَتسادة".. وجعلته يعيش في كابوس الرعب والقلق الذي تُذكّره به أسطورة (متسادة) وأن يعمل حتى يمنع سقوط «متسادة" ثانية ولا يتم له ذلك إلّا بالقوّة،

(فمتسادة لن تسقط مرّة أخرى.. متسادة لن تسقط) هكذا راح كل يهودي يهتف، وهكذا آمن وعمل لتحقيق ذلك فخلقت الصهيونية من الدولة الجديدة متسادة ثانية ومن الشعب اليهودي شعبا اسبارطيا مُحاربا يعيش في وهْم القوة والقهر وإذلال الآخرين ويؤمن أن وجوده آمن طالما هو يطمس وجود الغير، ولن يتحقق ذلك إلّا بالقوة.. وهذه المفاهيم جعلتهم يفتقدون للمشاعر الانسانية.

كما أسقطت هذه الحرب الحليف الدائم للإسرائيلي وهو الزمن.. فقد اعتمد الإسرائيليون في حروبهم السابقة على الضربة الخاطفة والحرب القصيرة وكسب الانتصار الساحق بسرعة، لكن هذه الحرب طالت وأظهرت عجز الإسرائيلي على الصمود لمدة طويلة، وأثبتت للعرب مدى أهميّة إطالة مدى الحرب واكتساب الزمن لصالحهم.

لقد أعادت هذه الحرب الإسرائيليين إلى واقعهم وحجمهم بعد ذلك العَمى الذي سيطر عليهم وجعلهم يُؤمنون بأنّ القدر يُدلّلهم حتى باتوا يؤمنون بالخرافات والسحر.. فمثلا طائرة الفانتوم حين تحمل نجمة داود تشكل ضمانا أبديّا لأمنهم. واحتلالهم لحائط المبكى مثل لهم حيويّة الأسطورة القديمة.. وهكذا عاشوا بالخرافة وآمنوا بالسحر ونسوا ما كانوا يطمحون لتحقيقه بمجيئهم إلى هذا الشرق، حيث طمحوا إلى تشكيل قومية جديدة ذات تقاليد ثقافية مختلفة تُشكّل تفرّدا في هذا الشرق المتخلّف، لكنهم استبدلوا هذا المطمح باتخاذ العنف والارهاب طريقا لهم وراحوا يثبتون بطلان مفعول التاريخ وزاد الغرور عند الفرد الإسرائيلي حتى آمنوا بأنّ مجرّد وجود «موشي ديّان" كفيل بتحقيق النصر.

ورغم التحذيرات التي أطلقها الكثيرون من مفكري الإسرائيليين فان صوت القوّة والتعالي والغرور ظلّ هو الأقوى حتى كانت هذه الحرب وقضت على الغرور وشكّكت بالقناعة وعيّشت الخوف المُصطنَع الذي عيْشت فيه الصهيونية الإسرائيليين بقصد التوحّد والتكتّل ضدّ العدو الواحد الذي هو العرب.. هذا الخوف الذي جعل الإسرائيلي يؤمن بالقوة فقط.

حرب ١٩٧٣ ودور الفلسطيني فيها

كثيرا ما تساءل الذين يسميهم محمود درويش " أصحاب الأناقة الوطنيّة» عن دور الفلسطيني في هذه الحرب؟ وأصحاب الأناقة هؤلاء هم الذين يُكرّرون دائما أنّ حروب العرب ودمار بلاد العرب وانكسار جيوش العرب وضياع بترول العرب وحاضر ومستقبل العرب.. كل هذا بسبب الفلسطينيين.. فتتكالب الأنظمة الرجعيّة لتحل مشاكلها وعقدها على حساب هدر الدماء الفلسطينية وتوجيه النقمة الجماهيرية ضدّ الفلسطيني أينما كان.

