شهادات ومذكرات
علي حسين: احمد خلف.. يرحل ولن يغادر
عاش احمد خلف حريصاً على حياته المتواضعة الزاهدة، لكنها حياة صارمة في الموقف من الأدب والسياسية، فلم يهادن.. ولعله اليوم سافر في رحلة إلى العالم الآخر ليواصل رواية حكاياته عن الخراب، متكئاً على عصا الجنون، يسارع الخطى نحو شمس ساطعة كالفضة، ساخراً من البهلوان الذي حاصر أيامه.
علمته مهنة بيع مكتبته على رصيف شارع المتنبي في تسعينيات الحصار، معنى أن يصبح الكاتب حراً، مقتصداً في علاقته مع السلطة، محاولاً أن يجسد المعنى الحقيقي للتفرد الإبداعي بين رفاقه من جيل الستينيات، هذا الجيل الذي صنع عمر كامل من الأوقات المفعمة بالأمل، والأحلام والطموحات الكبيرة، ثم خيبات الأمل التي فرقت أبناء هذا الجيل الاستثنائي بين عواصم العالم وبلدانه، فيما ظل احمد خلف يمارس لعبته مع الحروف رافضا مغادرة شوارع المدينة التي شهدت صباه وتسترت على نزواته البريئة، فهو لا يجيد العيش في ازقة غير ازقة بغداد، وفي رسالة مؤثرة يشكر فيها سهيل ادريس يضع لها عنوانا " أبيع ولا اغادر " يكتب احمد خلف:" للمدن هيمنة علينا، بعض المدن تبدو كالرحم، وبغداد هي الرحم التي لا احسن العيش في غيرها "، فقد شاء احمد خلف أن يكون شاهدا على " خريف بلده "، يردد ابيات اليوناني كفافيس: " ما دمت خربت حياتك في هذا الركن من الصغير من العالم، فهي خراب اينما حللت "، قال لي مرة انه قررالهجرة في احدى سنوات الحصار، لكن سبعة ايام في عمان جعلته يزداد شوقا الى مدينته فيحزم حقائبه ليعود مجددا الى شارع المتنبي يطلب العون من مكتبته ان تساعده على توفير احتياجات العائله. الموظف في وزارة الثقافة وعضو اتحاد الادباء، وصاحب المجاميع القصصية والروايات، قرر في صبيحة السادس عشر من كانون الاول عام 1995 أن يبدأ مغامرته الهادفة للتصدي لشظف العيش، والطلب من الكتب المرصوصة في مكتبة البيت ان تسانده وتثبت له انها في ساعة المحنة ستكون افضل معين، قرر ان يبدأ بتولستوي ودوستويفسكي وهما من اقرب الأحبه، ثم طلب معونة جيمس جويس ومارسيل بروست وفوكنر ومالرو وسارتر وكامو، ولم يخذله الكتاب العرب فها هي اعمال نجيب محفوظ تتحول الى كيس من الخضروات، فيما سهيل ادريس يمكنه ان يغطي مصرف يوم كامل لعائلة صغيرة. ولم تتركه دواوين السياب وصلاح عبد الصبور وادونيس ومحمد الماغوط وحيدا في محنته كان:" لا بد من هذه المغامرة للتخلص من العذاب المستديم والحيرة والرغبة في عدم الذهاب الى البيت لئلا اواجه بالنظرات القاسية، وبالصمت الذي وحده يجيد اقسى الكلام " – من رسالة الى سهيل ادريس نشرتها الاداب عام 1969 -.
أبعدت الكتب شبح الفقر عن العائلة الصغيرة. وقد روي لي ذات يوم أنه تلقى في طفولته تربية دينية قادته في سن الشباب الى نوع من انواع التدين الصوفي، إلا أنه سرعان ما تخلى عن ذلك بعد أن قرأ البير كامو: " تاثرت تاثرا شديدا برواية الغريب لكامو، وافهمتني مسرحيته سوء تفاهم كيف يمكن للاقدار ان تلعب دورا في حياتنا "، شغف بالفلسفة الوجودية، تنقل بين سارتر وكامو وسيمون دي بوفار، وسأجده ذات جمعة في شارع المتنبي حزينا، فقد فرط بكتاب سارتر " الوجود والعدم " من اجل توفير متطلبات العائلة، قال ومسحة الحزن لم تغادر وجهه:" لسنوات كنت اقرأ في هذا الكتاب واحاول حل طلاسمه، كان معينا لي في الفكر، واليوم لم يتخل عني في ازمتي " ".
