قضايا

عصمت نصار: الكذب في الثقافة الإسلامية وغرابيل الفلسفة النقدية (3)

لا ريب في أن الانتصار للعقل وتقديمه على النقل يروق للكثيرين من شبيبة هذا العصر - ولا سيما التغريبين المُقلدين لاجتراءات التفككين المعاصرين المتمردين على النسقية في السرد والدلالات والمعاني الموروثة في كل الخطابات التراثيّة - الذين اتهموا النقل بأنه ابن زمانه وواقعات عصره وتناسوا أن النقل أو الموروث العقدي، ليس هو جوهر الدين وصلب العقيدة؛ فالفقه وأصوله والكلام وآرائه لا يمثل كلاهما سوى الفهم الإنساني في ثقافة ما، للمقصد الربّاني المتمثل في القرآن بوصفه حق اليقين وصحيح المنقول؛ وكذا ما ثبت من سنة النبيّ؛ صلى الله عليه وسلم وأحاديثه التي تتفق مع القرآن أي أنها تكتسب قوة حجيتها من مطابقتها للمقصد الإلهي.

وعليه؛ فإنّ محاولات التفسير والتأويل التي استنبط منها الفقهاء والمتكلمون أحكامهم وآرائهم ما هي إلا رؤى عقليّة ليقين إلهي تنزّل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة خطاب قابل دومًا إلى الاجتهاد والتفسير والتأويل تبعًا للواقع الإنساني المعيش مع العلم بأن ذلك اليقين لا ينبغي أن نجحده أو نسير في طريق يؤدي إلى نقيض مقصده إلى درجة تكذيبه أو استبعاده، وذلك بتأويلات جاهلة أو استنباطات فاسدة أو أحكام جائرة.

وحجتنا فيما أوردناه أن العقل الحداثي المستند إلى العلم سرعان ما تمرد عليه صناعه بعد مئات من السنين بحجة أن ذلك العقل قد أغفل وجدانية الانسان وروحانياته ولم يهتم إلا بالجانب المادي من الحياة، ثم انقلب على ماديته بحجة أنه يُصلح منها فأفسدها هي الأخرى.

وما أكثر الكتابات التي تحمل غرابيل الإنسانية ضد التطبيقات العلميّة التي جعلت من الإنسان آلة لا روح فيها ومعوّل لهدم الثقافات مكتفيًا بتشييد حضارات لا وجدان فيها، ويشهد بذلك الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي (2012:1913 م) في كتابيه "الإسلام دين المستقبل" و " الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها".

وإذا ما انتقلنا إلى عقل ما بعد الحداثة فسوف نقابل غرابيل أخرى تندد بالعصر الذي سادت فيه الأيدولوجيات واصطنعت من بنيتها دينًا راديكاليًا نفعيًا يلوح بنهاية التاريخ وصراع الحضارات ونهايّة الانسان، ويكذب كل ما وقف ضد أفكار وتعاليم وأحكام هذا العقل الجديد الذي يمتلك كل معايير القيم وجميع آليات البقاء والفناء، ولم يقف هذا العقل عند هذا الحد بل قام بصناعة أكاذيب وشائعات، وروج لأوهام، وأوعز بضلالات شيطانية تحت غطاء أطلق عليه ثورة المعلومات، ومستقبل ما بعد الحداثة، والذكاء الاصطناعي.

وتحدّثنا عن ذلك عشرات الكتابات الفلسفية المعاصرة نذكر منها كتاب "تاريخ الكذب" للفرنسي جاك دريدا، وكتاب "ما بعد الحداثة والتنوير" للجزائري الزواوي بغورة، وكتاب "ما بعد الحداثة" للإنجليزي كريستوفر باتلر وكتاب "نهاية الحداثة" للإيطالي جاني فاتيمو، وكتاب "مدخل معاصر إلى فلسفة العقل" للأمريكي جون هيل، وكتاب "الدين والعقلانيّة"، و"مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو مسألة ليبرالية" للألماني يورغن هابرماس، وكتاب "ما بعد الإنسانية" للمصري أحمد عمرو، وكتاب "فلسفة العقل" للأمريكي إدوارد فيسير وغيرهم ....

