قراءات نقدية

كوثر البلعابي: هتون الكتابة في المجموعة الشعرية:

أبني على الغيم للشّاعر التونسي محمّد العلّاقي

** قَبل الغَيم الهَتون:

لاحظتُ عند المصافحة الأولى للمجموعة الشّعريّة: ابني على الغيم.. الصادرة عن دار البياتي للنشر والتي ابدعها الشاعر التونسى محمد العلّاقي (أصيل محافظة القصرين وأستاذ الأدب واللغة العربية بالمعاهد الثانوية وباعث منتدى انطالاس الأدبي والمشرف عليه) لاحظت انّها تمثّل مرحلة أكثر تنوّعا وانفتاحا على أنماط الكتابة الشعرية في تجربة شاعرنا الذي عرفناه آنفا في مجموعته الشعريّة الأولى: ذَوب الرّواح... منحازا الى هَيْبة القصيد العمودي.. فإذا به آنًا يطوّر تجربته باختبار قريحته في قصيد التّفعيلة (الشعر الحرّ) والقصيد النّثري أيضا.. تضمّنت هذه المجموعة أربعا وخمسين قصيدة توزعت على حوالي تسعين صفحة منها حوالي ثلاثين صفحة من الشّعر العمودي (الثلث) والبقية قصائد من الشعر الحرّ والنثري ممّا يحملنا الي القول بأن لشاعرنا نظرة في الكتابة لا تختلف عن الكثيرين من جيلنا في حسم المسائل الخلافية حول ضوابط الكتابة الشعرية ومعايير الشاعرية تمثّلت في توخّي موقف مرن مفاده (أن الشعر هو عملية خلق فنّية تنطلق من خلجات الذّات نتيجة حالة شعوريّة يعيشها الشّاعر الفنّان فيحوّلها إلى حالة شعريّة بلغة متجاوزة للغة المعاجم.. على رأي الدكتور محمد الخبو). وبالتالي تُقاس جودة الكتابة إلى مدى التوغّل والتّوسّع في توليد إمكانات تجسيد تلك الحالة الشعرية (بلغة تتجاوز لغة المعاجم) بقطع النظر عن هيكل القصيدة او وزنها او قافيتها.. وعلى هذا الأساس أكّد الدكتور مصطفى الكيلاني دوما أنّ (المعاجم هي قبور للغة الإبداع الأدبي) هكذا تراءت لي تجربة شاعرنا من خلال هذه المجموعة فيما سأحاول قشع حُجُب الغيم عمّا استطعت إليه سبيلا منها..

** الغيم: (المفتاح اللّغوي الأساسي لرؤيا الشاعر بين العنوان وألمتن)

و الغيم إسم / مصدر مذكّر يستخدم عادة للدّلالة على جمع غيمة التي هي في الأصل كتلة تكثف الماء بعد تبخّره وانخفاض حرارته في الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض وهذا المعنى طبعا لا يتناسب مع سياق اللّفظة في الجملة الفعلية التي وضعها الشاعر عنوانا لكتابه: " أبني على الغيم " فجعله قائما على الانزياح بما يمحّض الغيم ليكون أرضيّة صالحة للإنجاز والفعل وبالتالي إثبات الوجود ونحت الكيان أو (تأصيل الكيان) حسب عبارة المرحوم محمود المسعدي..

فماذا يبني لنا محمد العلاقي على الغيم في زمن ممتدٍّ من الماضي إلي الآتي حسب دلالة تصريف الفعل في صيغة المضارع؟؟ وعلى أيّ (غيم) يبني وهو يخرج بالعبارة عن سياق المعاجم؟؟

هذا البناء أو إن شئنا الإنجاز ورد مسندا إلى الأنا / الذّات الشاعرة منشئا كونا شعريا من معالم الخصب تتجاوب اصداؤه في عناوين القصائد (أغلبها من قبيل: سلوا الورد - ربيع مختلف - ابني على الغيم - نحيب الجبل - غيمة سادرة - هي الأرض -وعد الغيم...) وكذلك في مُتونها كتيمات ميّزت لغة الخطاب الشّعري سواء عبر التّوظيف البلاغي أو الرّمزي للمجاز مداره هذه الذات في علاقة بذاتها الفرد وبمحيطها الاجتماعي والثقافي والمكاني والزماني بين الانفعال والتّفاعل.. لذلك انعقدت لغة الكتابة على توظيفات متنوعة لمواقع ضمير المتكلم وطبيعة حضوره وو توظيفات متنوّعة لأبحديات الغيم والمطر والطبيعة عموما وكذلك القصيدة والكتابة في مسارات متنوّعة.. فألفيناه بناء بألواح الكلم على سوامق الغيم دَرُّهُ هتونٌ ودِيَمُ.. من هنا جاء عنوان هذه المداخلة التي حاولت أن تنفذ الي شيء من كوامن هذا الكون الشعري المبلّل بعوامل الرّواء..

** الهتون وما بعده:

يحيلنا تشكيل الكون الشعري في هذه المجموعة على النّزعة الرومنسية المرتبطة بالطبيعة الغنّاء خاصّة بالمطر سواء في ثقافتنا العربية التي يمثل الغيم فيها ظاهرة مُبشّرة بنزول المطر اي الرّواء والخصب احتفى العرب بها كحدث بمثابة عرس وجودي وخاصة منهم الشعراء (امرؤ القيس في معلّقته وعمر ابن أبي ربيعة في مواعيد غرامه تحت جناح المطر وابن خفاجة في تغنّيه بجمال المطر في الأندلس...) أو في الثقافة الغربية التي يمثل الغيم والمطر فيها رمزا للحبّ والزواج حتى أنّ النّاس كانوا يتيمّنون بالزّيجات التي تتمّ في جوّ ممطر لكونها ستعمّر طويلا حسب معتقَدهم (قابريال قارسيا ماركيز في (رواية الحبّ في المنفى) كما أن ما يخلفه جوّ الضباب والغيم والهواء النديّ المنعش وإيقاع نزول المطر من إحساس بالهدوء والارتياح والرّقّة وما يبعثه من مشاعر الحنين يمثّل أرقى درجات الإلهام لدي الشعراء والأستاذ العلاقي منهم إذ يبني على الغيم مستلمها من بواعثه المرجعيّة في جبال القصرين الغابيّة منشئا في ذات الوقت تجربة شعرية رومانسية ليس بالمعنى الغربي الوافد للظاهرة إنّما بالمعنى الدّافق بالمشاعر والتأملات في إطار كتابة معتّقة اتسمت مرجعياتها بخيارات لغوية متينة وصور مُحكمة السّبك متناسلة في مجملها من ثلاثية الأنا (الإنسان والشاعر) والطبيعة بأرضها وسمائها وفصولها وتضاريسها ومناخاتها وخاصة منها المطر وحيثياته المجاورة كما ارتسمت في (قصيدة هي الأرض ص 57:

هي الأرض من تِبر حرفي

تحوك سناها

ومن تُرب حلقي جناها...

وأرضي تعانق سحر السّماء

بأحداق تبر صفا

ربيع وصيف.. خريف شتاء...)

إضافة إلى الكتابة بحرفها وحبّرها وقوافيها وبوحها وإلهامها وأحلامها (قصيدة غيمة سادرة ص 40:

كيف اُسيل لعاب القوافي؟

لتعزف تفعيلتي عن رنين الخواء) في توليفات من تنويع الرمز  والمجاز تروم التّنميق اللّفظي ولا تكتفي باللغة الشعريّة المعتادة (قصيدة: ترصيع الحرف ص 23

سَبّاك مبنى بالبيان مرصّعا

حبّاك مغنى مطرب كرباب

بسلال من لا يحتفي برنيمه

لولا الحروف لما رسمت كتابي)

وكذلك (قصيدة: البياض ص 91

الأغاني مغسولة بدفء الثلج.. كبياض الصّباح على قلبك.. يبعثر الحنين إلى مراتع الخضرة والماء.

و لا تكتفي أيضا بإيحاءات الصورة في تشكُّلها البلاغي أو التركيبي لترتقي أحيانا كثيرة إلى التّشكّل الثّقافي (امضي ولا تغضي ص 51:

هل أستعين بعاضد فيشدّ أزري

مثل هارون لموسى....)

وكذلك (قصيدة عندما. ص 38

عندما ينداح شوقي مدلهما كغروب

يتجنّى لا يعي ما جرّفت أنهُر

 هيرقليدس الفذ من كُروب)

تتجلى الذات الشاعرة من خلالها منحازة إلى الكتابة غير المهلهلة خاصّة في الشعر الذي لا يكون ابدا تعبيرا معتادا ولعلّ التصدير الذي قدم الشاعر فيه وجهة نظره في الكتابة الشعرية ومقروئيتها يبرز تعارضه وبصرامة القوالب الجاهزة ومع الابتذال على حدّ سواء (كلّ قديم حديث في عصره وكلّ تجربة شعريّة تفرض نفسها بمستوى جودتها)

إلى المقطع الذي وضعه على ظهر الغلاف (وهو جزء من قصيدة أبني على الغيم ص 14:

أبني على الغيم صرحا من عطور النّدى

وأملأ الأفق شدوا منه مرتاحا

وأزرع العطف طيبا في رياض الجوى

يُظلّل الوجد قلبا عاج سرّاحا....)