الشاب القادم من شنافية الديوانية، وجد نفسه مندمجا في صخب بغداد، أحب الكتب، ملتهما منها كل ما كان يقع بين يديه. وسيعشق بيعها فيما بعد، مثلما كان يعشق البحث عنها في مكتبات شارع السعدون.اعلن ذات يوم انه يتمنى ان يصبح مثل اندريه مالرو، كاتب ومقاتل في سبيل الحرية وباحث عن اسرار الحضارات، سحرته رواية " الوضع الانساني " التي يُعيد فيها مالرو الاعتبار إلى الفرد أمام مطحنة التاريخ:" وجدتها رواية تعلي من روح الفرد امام ركام الدمار الذي يحيط بالعالم "، وسنجد تاثير رواية مالرو واضحا في اولى روايات احمد خلف " الخراب الجميل "، فمثلما جعل مالرو من روايته سجلا للافراد، فان احمد خلف يقدم لنا في الخراب الجميل رواية عن الافراد، عن القوى الحقيقية الفاعلة في الحياة، عن اهمية الواقع الذي يؤثر في هؤلاء الأفراد. فنحن ازاء رواية تروي لنا مغامرات الفرد وهو يسعى لان يشارك في صناعة التاريخ الحقيقي.
ظل احمد خلف ينصت الى الصوتين، الواقعي والسريالي، في رأسه: " كلاهما وسيلة جيدة لفهم ما يدور حولنا ". يتبنى أسلوبه الخاص في القص، الابتعاد عن المبالغة، والتصوير الصادق، قصص يصفها البناني محمد دكروب بانها " تختلف عن غيرها، فليس فيها تلك المبالغات البطولية، ولا فيها ذلك البكاء والتفجع على ما حدث "، قصص تطرح معنى التجربة الانسانية ضمن التجربة الابداعية، حيث بيدومن خلالها انجذاب احمد خلف الى تكتيك السيناريو السينمائي، حين يترك لنا نحن القراء ان نشاهد صورا حية ترسمها الكلمات " ثمة رغبة حقيقية للقول إن الحروب تحول كل شيء الى كابوس "، فعندما يصطدم سلمان بطل اولى قصص احمد خلف " خوذة لرجل نصيف ميت " – نشرت عام 1969 في مجلة الاداب – بزيف العالم، وبعد ان روعه تشويه وجهه، وعندما تحول الحرب قصة حبه الى قصة للرعب من الخيانة، يتحول الحب الى كابوس، انه إذ فقد وجهه وفقد صلاحيته للقتال، اصبح غير واثقا من صلاحيته للحب. إلا ان سلمان يواصل التحدي فنراه " ينتفض من فوضاه "، يطلق من مسدسه آخر رصاصة على الساعة الطويلة، ليقتل الزمن الذي قذف به الى عالم التشويه والزيف والجنون والخيانة والخوف.
كانت القصة والرواية عالمه الذي يتنفس به قصة تاريخ البؤس، حيث نراه في معظم اعماله يواجه الضحية في الانسان الذي فيه، والانسان الذي امامه. مصرا على ان لا ينعزل عن هموم مجتمعه، ليجعل من عوالمه القصصية والروائية في حالة حوار شفاف مع القراء، مشيدا عالمه الخاص وملامح أبطاله الذين يواجهون الواقع بمرارة احيانا وبحزن احيان كثيرة، لكن بتصميم..
يرحل احمد خلف عن عالمنا، لكن اعماله ستظل حاضرة بيننا تمنحنا حكايات غرائبية استوحاها من حلمه الطويل بان يتوسد الارض لينام بعمق، وهو يحلم فيما اذا كانت سنواته الثمانين حقيقة ام مجرد حكاية تخبرنا اننا " ذات يوم ولدنا، وذات يوم سنموت.. يلدون على صهوة القبر.. يشع النور برهة.. ثم يعود الليل من جديد " – في انتظار غودو صمويل بيكيت.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية