قضايا
عبد السلام فاروق: رشيد الخيون.. عندما يضيء المحقق شمعة في مغارة النسيان

بين الصدفة والمصير
لطالما كانت الكتب المخطوطة أشبه بأطفالٍ يلقون في العراء، يتيهون بين أيدي الزمن والجهل، حتى يأتي من يلتقطهم بحنان العالم وخبرة المؤرخ. هذا بالضبط ما فعله الباحث العراقي البريطاني رشيد الخيون عندما أنقذ مخطوط أخبار النساء من مصير مظلم كان ينتظره بين أوراق البقالين ودكاكين الورّاقين. فوز الخيون بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2025 في فرع تحقيق المخطوطات ليس تكريماً لعمل أكاديمي جاف، بل هو احتفاء برحلة إنقاذ ثقافية تذكرنا بأن الكتب أحياء ترزق، تموت حين نهملها وتخلد حين نعتني بها .
الكتاب: كنز بين يدي البقال
في تفاصيل تصلح لأن تكون حبكة لرواية تاريخية، يروي الخيون كيف أن الصدفة وحدها هي التي أنقذت هذا المخطوط النادر. لقد كان على وشك أن يصير ورقاً للف الخضار في دكاكين البقالة، لولا أن عثر عليه بائع أوراق قديمة وعرضه على مالكه الأول . هذه الصدفة التي يتحدث عنها الخيون تذكرنا بأن الثقافة العربية ما زالت تعتمد على المفاجآت السعيدة في حفظ تراثها، بدلاً من منهجية الحفظ والرعاية. المخطوط الذي كتبه الأمير الأديب أسامة بن منقذ (المتوفى 584 هجرية) – وهو مؤرخ الحروب الصليبية والشاعر والمحارب – لم يكن مجرد مجموعة حكايات عن النساء، بل كان قطعة أدبية بديعة تصف النساء وأوصافهن وفضائلهن
ونوادر حكاياتهن بأسلوب أدبي رشيق .
التحقيق: بين العقل والقلب
ما يميز عمل الخيون في تحقيق هذا المخطوط أنه لم يكتفِ بتحقيق النص بالمعنى التقني، بل أعاد له روحه الأدبية والتاريخية. لقد أظهر فهماً عميقاً للنص وأصالته التاريخية كما ذكر بيان الجائزة . الكتاب الذي أصدره
مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية – المالك الأصلي للمخطوط – يمثل إضافة نوعية للدراسات الأدبية والتاريخية، ويُعتبر من أوائل المختارات النسائية عالمياً . هنا يتجلى فن التحقيق الحقيقي: أن تنقل النص
من عالم المخطوطة الصامتة إلى عالم القراءة الحي، دون أن تفقده رونقه الأصلي.
الخيون: الجسر بين المشرق والمغرب
ليس غريباً أن يفوز باحث عراقي-بريطاني بهذه الجائزة المرموقة. رشيد الخيون يمثل نموذجاً للمثقف الجسر، الذي يستطيع أن يترجم التراث العربي للعالم بلغة العصر، دون أن يخون أصالة النصوص. عمله في أخبار النساء يذكرنا بأن التراث العربي ليس حكراً على الجغرافيا التي ولد فيها، بل هو إرث إنساني يجب أن يصل للعالم كله. في زمن تتسع فيه الهوة بين المشرق والمغرب العربي، يأتي هذا الإنجاز ليثبت أن الثقافة العربية ما زالت قادرة على توحيد ما فرقته السياسة.
الجائزة: أكثر من مجرد تكريم
جائزة الشيخ زايد للكتاب – بفرعها لتحقيق المخطوطات – ليست مجرد ميدالية ذهبية وجائزة مالية (750,000 درهم) . إنها رسالة بأن الأمة ما زالت تحتفظ بذاكرتها، وأن هناك من يكافح ضد النسيان. في دورتها التاسعة عشرة، ضمت الجائزة فائزين من سبع دول، ما يؤكد أن الثقافة العربية قادرة على تجاوز الحدود الضيقة . تكريم الخيون هو تكريم لكل المحققين المجهولين الذين يقضون الساعات الطوال في فك رموز المخطوطات، وإعادة الحياة إلى نصوص كادت تتحول إلى تراب.
لم يعد المخطوط وحيداً
في النهاية، قصة فوز رشيد الخيون تذكرنا بأن الكتب مصائر مثل البشر. بعضها يولد في القصور ويعيش في المكتبات، وبعضها يولد في العراء ويكبر في الظل. أخبار النساء كان من النوع الثاني، لكن يد الخيون أنقذته من الضياع. اليوم، لم يعد هذا المخطوط وحيداً، بل صار ملكاً للعالم، بفضل جهد باحث رأى في الأوراق القديمة روحاً تستحق الحياة. هذا هو معنى التحقيق الحقيقي: أن تكون قنطرة بين الماضي والحاضر، بين النسيان والخلود .