هذا كان ولا يزال موقف «أصحاب الأناقة الوطنية» من الفلسطيني وقضيته. ويجد شاعرنا محمود درويش نفسه أمام هذا الاتّهام من أصحاب الأناقة الوطنية أنفسهم وتشكيكهم بدور الفلسطيني في الحرب.. فيروح ليُخرس السنتهم بتأكيد الحقيقة الساطعة وهي أنّ المقاوم الفلسطيني لم يتوقف يوما عن القتال ليُعلن الحرب الآن، فهو في حالة حرب دائمة. ينفجّر ويُفجّر ويستأنف الثورة التي لم تتوقف يوما. المقاوم الفلسطيني والمعركة الدائمة أمس واليوم وغداً، فهو حاضر في كل ومضة نار.. وهو لم يكفّ عن مُناشدة الآخرين لخوض المعركة، ولم يكن خلافه مع أحد من العرب إلا بسبب اندفاعه ومحاولة رفعه الآخرين إلى فتح المعركة المنشودة، فبهذه الحرب يُحقّق الفلسطيني ذاته المُتجددة.. ينمي حياته التي تعرّضت للاغتيال وفي أيام الهدوء النسبي كان الفلسطيني وحده الذي يُشكّل خللاً في معادلة الأمن الإسرائيلي. كان المحرّض والقلق والنموذج الذي حوّل الهزيمة عام ١٩٦٧ إلى حافز للرفض والتصدّي والتحدّي من أن تصير حالة.. كان رمزا يحمي روح الأمة من الخمول وكان واقعا يجعلها تضغط وتعد بالتضحية من أجل المعركة.. وضياع الفلسطيني المقاوم في الصورة الآن تعبير عن تعريب فلسطين وفَلَسطنة العروبة.. فهو يسكن قبضة النار.. وهو مُنطلق كالريح الخصبة في كل بقعة من الأرض.. إنّه الشرارة التي لم تنطفئ أبداً.

ويبقى بعد كل ذلك مَن يسأل: أين المقاوم الفلسطيني من هذه الحرب؟؟

خيبة الأمل ممّا انتهت إليه حرب ١٩٧٣ ولكن..

يصل بنا محمود درويش بعد تلك الدهشة واللهفة التي صوّرها في الفصل الثاني بانفجار حرب ١٩٧٣ إلى الفصل الثالث من كتابه ليُطلعنا على ما أصابه من خيبة أمل بسبب توقف هذه الحرب كما توقفت، وبما آلت إليه من (نصف معركة ونصف هزيمة ونصف انتصار) ولأنّها لم تحقّق للعربي ما أمل من سلام حقيقي وحريّة وتحرير.

وقف محمود عاجزا عن تفسير ما حدث.. فلكل شيء سبب إلّا هزيمة العرب. فالحرب التي ظنّها العربي توصله إلى الدرب توقفت.. لماذا؟ لا يعرف.. الذي يعرفه أنّ الحرب هاجرت.. أو وُضِعت في زنزانة يحرسها الخصمان.. وأنّه أضاع السلام.. والسلام لا يولد إلّا من نهاية الحرب. وهكذا يفقد العربي أمله، ويهرب وطن الفلسطيني من ثقب الباب إلى مستقبل مجهول يلفّه الظلام.

ويعود الانسان العربي من جديد ليعاني عسف السلطان.. وحرب العدو النفسية، فيصرخ محمود بلسان كل عربي:

- لا يحرسون لساني ولكنّهم يستسيغون حراسة قلبي .. والحرب تدور في شوارع قلبي وأوردتي وسوف تنفجر.

ويتعذّب انساننا العربي أكثر وهو يرى حلمه يذوب ويبتعد ويتساءل بألم:

- أما آن للفكرة أن تسكن صخرة ؟ وللدم أنْ يتحوّل إلى سنبلة !

وللوطن أن يترجّل عن صليبه وعن تجريدي! وأن يصير وطنا عاديًا وبسيطا ومُملا ككل البلدان.. وأن يكون تقليدا يوميا، لا إبداعيا شعريا وشيئا قابلا للمُلامسة..

