قضايا
عماد خالد رحمة: هل يتوازى مفهوم الكينونة مع مفهوم الحداثة؟

سؤالٌ شغلَ الفكرَ الإنساني وامتدَّ صداه في أروقة الفلسفة والنقد والفن، حتى بدا وكأنَّه ليس مجرد قضية نظرية، بل معضلة وجودية تتصل بجوهر الإنسان ومآلات حضوره في العالم. لقد أرهق هذا السؤال الباحثين طويلاً، قبل أن تتبلور لديهم قناعة بأنَّ الحداثة، في عمقها الأقصى، ليست سوى وجهٍ آخر للكينونة؛ أو بالأحرى، هي التعبير الأكثر تمظهراً عنها. فإذا كانت الكينونة هي انكشاف الوجود في أبهى تجلياته، فإن الحداثة هي تلك الحركة التي تمنح هذا الانكشاف مضمونه الإبداعي والفعلي.
إن الإبداع الفني، حين يحقق ذاته، لا يضيف شكلاً جديداً أو مضموناً مبتكراً وحسب، بل يحقق كينونته، أي يؤسس لوجود يتجاوز الحدود التقليدية للمعنى، ويتخطى زمنه ومكانه ليبلغ مرتبة الحضور الفاعل. هنا يغدو العمل الفني كائناً قائماً بذاته، لا يستمد قيمته من مرجعية خارجية بقدر ما يصوغ قيمته في صميم كينونته الخاصة. ومن هذا المنطلق، فإن الحداثة ليست تجديداً سطحياً في المعاني أو الألفاظ أو الأساليب، وليست قطيعة شكلية مع الماضي، وإنما هي فعل وجودي، ينهض في مواجهة المألوف ليصوغ أفقاً جديداً للوعي والتجربة.
بهذا المعنى، تصير الحداثة كينونة ثانية: وجوداً موازياً لا يقل تأثيراً عن أي وجود آخر، لكنها كينونة منحازة للاعتبار الشعري، ذلك الاعتبار الذي يبتكر المختلف، ويقيم المعنى على حافة الدهشة، حيث يغدو المألوف غريباً، والغريب مألوفاً. إنها ليست مفهوماً محصوراً في أمة بعينها أو عصراً بعينه، بل هي أفق مشاع، متاح لكل كينونة تستشعر ضرورة الثورة على رتابتها، سواء أكانت فرداً أم مجتمعاً أم أمةً بأسرها. وهنا يستقيم القول مع ما ذهب إليه مطاع الصفدي حين اعتبر أن الحداثة ثورة في صميم الكينونة، وليست استيراداً جاهزاً لتقنيات أو أشكال من الخارج.
ومن هذه الزاوية، تبدو الأمة العربية والإسلامية مدعوةً إلى التحديث، لا بوصفه استجابة لضغوط الخارج أو مسايرة لركب الآخرين، بل بوصفه دعوة ذاتية تنبع من أعماق كينونتها نفسها. إن عليها أن تباشر فعل الاختلاف الجوهري الذي يُعيد تأسيس ذاتها على قاعدة الانفتاح والتجدد، لا لتستعير حداثة الآخرين، بل لتصنع حداثتها الخاصة؛ تلك التي تتكئ على إرثها الروحي والثقافي، لكنها لا تتقوقع فيه، بل تفعّله في أفق إنساني رحب. عندئذ فقط يصبح ممكناً الحديث عن حداثة عربية حقيقية، تنبثق من كينونتها، وتُسهم في الحوار الكوني للحداثات.
إن الحداثة، بهذا التصور، ليست محطة وصول، بل مسار مفتوح، وحين يلتقي هذا المسار مع سؤال الكينونة، يصبح الإبداع فعلاً تأسيسياً للحضور الإنساني، ويغدو الفكر والفن ساحة اختبار دائمة لمدى قدرتنا على أن نكون، وأن نعيد صياغة وجودنا باستمرار.
فالحداثة ليست زخرفة للوجود ولا قناعاً جديداً للحياة، بل هي ثورة في صميم الكينونة؛ لأنها تقوّض البنى المستقرة التي تجعل الوجود مألوفاً ومفهوماً، لتعيد تشكيله من الداخل. إنها فعل خلخلة يطال الأسس التي نعرّف بها أنفسنا والعالم، فبدل أن تبقى الكينونة استسلاماً لواقع جاهز، تتحول في الحداثة إلى مشروع دائم لإعادة اختراع الذات والوجود. بهذا المعنى، الحداثة ليست حدثاً تاريخياً عارضاً، بل هي مجازفة وجودية: مغامرة للكينونة كي ترى نفسها في مرايا جديدة، وتخلق معانيها الخاصة بلا وصاية من الماضي أو قوالب التقليد.
أما الإبداع، فليس ترفاً جمالياً ولا نشاطاً ثانوياً يضاف إلى الحياة، بل هو فعل تأسيسي للحضور الإنساني؛ لأنه اللحظة التي يتحول فيها الوجود من كونه معطى جاهزاً إلى كينونة واعية تصوغ ذاتها. بالإبداع يخرج الإنسان من دائرة التلقي السلبي للعالم إلى فعل الخلق، فيصبح شريكاً في إنتاج المعنى لا مستهلكاً له. إنه اللحظة التي يبرهن فيها الإنسان على حضوره، لا بمجرد البقاء، بل بإضفاء معنى على بقائه، فيصير وجوده مشروعاً مفتوحاً للتجدد وإعادة الاكتشاف.
***
بقلم: عماد خالد رحمة – برلين.