قضايا
محمد السليطي: فهم الدين.. من النص إلى التجربة

في زمنٍ تتزايد فيه الصراعات باسم الدين، وتتوالد فيه الانقسامات من بطون النصوص المقدسة، وتُرتكب فيه الجرائم تحت راية العقيدة، لم يعد السؤال عن "الدين" ترفًا فكريًا أو شأنًا خاصًا، بل أصبح سؤالًا وجوديًا يمسّ جوهر الإنسان والمجتمع، ويحدد مصير الأوطان والثقافات.
ليس الدين ـ كما يُتوهّم ـ هو أصل المشكلة، بل مشكلتنا تكمن في كيفية فهمنا له، وطريقة توظيفه، والعدسة التي نقرأه من خلالها: هل نقرأه بعين الوعي، أم بعين التلقين؟ هل نتعامل معه كوسيلة تحرير، أم كأداة سيطرة؟ هل نراه طريقًا إلى الله، أم جدارًا عازلًا بين الناس والله؟
لقد تحوّل الدين، في كثير من واقعنا، من دعوة إلى الرحمة والعدالة إلى خطاب للفرز والإقصاء، ومن تجربة روحية إلى صراع هويات، ومن مشروع أخلاقي إلى وسيلة تبرير للسلطة. والمؤسف أن كثيرًا من هذا التشويه يتم باسم "الدفاع عن الدين"، في حين أن ما يُدافَع عنه غالبًا ليس الدين في جوهره، بل سلطة من يتحدث باسمه، أو مصالح من يحتكر تأويله.
إننا بحاجة ملحّة لإعادة طرح السؤال الكبير: كيف نفهم الدين؟ لا لنهاجمه أو ندافع عنه، بل لنفهمه أولًا، ونحرره من التكلّس، ونحرر أنفسنا من عبوديّة الفهم الجامد له. هذا الفهم لا يبدأ من التقديس الأعمى، ولا من الشك العدمي، بل من رحلة وعي، تُعيد وصل النص بالتجربة، والتاريخ بالعقل، والروح بالأخلاق.
من هنا، ينفتح هذا المقال على ستة محاور، تحاول أن تُقارب الدين لا كقضية إيمان فقط، بل كمسألة إنسانية وثقافية وتاريخية، تحتاج إلى تأمل نقدي وتفكير شجاع..
الدين كنص مفتوح على التأويل
النص الديني ليس مجرد كلمات ثابتة وحروف جامدة، بل هو خطاب حي يتفاعل مع المتلقّي عبر العصور والثقافات. لفهم هذا، علينا العودة إلى الأصول التي تأسست عليها العلوم الإسلامية، حيث نشأت مدارس متعددة للفهم والتأويل، مثل مدرسة المحدثين، مدرسة المعتزلة، وأهل الظاهر وأهل الباطن. هذه المدارس لم تكن متعارضة فقط بل كانت تعبيرًا عن ديناميكية فكرية.
في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، كان العلماء يقرؤون النصوص الدينية بعين متفتحة، يسألون كيف يمكن أن تتجدد المفاهيم لتلائم واقع الناس دون الإخلال بمقاصد الشريعة. فمثلاً، تعدد المذاهب الفقهية كالحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي، ليس ضعفًا بل دليل ثراء فكري يسمح بالتنوع والاجتهاد.
لكن مع مرور الزمن، تحولت التأويلات إلى حدود صارمة أُغلقت الأبواب أمام الاجتهاد، وأصبح الخطاب الديني يكرّس نمطًا واحدًا يُفرض على الجميع، حتى بات بعض القراءات مجرد تكرار نصوص مغلقة لا تسمح بالحوار ولا بالتغيير. وهذا أدى إلى جمود فكر الدين، وتحوله إلى أداة في يد من يسيطرون على مفاتيح السلطة.
هنا يظهر الفرق الجوهري بين قراءة النص كـ"حقيقة مطلقة" وثابتة لا تقبل المناقشة، وبين فهمه كـ"نص حي" يتفاعل مع سياقات جديدة. التأويل إذًا ليس تحريفًا أو تخريبًا للنص، بل هو تجديد مستمر يهدف إلى استخراج الروح الأخلاقية والإنسانية التي لا تتغير.
