قراءات نقدية

عبد الهادي عبد المطلب: قراءة في رواية "الحق في الرحيل" للكاتبة فاتحة مرشيد

ازدواجية الفني والوجع الإنساني

أو حين يحاصرنا الرحيل

«تريث قليلا أيها الموت.. إنني أكتب»

***

مفتتح..

عند منعطفات السرد، ونحن نجوب دروب رواية «الحق في الرحيل» للكاتبة والشاعرة فاتحة مرشيد ، يترصدنا الألم والرحيل ويدفع بنا إلى الانخراط في مسار الحكي الذي يقف في المنطقة البينية بين الحق والاختيار المؤلم، والذي يأخذ بأيدينا، رغماً عنّا، وجنبا إلى جنب الألم والضياع والتيه، الألم الذي ينفتح على الجرح الإنساني ليقف به حائرا ضعيفا تائها لا يدري أمام «الحق» ما هو فاعل، وأي الطرق يسلك مع غلبة الحب، ناظرا حائراً، أي الأسئلة التي تشقّ القلب ستفتح له بابا نحو الجواب، الجواب الذي ينفلت ويزيد درجة الألم.

على حافة الكتابة..

وحدها الكتابة، جرح مفتوحٌ على الوجع، وصرخة تترنّح بين الكبت والإفصاح، تأخذ منا، لتسير بنا إلى اكتشاف مجاهل الذات ومواطن القبح والجمال فينا، وقسوة الألم وتيه الاختيار وسلطة الحب،

وحدها الكتابة، على حافة الألم، تأخذ منا، لتسير بنا إلى المجهول الثاوي فينا ترغمه على الظهور حين نحاول بكل الجهد أن نخبّئَه فيطفو على الكلمات حبا أو كرها، وجعا أو فرحا، ليولد المعنى مُلعزاً مرة منبلِجاً مرات، يجر وراءه أسرار الكلام وفتنة الكلمات.

وحدها الكتابة، تأخذ منا، لتسير بنا في منعطفات الذات والواقع والفضاءات وئيدة تتجاذبها ازدواجية الفني والألم، اللذة والوجع، الحياة والموت، الضحك والبكاء.

"أدركت الآن، في قرارة نفسي، بأن الحب هو السلاح الوحيد ضد الموت، لأنه الوحيد الذي يستمر بعده" .

وحدها الكتابة، تأخذ منا ثمن لذة القراءة حين نشارك أبطالها الألم والرحيل، والموت، فهي لم تُكتب بالكلمات ولكنها انكتبت بالألم والسفر والرحيل لتضع القارئ أمام المصير الذي يتكبَّده الشخوص للوعي به وللمشاركة في اتخاذ أقسى القرارات الإنسانية، «لم تعد الكتابة اختيارا، أصبحت هواء يملأ الفضاء.." .

ازدواجية الفني والألم..

«الحق في الرحيل»، نص ينفتح على الألم ويسير مساوقا للوجع الإنساني والهجرة والرحيل والموت، والحق اختيار، مطلب في طياته إلحاح وإصرار، والرحيل يأتي في أحايين كثيرة بعد لحظات اليأس والضعف كنهاية.

عبر مراحل الرواية يظل «الحق» مُعلقا متأرجحا بين الإقدام والتراجع، والتذكر والنسيان، ليفتح للرواية مجالا للأحداث أن تتوالى وتتواشج رغم أنف أبطالها الذين وجدوا في حكاياتهم عزاء لتذليل ألم الهجرة والرحيل ويظهر الحق في الرحيل في الفصل الأخير من الرواية قويا مؤلما صادما فاتحا ذراع الألم «لإسلان» أن تذوب فيه و«لفؤاد الزموري» أن ينشطر بين الصدمة والحب والنداء المؤلم هادما ما بنته الأحلام وشيده الحب.

الرحيل، منذ صيحة الخروج/الولادة إلى الموت والإنسان يعيش رحيلا دائما، لا ينقطع، رحيل كأنه السفر بين الحياة والموت، تتقلّبه المواجع والأفراح وتتجاذبه المسافات قرُبت أو بعُدت لتجعل منه كائنا يستوطنه الألم والرحيل؛ والرحيل، مفرد بصيغة الجمع، حالات تتعدد صوره: رحيل بالذاكرة إلى ما انسحب على ذاكرة النسيان، رحيل بالبكاء والألم حين نشيع عزيزا، رحيل يومي جريا وراء لقمة العيش، ورحيل آخر المطاف حين نسند الرأس على حجر بارد أصم داخل حفرة مخيفة وباردة.

قد نرحل في أضعف لحظاتنا وأصدقها ولا نترك أثرا، وقد يكون الرحيل صمتا وهروبا، وقد يكون انهزاما أو بحثا عن حياة في ظل مسار لا يعرف الاستقرار. هل نحمل حقائبنا حين نرحل؟ هل نحمل ذواتنا وأفكارنا وعشقنا؟ أم حين نرحل نحمل آلامنا وقسوة الحياة؟

الرحيل ينسحب بين سطور النص كأفعى تجيد فخ التَّختُّل، مرة هادئا ومرة قويا ومرات مؤلما ينشر الوجع وبشاعة الحياة، كما ينشر الألم والتوسل والبكاء والضحك، حين يكون الرحيل لحظة حكيٍ لأصدقاء جمعتهم الغربة في مكان ما. في زمن ما.

