قراءة في كتاب

محمد الهادي حاجي: قراءة في كتاب علم الاجتماع الريفي.. القرى والأرياف العربية

للدكتور محمد نجيب بو طالب

تقديم: ظل موضوع الريف في الدراسات الأكاديمية والبحثية بمختلف تخصصاتها موضوعا هامشيا ومتواضعا إذ لم يعط هذا الفضاء مكانته الحقيقية، على اعتبار ما شهده من تطورات في إطار ما يسمى بتجارب التحديث منذ منتصف القرن الماضي، والتي أدت إلى تغييره، هذا بالإضافة إلى أهمية الريف العربي كمركز للثقل المجتمعي من حيث التاريخ والهوية والثقافة، ومن هنا تبدو مسألة البحث في علاقة الفرد والمجموعة بالفضاء الريفي وأشكال التعامل معه كموضوع من المواضيع العلمية الهامة المطروحة على الباحثين العرب في علم الاجتماع. وفي هذا الإطار تتنزل دراسة الدكتور محمد نجيب بو طالب *من خلال كتابه "علم الإجتماع الريفي القرى والأرياف العربية"والصادر عن دار جامعة الملك سعود للنشر سنة 2014، وهو مؤلف يتجاوز النظرة الضيقة للريف في بعض الدراسات المهتمة بالمجتمعات الريفية العربية التي ترى في الريف ذلك الفضاء الضيق الذي يتمتع بالاكتفاء الذاتي على المستوى الاقتصادي ويتميز بالانغلاق على المستوى الاجتماعي والثقافي، إذ نستشف من خلال هذا الكتاب نظرة علمية جديدة للريف تعتبره نسقا من العناصر التي ترتبط فيما بينها ضمن علاقات معينة، بحيث يعتبر المجتمع الريفي مجموعة من العلاقات والنظم الاجتماعية يسود أفراده علاقات متينة تتصف بالاستمرارية والديمومة والتواصل، وأساسها القرابة والجوار، وتأخذ أشكالا غير رسمية، هذا إضافة إلى طبيعة الصلة أو العلاقة بين الحياة المحلية الريفية والمجتمع الشامل والدولة وهو ارتباط يمكن ملاحظته من خلال نماذج التنمية على تعدد تجاربها وأدواتها بتعدد الدول العربية وأنماط الإصلاح الزراعي المعتمدة فيها. وهذا ما يضفي أهمية أخرى على هذا الكتاب باعتباره يعتمد على مقارنات علمية بين الأرياف العربية بالاستناد إلى دراسات ميدانية أجراها الباحث وهو ما سيسهم في سد ثغرة. 

كبيرة علمية ظلت تلازم علم الاجتماع الريفي عند العرب وهي ثغرة التباعد بين النظري والتطبيقي.

لئن اختلفت المخططات التنموية من بلد إلى آخر، فإن هذه الدول قد ركزت ضمن تجاربها على الريف تحت مصطلحات التنمية الريفية المندمجة والتنمية الجهوية والتنمية المستدامة... ومن هذا المنطلق فإن الريف قد شهد تغيرا وإن اختلفت درجته وعمقه وتأثيره فإن ذلك حاصل لامحالة، وهو ما انعكس على تغيير طبيعة العلاقة التي ظلت لعهود طويلة مبنية على الصراع والتبعية والخضوع وهي عوامل لايمكن فصلها أيضا عن انتماء المهتمين بهذا الموضوع للبيئة الحضرية، وهو ما يجعلهم يجانبون الموضوعية والحيادية، بالسعي لتصوير الريف على أنه "المتخلف"، "التابع" و"السلبي".

ويمكن القول في هذا السياق أن العلاقة بين الريف والمدينة قد تبدلت وأصبحت تقوم على الاندماج والتكامل أحيانا وعلى التنافس وفرض الذات أحيانا أخرىو بعد أن كانتتقوم على التبعية والتنافر.

وبين ثنايا هذا الكتاب القيم والهام يبين نجيب بو طالب أن لكل علم مصطلحاته ومناهجه وطرق تحليله من خلال اعتماد عديد المفاهيم في علم الاجتماع، كطريقة لدراسة الظواهر الاجتماعية خاصة علم الاجتماع الريفي الذي يبدو أنه مازال يتخطى أولى خطواته في الوطن العربي مقارنة بوزن الريف وثقله الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في المجتمعات العربية والإشكاليات التي يطرحها هذا الفضاء على جميع الأصعدة وفي خضم التحولات الراهنة داخليا وخارجيا يتميز الكتاب بأنه يقدم صورة جلية بطريقة وأسلوب يتابعان تطورات هذا التخصص في العالم وخاصة في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية. فهو يتابع أعلام هذا العلم وأهم دراساته ومؤلفاته بأسلوب أكاديمي يعتمد على سلاسة الفهم وبساطة العرض وعمق المناقشة.

وقد اختار نجيب بو طالب نماذج للمجتمعات الريفية في عديد الدول العربية وخصائصها، من خلال توجه منهجي يقوم على المراوحة بين الثابت والمتحول حينا والخاص والعام حينا آخر ضمن السياقات أو الظروف التاريخية للوقوف على عناصر الالتقاء والاختلاف بين "أرياف" هذه الدول ورصد تحولاتها اعتمادا على أمثلة من المغرب العربي وأخرى من المشرق.

ويدعو الباحث في دراسته هذه الى ضرورة العودة إلى مجال الريف أعماقه بدلا من الحكم عليه من المكاتب المغلقة، كما يدعو إلى دراسته دراسة جادة تسلط الضوء على جوانب هذا الموضوع وقضاياه الحقيقية التي يعيشها هذا الفضاء المتنوع والمختلف من قطر إلى آخر. ولا يكون هذا الإنجاز ممكنا إلا عبر الإرادة الجادة والبحث المعمق وعبر إنشاء المؤسسات ومراكز البحوث والهيئات العلمية بعد مدها بالإمكانيات المادية والعلمية لإجراء دراسات معمقة يتسع مجال عملها وتعم مصداقيتها العلمية الريف العربي عموما مشرقا ومغربا.

والكتاب الذي احتوى على 174 صفحة يضع بين القارئ رصدا تحليليا من وجهة نظر علم الاجتماع الريفي للريف على المستويين القطري والعربي كفضاء يمتد ويتشكل بمختلف تنويعاته حسب التجارب التنموية أو التحديثية للدول العربية، وذلك من خلال حالات متعددة كليبيا ومصر والسعودية وتونس وفلسطين، محاولا الكشف دائما عن طبيعة العلاقة بين هذا الفضاء المنتج للخيرات والرموز الاجتماعية وبين الدولة التي ينتمي إليها ضمن تجارب التنمية والتحديث وعمليات التغير الاجتماعي ومشاريع الإصلاح الزراع وتوطين السكان.

ومما يزيد الأمر أهمية أن الفضاء الريفي وامتداداته له مكانته التاريخية، "فبفضل ما يلعبه هذا الفضاء الشاسع من أدوار هامة في الحفاظ على هوية المجتمع العربي وفي تثمين إنتاج جزء هام من خيراته. وهي مكانة تدفع إلى مزيد العمل على متابعة التحولات التي يمر بها الريف العربي، وهو ما يدفعنا الى القول بأن هذه دعوة لمزيد تحليل وفهم وتفسير هذا الموضوع في ظل ما يشهده من تحولات، ويوضح الباحث أن دراسة الأمثلة العربية لا تعني فقط الإسهام المعرفي لمجال الدراسات المعرفية أو العلمية في مجال علم الاجتماع بل كذلك محاولة للإجابة عن التساؤلات المطروحة على الساحة العلمية عن موضوع الريف.

وينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول يحتوي الأول على ثلاثة أقسام تهتم بالإطار المنهجي والنظري لدراسة موضوع الريف.

أما الفصل الثاني فهو يهتم بصورة الريف العربي في الثقافة والتاريخ والمجتمع ويحتوي بدوره على سبعة أقسام تتابع هذه الصورة في القرآن الكريم وفي مصنفات التاريخ العربي وفي أدب الرحلة والجغرافيا العربية وفي الإعلام وفي الدراسات العربية المعاصرة، محاولا الكشف عن نقاط الالتقاء والاختلاف في الأرياف العربية.

أما الفصل الأخير، وهو الأطول في الكتاب، فيحتوي على خمسة أقسام يتناول فيها الباحث نماذج تطبيقية لتحولات الأرياف والقرى العربية ويأخذ أمثلة على ذلك. ليبيا وفلسطين والسعودية ومصر وتونس مستعرضا خصائص هذا الفضاء وأنماطه والتجارب التي تعرض لها ومظاهر التحول التي شهدها من خلال تعددها بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

ويخلص الكاتب إلى أنه رغم دور الريف في حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار إلا أنه ظل مقصيا ومهشما ليس من طرف السلطة أو النخبة الحضرية فحسب وإنما أيضا من قبل الدارسين والمهتمين بهذا الموضوع. ويأتي هذا العمل برأينا مساهما في فك العزلة عن الريف التي ظل يعانيها هذا الفضاء لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية واقتصادية متراكمة.

و لعل هذه المقاربة الطريفة والشاملة عربيا لموضوع الريف ستساهم لا محالة في إرساء تقاليد جديدة في مجال البحث السوسيولوجي من جهة كما أنها ستساهم في الرد العلمي على بعض الأحكام المتسرعة القائلة بنهاية الريف أو بهامشيته في الحياة المعاصرة من جهة أخرى.و قد تناسى ذلك الرأي أن علم الاجتماع الريفي لم يغب عن المجتمعات الحديثة بما في ذلك المجتمعات الصناعية التي لا يزال يلعب فيها هذا التخصص أدوارا فعالة ويقدم آراء استشارية بناءة.

يناقش هذا الكتاب أهميةٌ البحث في تحولات الريف، من خلال قراءة لأهم الإتجاهات السوسيولوجية التي درست المجتمعات الريفية. فإذا كانت بعض المجتمعات الريفية لا تزال تحافظ على أنماط بناها التقليدية رغم التحولات المتسارعة التي تطالها، أو العكس فإن إعادة رسم ميدان تخصص علم الاجتماع الريفي

وإعادة النظر في آليات ومنهجيات مقاربة وتحليل الميدان، مجالاً لمستويات مختلفة من الملاحظة تساهم في التكامل المعرفي مع العلوم الأخرى وتقديم طرحاً نقدياً، يشكل جزءً من البحوث الهادفة إلى تكوين الأسس المعرفية والنظرية للباحثين في المجتمعات الريفية العربية.

***

د. محمد الهادي حاجي - تونس

......................... 

* أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك سعود وبالجامعة التونسية، مؤلف عديد الكتب والدراسات المنشورة حول الأرياف العربية وقضايا التنمية في المجتمعات العربية المعاصرة.

 

في المثقف اليوم