وهذا يؤكده ايضا جنوح الشّاعر إلى المعجم الحوشي في كثير من الأحيان فنجد عبارات من نوع (الرّوق / مهصور الجناح ص15 / هملج النّوم / النّعاس الهمَيسع ص 62 / الدّجنّ ص87 / ندامة الكُسَعيّ ص91...)

لذلك لم يمنع نفسه من المباهاة بامتلاكه ناصية الكتابة في عدد من القصائد وله ذلك بالتّأكيد.

لقد حمّل الشّاعر القصيد موقفا ورسالة جماليّة فنّا ومعنى فضمّنها محتويات لها من الارتدادات نحو الذّات ما لها من الامتدادات نحو الآخر إنسانا ووطنا وحضارة ووجودا. بذلك تجاوزت رؤاه أناه الأدبيّة نحو أناه العاطفيّة في عدة قصائد منها (قصيدة: تعود الذكريات ص11

وهبتكِ قلبي صِدار الأماني

فهلّا وعيتِ مدى ما أعاني...)

فتغنّى بالحبّ وشكا الوجد والشوق بإحساس عميق. ونحو أناه الوجوديّة فتأمّل الحياة والموت ومنزلة الإنسان بينهما واستاء إزاء خريف العمر الدّاهم (قصيدة: قاسٍ عليّ ص 95

قاس عليّ ولا أعيد إلى المدى خفقانه

والعابرون كقطع شحن

ما تركوا لي من نصيبي في الوراثة

ما يصلح للحراثة...

أيّ لحن يتّكئ على مقل الغيم

ليقلب شتائي المتعَب

ربيعا لا يُترِب...)

وامدت أيضا نحو الجذور انتماء وهويّة بدءً بالعائلة (قصيدة: احتفاء بعيد ميلاد ابني عزّو ص 33) والمَنشإ (سبيطلة ص 17 وجدليان ص 20) مرورا بتونس الوطن الأول العشق والقضيّة (قصيدة قرطاج ص 15.. وقصيدة هل من سبيل إلى الإنصاف ص 30:

هل من سبيل إلى الانصاف في بلدي

أم ذاك طيف سراب خلّب نكد؟...

أنّى احتمال الهوان والبلاد لنا

عنوان فخر كغصن ماس من ملد...)

وصولا إلى العراق وفلسطين الوطن الأشمل المثخن بالجراح المنهك بالنّكبات (قصيدة: سلمتم ص 22

سلمتم يا أهالي الرّافدين

لدجلة والفرات تحيّتين...

ترانيم الهوى باحت بحرف

حدا قرطاج بابل أجمعَيْن...)

رافده في ذلك تجربة على وعي عميق بصروف الحياة يحاورها تجربيب على إلمام غير هيّن بتصاريف اللغة الشعريّة..

* آخر المطاف: أو (عرس الذيب بلهجة القصرين التونسيّة):

القصيدة بناء والجملة الشّعريّة بناء.. إلا أنّه بناء يروم (الكون فالاستحالة) في مصافّ الإبداع بصفوة الكتابة وصفوة الرّسالة الجماليّة والقيميّة.. و* أبني على الغيم * لبنة مُجزية من بناء المعنى / القيمة الفُضلى ومحطة مشرقة من بناء القصيدة في سياق الأدب التونسي، تجربة شعرية معتّقة منحازة الى الأصالة والهوية دون انغلاق منفتحة على عصرها وعلى مسار الحداثة دون انقياد أو انسياق. تتحسّس عبر التجريب ذاتها بقلق التّوق نحو أرحب الآفاق.. لذلك أراها امتدادا وإضافة لسابقتها في تجربة الشاعر محمد العلّاقي (ذوب الرّواح) ننتظر ان يواصل (غَيلانها) في مغامرة البناء على الغيم الهَتون إلى أن يصيبَ الشعرَ منه صبيبٌ نافع من رواء الإبداع تكتمل به ذاته وينهل منه القرّاء.. ألم يقل:

أعطّر بالسّحر كلّ الثنايا

أرنّح حرفي ليُرضي أناي..؟؟

***

قراءة أعدّتها الأديبة التونسية كوثر البلعابي

في المثقف اليوم