وبعذاب أشدّ يعترف محمود درويش بواقع الفلسطيني وسط هذا العالم العربي قائلا:

- من أجل هذا تكون الحرب .. ومن أجل هذا يكون الموت. ونحن لا ننفق العمر كله ونهدر الحلم والرؤيا إلا من أجل خيبة أمل واقعيّة واحدة.. ومن أجل صدمة على حجر ومن أجل أن نعرف كل العذاب إلّا عذاب النَّدم.

ورغم مشاعر اليأس والحزن وخيبة الأمل وهروب الوطن من ثقب الباب وعودة الحاكم إلى كمّ الأفواه ووأد الحريّات وسجن الأحرار وموافقة العدو على محاصرة الحرب ومنع تكرارها لتكون هذه الحرب آخر الحروب.. رغم كل ذلك.. فان محمود درويش يروح يسخر من الحكام وأعمالهم وبطولاتهم الزائفة وفلسفاتهم وتهريجاتهم.. فهو يسخر من الحكام الذين يحاولون إقناع شعوبهم بأنّ عدم امتداد يد العدو إلى عواصمهم يعني أنّ العدو هُزِم وقلّمت أظافره.. ومن الحكام الذين جعلوا كلّ شيء في الوطن قطاعا خاصا لهم.. ومن تعلّقهم بالوهم الأمريكي الذي يحلّ كلّ المشاكل.. ومن فلسفاتهم حول بطلان أهميّة استراتيجية البُعد الجغرافي.. ومن روح تشرين التي يتغنون بها دون أن يعملوا شيئا.

لكن محمود درويش ورغم نبرة اليأس يُعلنها: أنّ الحرب التي وقعت، وإن تلاعَب الحكام المهزومون بنتائجها، لكنها أثبتت انتصار إرادة الانسان العربي.. وأنّ أشياء كثيرة تغيّرت.. والأهم هو أنّنا تغيّرنا وتحرّرنا من الأسر الذي اخترناه فاستعبدنا..

تغيّرنا، عرفنا أنفسنا اكتشفنا ذواتنا وصار لنا رأي.. وعرفنا طريق الولادة.

ويؤكد أثر الحرب على الإسرائيلي وكيف زعزعت هذه الحرب إيمانه بكل ما آمن به في الماضي.. وجسّدت له الكابوس وأدرك أنّ الوهم الذي اعتقده بقضائه على الفلسطيني قد تبخّر.. وأنّ مجرّد ظهور الانسان الفلسطيني أمامه أعاده للواقع.. وعيّشه الحاضر والمستقبل وجرّده من كلّ الماضي.. وهكذا تحوّل البحر الذي كان محمود العربي يذهب إليه في الصباح الباكر بُعيد هزيمة حزيران ليطفئ النار في الماء الأزرق وينسى حزنه وهمومه.. أصبح هذا البحر بعد حرب ١٩٧٣ البوابة التي ينظر إليها الإسرائيلي ويتأمل ويأمل ويتساءل.. أصبح البحر هو الحل بالنسبة للإسرائيلي.. فيعلن أنّه ذاهب للبحر ليتأمل البحر.. وليصرخ بفزع ورغبة في الحياة وبنقمة على كل الذين خدعوه في الماضي:

أنا ذاهب لأتأمّل البحر ولست بحاجة إلى ما ليس بحراً.. أنا حيّ..

لكن الذي مات فيّ لن تُعيدوه إليّ أبداً.. أنا حيّ وميّت في آن.

بعد هذه الرحلة القصيرة الطويلة مع مذكرات محمود درويش (وداعا أيّتها الحرب وداعا أيّها السلام) أجدني أسأل نفسي:

- هل من مزيد لأقوله ؟

هل لي أن أُناقش محمود في موقف اتخذه.. أو رأي طرحه.. أو كلمة نطقها؟

هل لي أن أُبدي رأيي في كلّ الذي جرى ويجري؟؟ أتراني أكتب رسالة كرسالة محمود التي كتبها للوطن؟

ترى أليس من الأفضل أن أصمت وأترك كل قارئ يقرأ كلمات محمود ويتخذ الرأي الذي يريد؟

أليس هذا هو الأفضل؟!

***

ا. د. نبيه القاسم

في المثقف اليوم