شهادات ومذكرات
كريم الجاف: المطاعم والسياسة

سيرة وذكريات عن المعلم مدحت كبابجي
من ذاكرة نضال الكورد في تاريخ العراق المعاصر
***
يزخر تاريخ نضال الكورد بالعديد من الأحداث والمناسبات الفريدة في مسيرتهم النضالية؛ ولاسيما في تاريخ العراق المعاصر الذي دشنت دينامياته في بداية تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وتختزن ذاكرة المرحوم والدي(حسين الجاف) بعديد من القصص التي تعكس التجارب النضالية لشخصيات كان لها أبلغ الأثر في مسيرة نضال الكوردي، لكنها بقيت مخفية عن كتاب التاريخ كونها من صناعة أناس عاديين وليسوا من القادة الكبار الذين عرفهم مجال النضال السياسي الكوردي، ومن هذه الشخصيات تعد شخصية المعلم، أو الأسطة مدحت كبابجي (1919- 2008) من الشخصيات التي أرى أنه ينبغي تسليط الضوء عليها، لأجل أن يعرف الناس ما قدمه من أعمال كبيرة أثناء مسيرة نضال الكورد السياسية والاجتماعية في العراق بعامة، وكوردستان بخاصة.
في بداية القرن العشرين كانت السليمانية على موعد مع حدث كبير وهو بداية العهد الاستعماري البريطاني للعراق بعامة، وكوردستان بخاصة؛ ولاسيما بعد معاهدة سايكس بيكو التي أسست جغرافية سياسية بعد انهيار الحكم العثماني، وكان العراق من حصة البريطانيين، لكن هناك مدينة رفضت الاعتراف بهذه الترسيمة للدولة العراقية الجديدة، وهي السليمانية التي انتفضت بقيادة ملك كوردستان الشيخ محمود الحفيد(1878- 1956) ورفضت أن تكون من أجزاء الدولة العراقية التي تأسست عام 1921، ومن ثم فقد اصبحت ثورة الكورد في السليمانية بقيادة الشيخ الحفيد أول صفحة من صفحات نضال الكورد ضد التقسيم الظالم الذي أحدثته معاهدة سايكس بيكو التي قسمت الكورد إلى أجزاء أربعة.
وفي خضم أحداث ثورة الحفيد عاشت السليمانية ديناميات ثقافية، وسياسية، واجتماعية تعبر عن رفض الكورد للواقع الجديد الذي أحدثه الاستعمار البريطاني، وكانت هناك ممارسات عديدة يقوم بها الناس كل حسب توجهاته واختصاصاته تعبر عن مقاومتهم لذلك الواقع، ومن هذه الممارسات التي نذكرها هي تجربة الأسطة مدحت كبابجي التي عبرت عن نشاطها النضالي خلال عمله كصاحب لمطعم كباب في السليمانية؛ ولاسيما في الحي القديم كانيسكان الذي كان يقيم فيه الشيخ محمود الحفيد، ونجله الشيخ لطيف الذي كان على صلة قوية بالأسطة مدحت كبابجي.
لم يكن الأسطة مدحت كبابجي غريباً عن مهنته التي امتهنها وورثها لأولاده، ولاسيما نجله الأسطة هيوا كبابجي (1958-)، فقد اكتسبها من طريق والده المرحوم (صديق عاشور) الذي كان قصاباً معروفاً في منطقة كانيسكان إحدى الأحياء القديمة في محافظة السليمانية؛ إذ وجد والده أنه يجيد عملية اعداد المشويات؛ ولاسيما شوي الكباب واقترح عليه تأسيس مطعم للكباب في منطقته كانيسكان، وبالفعل يقوم الشاب مدحت وبتشجيع من والده القصاب إلى ممارسة تجربة افتتاح مطعم صغير لاعداد الكباب بعيداً عن مهنة القصابة التي تعلمها من والده.
بدأ الأسطة مدحت يكتسب شهرة وزبائن كثيرين في منطقته، وكان من أشهر زبائنه في بواكير عمله الشيخ لطيف محمود الحفيد نجل ملك كوردستان الشيخ الحفيد، وقد أعجب الشيخ لطيف الذي يعشق تناول الكباب على طريقة مدحت كبابجي في عملية اعدادها، وكان يرسل له اللحوم لاعداد الكباب لضيوفه؛ وذلك لأن بيت الحفيد لا ينقطع عليهم الضيوف؛ فضلا عن أنهم من العوائل الدينية، والسياسة التي لها حضور كبير في كوردستان بعامة، والعراق، بخاصة، ولم تقتصر علاقة الأسطة مدحت كبابجي مع شيخ لطيف الحفيد على اعداد الكباب بل تعدتها إلى أن تكون علاقة شخصية قوية جداً؛ إذ كان شيخ لطيف يعتمد عليه في تأمين الرسائل وبعض الآمانات من الأموال التي تستخدم في النضال السياسي للكورد ضد المستعمر البريطاني، ونظام الحكم في العراق، وقد تميزت شخصية الأسطة مدحت كبابجي بالسرية والكتمان في نشاطه السياسي الذي اختلط مع نشاطه العملي.
