آراء

عبد السلام فاروق: الدولة المستحيلة في عصر التحولات الكبرى

لا ينكر إلا جاهل أو متجاهل أننا نعيش أزمة وعي وجودية، تشبه انكسار البوصلة في بحر من الاضطرابات الحضارية. فالعقل الجمعي العربي، بكل طبقاته، ما يزال يرزح تحت وطأة المعطى الجاهز والمفكر فيه مسبقًا، سواء كانت مرجعيته قبلية عصبية أو دينية تقليدية.

المعضلة هنا ليست في التقليد ذاته، فكل حاضرة لها ماضيها، ولكن في تحول هذا التراث من وقود للإبداع إلى قيد على العقل. لقد أصبحنا نعيش على ريع الأفكار لا على إنتاجها؛ نستهلك المعرفة كما استهلكها أسلافنا، دون مساءلة أو نقد أو تمحيص.

الوعي المأزوم

الأمر الأكثر ألماً أن النخب المفترضة – سياسية كانت أم فكرية أم دينية - قد تحولت من قوى دافعة للتغيير إلى قوى كابحة له. فبدلاً من أن تكون منارات تستشرف المستقبل، أصبحت حراساً أمنين على مقابر الماضي؛ ترفع شعار "هكذا فكر الأسلاف"، وكأن العقل البشري توقف عن الإنتاج منذ ألف عام!

هذه النخب ترفض التغير المعرفي لأنه يهدد امتيازاتها، ويقوض شرعيتها القائمة على الوصاية الفكرية. فهي تعيد إنتاج الخطاب ذاته، بلغة جديدة أحياناً، ولكنها تبقى في الدائرة نفسها: دائرة الاجترار والتبعية الفكرية.

المجتمع المغلق

لم يعد الوعي التقليدي حصناً منيعاً يحمي الهوية، بل تحول إلى سجن كبير يقيد العقل، ويعطل طاقته على الإبداع والابتكار. فأصبحنا نرى العالم من خلال شبكة مفاهيم موروثة، لا نستطيع تجاوزها أو مساءلتها. كل فكرة جديدة تقابل بالرفض والاتهام بالخروج عن الثوابت، وكأن الثوابت هي أوامر نهائية لا تقبل المراجعة أو التطوير.

هذا النمط من التفكير ينتج عقلاً مغلقاً يرفض الحوار مع الآخر، ويخاف من المختلف، ويعتبر أي اجتهاد جديد خروجا عن الإجماع المزعوم. وهو بذلك يغلق على نفسه أبواب المستقبل، ويبقيه في دائرة التبعية والحضور الغائب.

تطوير الوعي: المعركة المصيرية التي لا بد منها

إثراء الوعي وتطويره ليس ترفاً فكرياً، بل هو معركة مصيرية تحدد مكانتنا في عالم يتغير بسرعة مذهلة. وهي مهمة شاقة؛ لأنها تتطلب كسر أصنام العقل التي عبدناها لقرون، والخروج من المنطقة الآمنة التي اعتدنا عليها.

هذه المهمة لا تقع على عاتق النخب وحدها، بل هي مسئولية مشتركة بين المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية والدينية. فالمدرسة يجب أن تتحول من مكان للتلقين إلى فضاء للتساؤل والنقد، والجامعة يجب أن تكون ورشة لإنتاج المعرفة لا مجرد ناقلة لها، والإعلام يجب أن يكون منصة للحوار الحر لا لترديد الشعارات الجاهزة.

نحو وعي جديد أو لا وعي

نحن أمام خيار وحيد: إما أن نعيد تشكيل وعينا الجمعي بما يتناسب مع تحديات العصر، وإما أن نبقى على هامش التاريخ؛ نعيش على ذكريات الماضي وأوهام الأمجاد الغابرة.

الطريق الوحيد المفتوح على المستقبل هو طريق الثورة المعرفية، التي تطلق العقل من قيوده، وتحرره من سلطة الجاهز والمسلم به. طريق لا بد أن نبدأ به الآن، قبل أن يغلق علينا المستقبل أبوابه إلى الأبد.

فإما أن نكون أو لا نكون.