الموت في «الحق في الرحيل» ليس لغزا، إنه وعيٌ بالألم حين يُسفر عن وجهه منذ أولى عتباته إلى الفصل الرابع والأخير من الرواية، والذي يجعل من الموت/الرحيل حقا تطالب به «إسلان» وبإلحاح.

الرواية جعلت من تيمة الرحيل مبتدأ ومنتهى، داخل دائرة تتسع وتضيق، تقترب وتبتعد لتُحكم خناقها على شخوصها الذين حكمت عليهم بالسفر والهجرة والاجتثاث والموت، لتعمق إحساسهم بالألم حين يقفون على حافته منكسرين أو منتصرين، يحاصرهم الألم عند منعطفات الحكي كما يحاصرنا، كقارئين، نتأرجح بين فضاءات النص، لندن، أزمور، أكادير، اليابان، التي رغم تباعدها يؤلف بينها الألم والرحيل.

الهجرة بداية الرحيل/الرواية، 30 سنة هجرة، والهجرة هجرات متعددة، والرحيل غالبا ما يأتي في صيغة الجمع، يلتصق بالقارئ وكأنه ظله ويسافر به على امتداد النص، فالنفي والكتابة بأسماء الآخرين، وموت الصغير «موسى» و «يامنة»، وسفر «إسلان» عبر العالم، وموت الشاف «هيروكي»، كلها مؤشرات تؤكد تيمة الهجرة والرحيل سواء عبر الحلم أو السفر أو الموت أو الكتابة، أليست الكتابة حلم وسفر وموت؟

السفر كما الكتابة، عبور مسكون بالغياب، ومتاهة تأخذ منك الجهد والعرق لتسير بك وأنت تكتشف ذاتك والآخر وتتكشّفُ لك أعماق ودهاليز الذوات التي تؤسس خطوات الرواية والتي كُتب عليها السير مرغمة نحو الألم والفرح تفصح عنه الكلمات المخضَّبة بالبوح والحكي الممزوج بالألم والحب والحيرة.

لعل في بعض الرحيل فرج وراحة كالرحيل إلى أعماق الذاكرة، إلى المجهول لاستحضار ماض ينفلت من بين دروب التيه والسنين (ربيعة رمز للسفر البعيد والمنفلت) تاركا أثرا عميقا لا يمحوه السفر أو إعادة الحياة عبر الحكي خلال جلسات البوح والسمر. غير أن السفر الأخير جاء قويا، صادما في الفصل الأخير من الرواية، جاء ملازما للحق كمفارقة موجعة تُوقف الزمن ليبحر «فؤاد» داخل دوامة لا ترحم، لا تترك له الخيار.

هل الحق/الاختيار صادم إلى هذا الحد؟

الحق في الرحيل، حق يُصادر أو يُلبّى؟ وكلاهما، المصادرة والتلبية، مُرٌّ يحتاج لكثير من التوقف والتفكير والنقاش والخصام، والألم. موقف صعب هذا الذي وُضع فيه «فؤاد»، يأكل دواخله ويدفعه إلى الاختيار الصعب عبر لغة رصينة هادئة محفزة تدفع القارئ إلى الانخراط في الألم الذي يستشعره حين وقف أكثر من مرة أمام «إسلان» ينظر إلى ملامح وجهها الهادئة، متسائلا، منهزما، متوسلا، هل لها الحق في الرحيل؟

هذا الفصل من الرواية يُجبر القارئ على الوقوف لطرح السؤال والنظر في لفظة «الحق»، معناها ومغزاها، عمقها وظاهرها، ومتى يؤخذ بالقوة ومتى يُعطى لنا دون طلب؟ والحق يُؤخذ ولا يُعطى، ليظل الرحيل حقّاً معلقا فاتحا للسؤال الكبير المقلق والمحرج والمؤلم الذي طرحته الكاتبة بذكاء، عبر منافذ تطل على الألم والجرح وكثير من التردد.

فهل لنا الحق في الرحيل؟

نقطة ضوء..

في خضم الرحيل والألم، وعبر امتداد النص الذي يسافر بنا ليُقربنا من وجع دفين أو حب هارب أو سؤال يتمنع جوابه عن الجلاء، ينكسر الوجع وتمَّحي الغربة والألم، ولو إلى حين، حين يبزغ كالأمل، بين اللحظة واللحظة، وجه طفل يبعث الدفء والحياة في مسار الرواية، فالطفولة نقيض الألم والرحيل، رغم أنها بداية الرحيل، إلا أنها إشارة إلى أن الرحيل لا تكتمل دائرته إلا لتنفرج عن وجه صبوح ضاحك لطفل يملأ الوجود دفئا يُنسينا الرحيل وقسوة الغربة، وصعوبة الاختيار.

***

عبد الهادي عبد المطلب

الدار البيضاء/المغرب

 

في المثقف اليوم