ومع أن الشيخ لطيف الحفيد كان مؤسساً لجميعة سياسية تدعى الأخاء(برايةتي)، لكن الأسطة مدحت كان يميل إلى (حزب هيوا) الذي تأسس في كوردستان في نهاية ثلاثينات وبداية أربعينات القرن العشرين، وقد كان أغلب قادة الحزب وأنصاره من زبائن الأسطة مدحت؛ ولاسيما قائدها التاريخي رفيق حلمي (1898- 1960) الذي تواجد في السليمانية، بعد أن أصبح مفتشاً لوزارة المعارف (المنطقة الشمالية)، وكان دائماً يحلُ ضيفاً في مطعم الأسطة مدحت ؛ ولاسيما بعد تفاقم الصراع داخل اللجنة المركزية للحزب، وكان عندما يتناول الكباب عند الأسطة مدحت يقول: فقد مطعم كاك مدحت كبابجي يوحدنا (تةنها كبابى كاك مدحت يةكمان دةكاتةوة)؛ إذ كان المطعم موقعاً للقاء قادة الحزب وأنصاره بشكل سري؛ ولاسيما اعضائه الكبار من قبيل: الشاعر دلدار، وضباط الجيش العرقي من الكورد الذين كانوا من الناشطين في حزب هيوا من قبيل: مصطفى خوشناو، ومير حاج أحمد، وعزت عبد العزيز، وخيرالله عبد الكريم، ومحمد محمود قدسي، وفؤاد عارف، والعقيد رشيد جودت، والشخصية الوطنية الكوردية توفيق وهبي، واسماعيل حقي، وبرهان جاف، والشخصيات الكوردية الأخرى من قبيل: نافذ جلال حويزي، وصالح اليوسفي، ونوري شاويس، والمهندس حسيب صالح، وإحسان شيرزاد، ودارا توفيق، وشقيقه خسرو توفيق، والشاعر شيركو بيكس وغيرهم من الشخصيات التي كانت تتواصل سياسياً واجتماعياً مع الشيخ لطيف محمود الحفيد من خلال مطعم الأسطة مدحت كبابجي في كانيسكان.
ومن الجدير بالذكر أن كاك مدحت قد أطلق على أحد أولاده اسم (هيوا) تيمناً بالحركة السياسية التي تعاطف معها في شبابه، والمعلم هيوا وأولاده ئوميد، وأحمد قد ورثوا اليوم مهنة جدهم ووالدهم، ويعدون اليوم من الرموز الاجتماعية المهمة في السليمانية وكوردستان بخاصة، والعراق بعامة؛ ولاسيما في عملية اعداد الكباب الكوردي الذي يشتهر به الكورد في العراق.
بعد اللجوء الإجباري للبارزانيين إلى مدينة السليمانية؛ ولاسيما عام 1939 ، وبعد إقامتهم المؤقتة في منطقة (ملكندي) التي هي أحدى الأحياء السكنية القديمة لمدينة السليمانية يتعرف أسطة مدحت كبابجي على ملا مصطفى بارزاني، وذلك من خلال الشيخ لطيف الحفيد الذي ارتبط بعلاقة قوية مع البارزانيين، ويشترك معهم في النضال السياسي، والجذور الدينية؛ ولاسيما في علاقته الشخصية بملا مصطفى الذي يتذوق لأول مرة كباب السليمانية من خلال ضيافة شيخ لطيف الحفيد له في بيته في منطقة كانيسكان.
ومن مطعم مدحت كبابجي بدأت عملية جمع إغاثة البارزانيين، ومن خلال بيت الحفيد، وذلك بسبب الظروف المعاشية الصعبة التي يواجهونها أثناء اقامتهم الإجبارية في السليمانية، حتى أن ملا مصطفى قد طلب من شيخ لطيف الحفيد مساعدته لإيجاد محل لبيع الذهب الخاص بعائلته؛ لأجل توفير المال لتأمين قوت العيش لعائلته وأنصاره من المقاتلين؛ إذ إن البارزانيين رغم ظروف العيش الصعب يرفضون أن يكونوا ضيوفاً ثقيلين؛ ولاسيما أن أهالي السليمانية يعانون من صعوبة العيش وتفشي الفقر والأمراض فيها.