وجلها يكشف عن عجز العقل المُعاصر عن إيجاد لغز لتلك الثنائية أي (بين ما نطلق عليه العقل الكامن في الدماغ، وطبيعة الأفكار والنزعات والوجدانيات والأخلاق)، ومدى إمكانية التحكم في تلك الثنائية المزدوجة التي تنتصر للعلم تارة، وتعمد إلى نشر الأكاذيب والخرافات المعرفيّة والاستئثار بالمسكوت عنه تبعًا للمنفعة والرغبة في تحقيق سعادة أرضية ويقين يثبته العلم بمنأى محافل الأكاذيب المُعاصرة؛ الأمر الذي يقودنا إلى التسليم بأن جنوحنا وجحودنا للعقل الإلهي المتمثل في حق اليقين في هذا العصر، وعزوفنا عن التفكير في حقيقة مقاصده لاستنباط الحكمة المفقودة التي تسعى إلى الخير دومًا من جهة، ويكشف عن مدى أصالة ومدى رجاحة آراء شيوخ المعتزلة، وموقفهم من حق اليقين (الوحي) من جهة أخرى، أولئك الذين جعلوا منه المرجع والمآل، والمنطلق والمقصد، في قراءة الواقع وقضاياه، ومشكلاته، واحتياجاته، والإنسان وأحواله، والمجتمع وأطواره.

ولا يحسب المتعجلون تقديم الفكر الاعتزالي (النقد العقلي) على ما نطلق عليه علم اليقين مسايرةً لـ أبي الحسن بن يحيي بن الراوندي (ت 911 م) - الذي رفع من قدر العقل على الوحي، وجعله الأساس للمعرفة وميزان المفاضلة في كل القضايا مع جحده للنبوة. كلا .. بل إن شيوخ المعتزلة في تقديمهم صريح المعقول على المنقول قد وضعوا النهج الصحيح للوصول إلى (حق اليقين)، أي أن النقد العقلي هو السبيل الأرشد للفصل بين ما حق، واختلط بعلم اليقين، والمقصد الإلهي الذي جعلوه في جل آرائهم المقصد المنشود واستمدوا منه الحجة والبرهان في التناظر والردود.

 نعم أن فكر المعتزلة في منطلقاته - قبل أن تتأثر آراء أصحابه بتصورات الفلاسفة اليونان والفرس وغيرهم من صناع العبر - هو الأنسب لمحاكاته وانتهاجه لمعالجة ثنائية المعقول والمنقول في فلسفتنا الإسلاميّة المعاصرة أي احترام الفكر المنقول بغير تقديس من جهة وفحص تصورات المعقول دون كذب أو تدليس من جهة أخرى.

***

 وإذا ما عرضنا فحص ما قدمناه من ادعاءات فعلينا بالاحتكام إلى غرابيل الفلاسفة التي صنعوها لتنقية الأفكار من الكذب، وكيفية استخدام المعتزلة لها لنقد الآراء والمعتقدات وطرائق حل القضايا التي واجهتهم خلال فجر وظهر الثقافة الإسلاميّة؛ وسوف ننتخب منها ما نحتاج إليه في حياتنا المعاصرة مثل منهجيّة الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وحكم مرتكب الكبائر من المحرمات، ومسألة التحسين والتقبيح لبعض المسائل السياسية والحكايات الشائعة عن المهدي المنتظر.

أمّا عن منهجية الدعوة؛ فهي كما ذكرنا تقديم العقل المفعم بالإيمان، أي بثابت عقدي يمثل حق اليقين، على الوعظ أو الاستشهاد بأقوال لا يفقهها المراد إجابته للدعوة التي يدعوا إليها صاحب الخطاب وقد استفاض مؤدبو المعتزلة وفقهائهم ومفسروهم في شرح هذا النهج في كتاباتهم التربوية والأخلاقية وأجوبتهم على المصاولين في المناظرات وعلى المتشككين والطاعنين فيما يعتقدون في صحته؛ فتقديمهم للعقل لا يكون إلا عند تعارض ظاهر لصحيح المنقول مع البداهة أو صريح المعقول مع قطعهم لسلامة حق اليقين أي الوحي، وتوقفهم عن الحكم في المسائل التي لا يدركها العقل، ولا قبل له للوصول إلى حكمتها الربّانيّة فهم لا يحسنون أو يقبحون ما لا يقفون على يقين خبره شأن تعليقهم الحكم على المخالفين في الدين (المسيحيين، واليهود، والصابئة) مسلّمين بقوله تعالى "إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً؛ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". "سورة البقرة الآية 62 "؛ واقتداءً بما جاء في السيرة وصحيح الحديث عن حسن وبر النبيّ صلى الله عليه وسلم باليهود والنصارى والصابئة في المعاملات مع علمه بحقيقة معتقدهم وكذا احترام حكام المسلمين بكنائسهم ومعابدهم في حين أن معظم العقائد والديانات في العصر الوسيط كما بينا سلفًا كانت شاغلة بالمعارك الدموية والمكائد والأكاذيب والتجديف والاجتراء، وغير ذلك من أشكال الكذب بين أصحاب الديانات والمذاهب الكائنة آنذاك، بل بين الفرق والطوائف وحسبنا أن إلا نستفيض في شرح نهجهم العقلي؛ فالمراد هو إثبات أن النقد العقلي عندهم هو الطريق الأرشد بوثوق الإيمان في أذهان وأفئدة أمة الدعوة وأمة الاستجابة معًا، وذلك كله انطلاقًا من درايتهم بعالمية الإسلام، وأنه دين للإنسانيّة التي لا تفلح إلا به، لذا نجد الجاحظ ينزع إلى أن العقل والشرع نوران متكاملان حيث يكمل كل منهما الآخر، ولا سيما في ميدان الدعوة والتوجيه والتربية؛ فالعقل وحده يفتقر إلى معرفة اليقين بينما الشرع يحتاج إلى العقل ليظهر حكمته العمليّة.

فالعقل عند الجاحظ هو الأساس في فهم الأمور التي يتعذر على العقل البشري تصورها بمفرده والنقل هو المصباح الذي ينقذ العقل من الريبة والشكوك في الأمور الغيبية المتعلقة بالقدرة الإلهية؛ لذا يصبح العقل والشرع نورًا على نور.

وكيف لا .. والعقل عنده هو أساس التكليف حيث إنه لا يحاسب الله الانسان إلا إذا كان عاقلًا؛ فالعقل هو مناط التكليف الشرعي وهو المعيار لفهم النصوص الشرعية وإدراك مقاصدها، ومن ثم بات التفكير والتأمل ضروريين لفهم مدلول الآيات القرآنية ناهيك عن الحكم في القضايا مثل وجوب القيادة في السياسة لإقامة العدل وحماية الأفراد.

ويناقش المعتزلة ادعاء مناظريهم بأن الانسان يكذب لأن الله كتب عليه أن يكون كذابًا فلو أراده غير ذلك ما منحه القدرة على الكذب واعطاه الدهاء وممارسة فعل الغش والخيانة والنفاق والكفر والفجور وغير ذلك من الشرور، ويجيب المعتزلة أن القول بأن الكذب ومشتقاته وتوابعه قدر كتبه الله عز وجل هو تجديف محض مستشهدين بقوله تعالى في كتابه العزير "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل"، سورة الزمر، الآية 41 .)

 (إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ {(سورة الأنفال، الآية 42).

كما يفرق شيوخ المعتزلة بين القدرة والإرادة الإنسانية؛ فالعقل الإنساني قادر على الصدق والكذب معًا، ويختار بإرادته الحرة بين الفعلين كما أن آيات القرآن تشهد بذم الباري تعالى للكذب والكذابين، فكيف يذم الكذب ويطبعه في العقل الإنساني ثم يحاسب الله الانسان على كذبه، (أي من هلك نفسه بالمعصية بعد ما عرفها فهو الهالك المهلك لها، لأنه مدخل لنفسه فيها ومن أحياها بالطاعة فقد عرف طريق الطاعة بما قلناه من تعريف الله لهم الطريقين وهدايته لهم النجدين لكيلا يكون لأحد على الله حجة) ويتضح من ذلك أمران:

 الأول: أن استخدام العقل عند المعتزلة ليس مطلقًا بل هو معصوم بالإيمان، وأن معالجتهم للقضايا لم تخرج عن كون العقل آلية لشرح وتدعيم الدليل النقلي وهو نهج جدلي مفحم في التناظر كما أشرنا.

أمّا الأمر الثاني: فيبدو في تأكيدهم على أن الكذب ليس قدر وأن كل أشكاله من ابتداع الانسان واختياره (بين الفجور والتقوى)..

وللحديث بقية عن غرابيل المعتزلة في مكافحة الكذب بنهوجهم العقلية. 

***

بقلم: د. عصمت نصار

في المثقف اليوم