لولا الصدفة التي شاءت أن يعرضه أحد باعة الأوراق القديمة، على مالكه الأول، لربما راح مستعملاً من قبل البقالين - هذه الكلمات التي كتبها الخيون على فيسبوك قد تكون أفضل تلخيص لمعنى الجائزة: إنها احتفال بالصدف التي تتحول إلى قدر، وبالكتب التي تنتصر على النسيان.
رشيد الخيون وتحدي إحياء الذاكرة المنسية:
هل نتعلم من الدرس؟
١- المخطوطات.. أيتام الثقافة العربية
في عالم يلهث وراء الجديد، يقف رشيد الخيون ليذكرنا بأن الجديد الحقيقي قد يكون قديمًا نسيناه . مخطوط أخبار النساء لم يكن مجرد كتاب، بل كان صرخة من العباسيين تصلنا عبر القرون، تقول: أنقذونا من سلة المهملات!
والسؤال الأهم: كم مخطوطًا آخر ينتظر من يلتقطه قبل أن يتحول إلى ورق تغليف؟ لقد نجح الخيون في إنقاذ نص، لكن الحرب لم تنتهِ. ففي زوايا المكتبات العتيقة وأسواق الوراقين، ما زالت كنوز مدفونة تئن تحت غبار الإهمال.
٢. لماذا ننتظر الصدفة؟!
الخيون اعترف بأن الصدفة لعبت دورًا في إنقاذ المخطوط. لكن هل يعقل أن يكون مصير تراث أمة رهين الحظ؟
- لو لم يمر ذلك البائع بالمخطوط...
- لو لم يلتفت إليه أحد...
- لو استخدم في لف الخضار...
لكان العالم خسر نصًا تأريخيًا نادرًا. أليس هذا دليلًا على أننا نعيش أزمة منهجية في حفظ التراث؟ لماذا لا تكون هناك مشاريع مؤسسية للبحث عن المخطوطات المبعثرة، بدلًا من تركها للصدف والمبادرات الفردية؟
٣. أخبار النساء .. لماذا هذا الكتاب مهم؟
بعضهم قد يسأل: وماذا لو ضاع هذا الكتاب؟ ما الخسارة؟
والجواب يكمن في ثلاث نقاط:
1. أقدم أنطولوجيا نسائية: الكتاب يُعد من أوائل المختارات العالمية التي تركّز على حكايات النساء، مما يجعله وثيقة تاريخية لا تُقدّر بثمن.
2. رؤية مختلفة للمرأة في التراث: بعيدًا عن الصورة النمطية، يقدم الكتاب النساء كصانعات تاريخ، لا مجرد شخصيات ثانوية.
3. أسلوب أدبي فريد: أسامة بن منقذ لم يكن مؤرخًا تقليديًا، بل كان قصّاصًا بارعًا يجمع بين الدقة والتشويق.
إذن، الخيون لم يُنقذ كتابًا، بل أنقذ ذاكرةً كاملةً كانت على وشك الضياع.
جائزة الشيخ زايد.. هل تكفي؟
الجائزة خطوة رائعة، لكن:.ماذا عن المخطوطات التي لم يحالفها الحظ؟
- ماذا عن الباحثين الذين يعملون في الظل دون دعم؟
- هل نكتفي بالاحتفال بالفائزين، أم نصنع نظامًا يحمي التراث من الأساس؟
ربما حان الوقت لأن تتحول الصدف إلى استراتيجية، وأن تتبنى الدول العربية مشروعًا عربيًا موحدًا للبحث عن المخطوطات المفقودة، بدلًا من تركها عرضة للعوامل والجهل.
درس من التاريخ
عندما سُئل الخيون عن سر شغفه بالمخطوطات، أجاب: لأنها أشبه بلُقى أثرية، كل حرف فيها يحمل بصمة إنسان عاش قبل قرون.
فوز رشيد الخيون ليس نهاية القصة، بل جرس إنذار: التراث العربي ليس حجرًا ميتًا، بل شعلة حية تحتاج لمن يحميها.
لا يجب أن ننتظر الصدفة، بل نصنع قدرنا الثقافي بأنفسنا.
السؤال الآن: هل نتعلم من هذا الدرس، أم سنظل نعتمد على الحظ في إنقاذ ذاكرتنا؟
***
د. عبد السلام فاروق