يذكر لي والدي المرحوم حسين الجاف(1918- 1998) أنه عندما كان ينتظر شيخ لطيف الحفيد في مطعم كاك مدحت كان يساعده من دون مقابل في عملية فرم اللحم بالساطور؛ إذ لم يوجد في ذلك الوقت أدوات فرم اللحم، وكان كاك مدحت يقدم له الضيافة وهي عبارة عن لفات كباب بخبز التنور؛ ولاسيما عندما يتواجد شيخ لطيف الحفيد، إذ إن الأسطة مدحت قد أصبح لديه علماً أن والدي شخصاً مهماً جداً عند الشيخ لطيف محمود الحفيد.
ومن الصدف العجيبة أن الشخصية الوطنية العراقية اللواء فؤاد عارف وفي لقائه الأخير مع صدام حسين، وكان ذلك في عام 2002، قد ذكر لي عندما كنا في مقهى حسن عجمي في شارع الرشيد أن صدام حسين قد ذكر له أنه في أيام صباه وعندما كان زوج والدته ابراهيم الحسن يعمل حارساً في السليمانية اشتغل في أحد المطاعم في السليمانية وكانت مهمته تكمن في غسل الصحون، وتنظيف المحل عندما نهاية الدوام، وكان صاحب المطعم لطيفاً معه، لكن صدام حسين لم يتذكر إسم صاحب المطعم؛ ولكن في عام 2023 أجرى موقع باس نيوز حواراً مع أقدم المصورين الكورد في السليمانية(المصور حمة) الذي أكد من خلال معارفه أن ابراهيم الحسن زوج والدة صدام قد عمل في الشرطة، وقد توسط صديقه الشيخ صالح قزلري لتوفير فرصة عمل للصبي صدام حسين من أجل تحسين وضعهم المعيشي الصعب الذي يعانوه في السليمانية، وقد وجد فرصة العمل في مطعم الأسطة مدحت كبابجي الذي لم يتذكره في حديثه مع اللواء فؤاد عارف.
ومع أن مطعم الأسطة مدحت كان صغيراً نوعاً ما، لكنه كان عظيم الشأن بسبب الزبائن غير العاديين من الأدباء، والسياسيين، والعسكريين فضلا عن شخصية صاحب المطعم التي تميزت بالمهينة العالية التي أكسبته الشهرة، والوجاهة الاجتماعية، وحسه الإنساني الذي كان يظهر في خدمة الناس الفقراء وتوفير الوجبات المجانية من الكباب التي كان يقدمها بشكل (لفات من الخبز).
يذكر لي والدي أنه في ستينيات القرن الماضي وبداية السبعينات كان مطعم المعلم مدحت قد أصبح شهيراً جداً، وفي المناسبات التي كانت تحدث فيها المفاوضات بين قيادة الثورة الكوردية بزعامة ملا مصطفى البارزاني عبر ممثله نجله المرحوم إدريس بارزاني، والتي كانت تحدث في مقر البارتي وبحضور مسؤول المقر آنذاك المرحوم فاخر ميركسوري؛ ولاسيما في بداية السبعينات مع أعضاء المكتب السياسي الذي كان أحد أقطابه المهمين مام جلال كان الضيافة التي تقدم للمتفاوضين أطباق الكباب المقدمة من مطعم المعلم مدحت، وقد أعجب مام جلال كما يذكر لي والدي بطريقة اعداد الكباب للمعلم مدحت، مع أن مام جلال كان مطعمه المفضل، هو مطعم المرحوم عباس أبو شوارب، وقد أخبر مام جلال فاخر ميركسوري أن أي مفاوضات مع ملا مصطفى ستكون ناجحة إذا حضر فيها كباب المعلم مدحت كبابجي.
لم يقتصر الزبائن الذي يحضرون مطعم المعلم مدحت على الشخصيات الكوردية فقد، بل امتدت إلى غير الكورد؛ إذ يخبرني والدي أن قادة الدعوة الإسلامية: محمد هادي السبيتي، وصاحب أبو دخيل(أبو عصام)، وأبو زينب الخالصي كانوا ضيوفا على السليمانية في بداية عام 1971، وقد تمت ضيافتهم على حسابه في مطعم المعلم مدحت الذي اعتبرهم ضيوفا على مدينة السليمانية، ووضع سيارته الشخصية في خدمتهم، فضلا عن الشخصية الحكومية المحافظ والوزير غانم عبد الجليل الذي كان عضوا مفاوضاً مع قيادة الثورة الكوردية، والشيخ عيادة كنعان الصديد عندما كان محافظا لديالى. وبهذه السيرة تظهر كيف أن الأسطة مدحت كبابجي قد صنع تاريخاً شخصياً مميزاً له في صفحات تاريخ الكورد المعاصر، وفي سياق التجربة السياسية للدولة الوطنية العراقية التي تأسست دينامياتها عام 1921.
***
د. كريم الجاف - باحث وأكاديمي
..................
المصدر كتاب يصدر قريباً بعنوان: قوة النمل: قصة العمليات الاستخباراتية للثورة الكوردية في العراق.. ذكريات رجل عادي- إعداد د. كريم الجاف