لا تكمن الكارثة في انسداد أفق الوعي الجمعي، بل في انعدام الإحساس بالكارثة. فالمجتمع الذي يفقد القدرة على نقد ذاته، ويحول تراثه إلى تابوهات مقدسة، هو مجتمع يغلق باب المستقبل بيديه، ويوقع على شهادة وفاته الحضارية بإرادته.

الوعي المعلب

لم نعد أمام تراث حي يحاور وينمو، بل أمام منتجات فكرية مغلفة جاهزة للاستهلاك. لقد قُتلت الأفكار وتحولت إلى أشباح نقدسها دون أن نفهمها؛ نرددها دون أن نعيها. حتى الخطاب النقدي نفسه أصبح نسخة مكررة من خطابات الماضي؛ يدافع عن نفسه بنفس أدواته، وكأنه يدور في حلقة مفرغة.

هذه التعبئة الجاهزة للوعي تنتج عقلاً استهلاكياً غير قادر على الإنتاج، يعتقد أن الحقيقة ملك له وحده، فيرفض أي حوار مع المختلف، ويختزل العالم إلى أبيض وأسود، صديق وعدو، مؤمن وكافر.

النخب والانقلاب على الدور

الأخطر من تحول النخب إلى حراس للتقليد هو تحولها إلى سماسرة تابوهات. فهي لا تكتفي بالدفاع عن القديم، بل تستثمر فيه رمزياً ومادياً؛ فتصبح مصلحتها في بقاء الأزمة لا في حلها. هذه النخب ترفع شعارات الأصالة والهوية لتبرير جمودها، وتحول النقد إلى خيانة والاجتهاد إلى خروج.

هنا يصبح الوعي المزيف وسيلة للهيمنة والسيطرة؛ حيث تستخدم التابوهات لإسكات أي صوت مختلف، وإلغاء أي عقل يسائل أو يشك أو يجتهد.

الهروب إلى الماضي

نحن لا نعيش أزمة ماض، بل أزمة حاضر يهرب إلى الماضي. فالعقل الجمعي الذي يعجز عن فهم واقعه والتعامل مع تحدياته، يلجأ إلى الماضي كملاذ نفسي وأيديولوجي. يصبح الماضي هو الجنة المفقودة التي نعيش على ذكرياتها، بينما يتحول المستقبل إلى كابوس نخشى مواجهته.

هذا الهروب إلى الماضي ليس حلاً، بل هو جزء من المشكلة؛ لأنه يعمق أزمة الحاضر ويغلق أبواب المستقبل.

هل هناك مخرج من المتاهة؟

المخرج يبدأ بالاعتراف بأننا أمام أزمة وجودية تهدد مستقبل الأمة. لا بد من ثورة وعي تعيد بناء العقل العربي من جديد؛ ثورة تبدأ بتحرير العقل من سلطة المسلمات والتابوهات، وتعيد وصله بأسئلة العصر وتحدياته.

هذه الثورة تتطلب:

1.  تفكيك خطاب التقديس: بمراجعة التراث نقدياً، والتمييز بين المقدس والدنيوي، وبين الثابت والمتغير.

2.  تحرير العقل من الأيديولوجيا: فالعقل المسيَّب أيديولوجياً هو عقل مغلق غير قادر على الرؤية الموضوعية.

3.  بناء ثقافة السؤال بدل ثقافة الجواب: فالجواب الجاهز يقتل التفكير، بينما السؤال يفتح أبواب المعرفة.

4.  اعتماد العقلانية والنقد كمنهج حياة: في التعليم والإعلام والفن والسياسة.

إما أن نولد من جديد أو نغرق في بحر الماضي

نحن أمام خيار وحيد: إما أن نجري عملية ولادة جديدة للوعي؛ نتحرر فيها من قيود الماضي وأوهام اليقين، ونفتح عقولنا على آفاق المعرفة والعصر، وإما أن نستسلم للجمود ونغرق في بحر الماضي، فتصبح مجرد ذاكرة منسية في تاريخ الأمم.

فهل نغير وعينا، أم يغير الوعي قدرنا؟

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم