قضايا

صباح خيري: التصدي لثقافة الإشاعة وأثرها على سلوك المتعلم

في عصر الفيض المعلوماتي الذي نعيشه، حيث تتدفق البيانات من كل اتجاه، أصبحت الإشاعة كالسيل الجارف الذي يغزو العقول ويقتحم القلوب قبل أن يخضع لمحك العقل والتمحيص. إنها الكلمة التي تلقى في عَجَل، فتنمو كالنار في الهشيم، تلتهم الحقائق وتُزهق الثقات، وتترك وراءها حطام اليقين وخراب المصداقية.

وايضا في زمنٍ تتدفق هذه التكنلوجية غدت الإشاعة سيلًا جارفًا يقتحم العقول قبل الأسماع، ويغزو الوعي قبل أن يُمحّص في ميزان العقل. إنّها كلمة تُلقى بلا روية، فتتحول في فضاء التواصل إلى نارٍ تلتهم الحقيقة، وتترك وراءها رماد الثقة وخراب اليقين.

وإنّ ثقافة الإشاعة لا تنشأ من فراغ، بل تُغذّيها النفوس الضعيفة التي تجد في الغموض لذّة، وفي تضخيم الأحداث سلطة وهمية. ولذا فإنّ التصدي لها لا يكون بالمنع فقط، بل بإحياء ثقافة الوعي، وزرع قيمة التثبّت في عقول الناشئة. فحين يتعلّم المتعلم أن يسأل «من قال؟» قبل أن يقول «يُقال»، يكون قد وضع قدمه على طريق الحكمة.

أما أثر الإشاعة على سلوك المتعلم، فهو أثر خفيّ لكنه عميق؛ إذ تزرع في نفسه القلق، وتربك ميزان إدراكه بين الصواب والظن. فإذا شاع بين الطلبة خبر لا أصل له، اضطربت الثقة بينهم وبين معلميهم، وانقلبت بيئة العلم إلى ساحة شكّ ومخاوف. إنّ الإشاعة تفسد جوّ التعلم كما يفسد السمّ الماء الصافي، فلا تُبقي أثرًا للعقل إلا وقد غبّر عليه غبار الريبة.

وما أحوجنا اليوم إلى تربيةٍ تحصّن الفكر، لا تكتفي بنقل المعرفة، بل تُنبت في النفوس مناعة الوعي؛ وعيٌ يفرّق بين المعلومة والظن، وبين الخبر والحكاية. فبقدر ما ينتشر الوعي، تنحسر الإشاعة، وبقدر ما يُكرَّم العقل، تذبل الأوهام وتزهر الحقيقة.

ولمواجهة هذه الثقافة المضلّلة، لا بد من امتلاك آليات معرفة الإشاعة قبل أن نُصاب بعدواها. وأول هذه الآليات التحقق؛ فالمتعقّل لا يكتفي بما يسمع، بل يسأل عن المصدر، ويمحّص الدليل، ويزن القول بميزان العقل لا بالعاطفة. وثانيها التحليل النقدي، إذ ينبغي أن يُدرَّب العقل على كشف التناقض، وتمييز الخبر الذي يخدم الحقيقة من ذاك الذي يُغذّي الفتنة. وثالثها الوعي الإعلامي، فالإشاعة لا تعيش إلا في الظلّ، فإذا أُضيء عليها بنور المعلومة الموثوقة، تلاشت كما يتلاشى السراب عند الظهيرة.

أما في الجانب المقابل، فإنّ إشاعة المعرفة هي الدواء الذي يشفي المجتمع من سموم الإشاعة. فحين تنتشر الكلمة الصادقة، والعلم الموثوق، والفكر الواعي، تُخنق الشائعة في مهدها. نشر المعرفة عمل نبيل، يُبنى به الوعي، وتُحصَّن به العقول، وتُقام به الحصون المعنوية للمجتمع.

إنّ التصدي للإشاعة لا يكون بالصمت عنها، بل بكلمةٍ أصدق وأوضح وأقوى؛ كلمة تُقال بعلمٍ، وتُكتب بوعي، وتُتداول بنية الإصلاح لا الإثارة. فالإشاعة تُطفأ بالمعرفة، والظلام لا يبدده إلا نور الحقيقة.

جذور الإشاعة ومنابعها فهي لا تنبعث الإشاعة من العدم، بل تتغذى من منابع عدة، أبرزها:

1. النفوس الواهنة التي تتلذذ بإثارة الغموض

2. العقول الكسولة التي ترفض عناء التحقق

3. النفوس الحاقدة التي تبحث عن الإفساد

4. آثار الإشاعة المدمرة على المتعلم

وقد تمتد آثار الإشاعة إلى البنية السلوكية للمتعلم بشكل عميق، فنجد:

1. اهتزاز الثقة بين المتعلم والمعلم

2. اضطراب البيئة التعليمية وتحولها إلى ساحة شك وريبة

3. تشويه عملية التواصل التربوي الفعال

4. إعاقة بناء الشخصية المتزنة الواثقة

اما استراتيجيات المواجهة والوقاية تحتاج منا مواجهة هذه الآفة، لابد من تبني استراتيجيات متكاملة هي:

1. الوقاية الفكرية وتنمية الوعي النقدي لدى المتعلم

2. تعزيز ملكة التمييز بين المعلومة والظن، أي ترسيخ قيم الصدق والموضوعية.

فالآليات العملية:

أ. التحقق والمصادقة: تعليم المتعلم أن يسأل "من أين؟" قبل أن يقول "يُقال"

ب. التحليل النقدي: تدريب العقل على كشف التناقضات والثغرات

ج. التثقيف الإعلامي: تنمية القدرة على قراءة ما بين السطور

 اما الاليات الروحية بناء المناعة المجتمعية:

1. إشاعة ثقافة الصدق والشفافية

2. تعميم المعرفة الموثوقة

3. تعزيز الثقة المتبادلة بين أطراف العملية التعليمية

 وفي الختام لابد من بيان رؤية مستقبلية تضعنا امام بناء جيلٍ قادر على مواجهة الإشاعات يتطلب تطوير مناهج تعليمية تركز على بناء الشخصية الناقدة، إعداد المعلم القادر على غرس قيم النزاهة الفكرية، كما إنشاء بيئات تعليمية تشجع الحوار الموضوعي، تعزيز الشراكة بين المؤسسات التعليمية والأسر.

فإن معركتنا مع الإشاعة هي معركة مصيرية تحدد هوية مجتمعاتنا وتمسك بمستقبل أجيالنا. إنها ليست مجرد مواجهة عابرة، بل هي مشروع حضاري متكامل لبناء إنسان واعٍ، قادر على تمييز الحق من الباطل، والحقيقة من الوهم.

لقد أثبتت التجارب أن المجتمعات التي تنتصر فيها ثقافة التحقق والتثبت، هي المجتمعات التي تبني مستقبلها على أسس متينة من الثقة والمعرفة. وإن مسؤولية التصدي للإشاعة ليست مقصورة على فرد دون آخر، بل هي مسؤولية جماعية تشارك فيها الأسرة والمدرسة والمؤسسات الإعلامية والمجتمع بأسره.

ولنتذكر دائماً أن الإشاعة تموت حين نرفض أن نكون أدوات لنقلها، وحين نختار أن نكون حراساً للحقيقة. فالكلمة الطيبة صدقة، والكلمة المسؤولة أمانة، والكلمة الصادقة نور يضيء الطريق للأجيال القادمة.

***

ا. م. د. صباح خيري راضي العرداوي

في المثقف اليوم