الدين كتجربة روحية لا كهوية صراعية
الدين، في جوهره، هو علاقة روحية عميقة بين الإنسان وربه، تبدأ من داخل النفس، من عمق الشعور بالخضوع، والتوق إلى المطلق، والبحث عن السلام الداخلي. هذه التجربة الروحية تسبق أي تصنيفات اجتماعية أو سياسية، وهي ما يعطي الدين بريقه وصدقه.
في التاريخ، نجد عبر عصور عديدة كيف تحولت الروحانية إلى متنفس للإنسان المتعب من صراعات الدنيا، فقد ارتبطت الصلوات، والتأمل، والزهد، والذكر بسكون القلب وطمأنينة النفس. ومن هنا، تعلّم الإنسان التواضع والرحمة والاحترام للآخرين، بما في ذلك المختلفين عنه في الدين أو المذهب.
لكن المؤسف أن الدين في كثير من الأحيان صار مُختزلًا في هوية تعرّف الإنسان ضمن حدود طائفية أو مذهبية ضيقة، تحولت معها العلاقة الشخصية مع الله إلى معارك بين جماعات، تُستخدم لتبرير العداوة والكراهية.
ينتج عن هذا الانغلاق الفكري والعاطفي تهميش الروحانية الحقيقية، ويحل محلها تعصب متصلب، يجعل من الدين علامة تمييز لا وسيلة وفاق. المؤمن الحقيقي، الذي يعايش تجربة الإيمان الحقيقية، هو من ينبذ الغلو والتعصب، ويحتضن الآخر، ولا يرى الإيمان مجرد شعار بل ممارسة تفيض محبة وسلامًا.
لذلك، إعادة اكتشاف الدين كتجربة روحية فردية وجماعية يجب أن تكون أولوية، لفصل الإيمان الصادق عن النزاعات المذهبية، وللتمهيد لطريق يعيد للدين بريقه كمنبع للسلام الداخلي والتعايش بين الناس.
الدين كتاريخ بشري لا كقداسة مطلقة
حين نتحدث عن الدين، لا بد من التمييز الواضح بين "الرسالة الإلهية" التي هي نقية وعالمية، وبين "التدين البشري" الذي يمثل تطبيقات وممارسات بشرية متأثرة بالسياقات التاريخية والثقافية والسياسية.
التاريخ الإسلامي، مثل غيره من التواريخ الدينية، شهد صراعات وتطورات، وتداخلًا بين الدين والسلطة، ما أدى أحيانًا إلى تحوّل مؤسسات دينية إلى أدوات تحكم، وأصبح بعض العلماء والفقهاء ممارسين للسلطة السياسية بلباس ديني.
إن تمجيد تراث بعينه واعتباره مقدسًا، سواء كان فقهًا أو ممارسات، يعطّل القدرة على النقد والتجديد، ويغلق الباب أمام الاجتهاد الذي هو روح الدين الحي. فالفقه الذي وُضع في ظل ظروف معينة، قد لا يكون قابلًا للتطبيق حرفيًا في زمن مختلف تمامًا.
لا يعني هذا التقليل من قدسية الدين، بل هو دعوة لفهمه كرسالة متجددة، تتجاوز زمن النبي والمؤسسين لتلائم واقع الإنسان المعاصر. التاريخ الديني يحوي أخطاء وانحرافات وقراءات مغلوطة يجب التعرف عليها ونقدها، لكي يُستعاد جوهر الدين كمنارة هداية.
بفهم الدين كتاريخ بشري، نصبح قادرين على تحريره من أساطير العصمة المزعومة التي حصرته في كتابات وأقوال ماضية، مما يمكّننا من استثمار قيمه الإنسانية والأخلاقية بوعي متجدد يعزز السلام والعدل بدلاً من الصراع.
الدين كمشروع أخلاقي لا كمنظومة أوامر
الدين لم يُبعث ليكون مجرد مجموعة من الأوامر والنواهي، أو قائمة طقوس تُؤدى دون أثر، بل هو مشروع لصناعة الإنسان الأخلاقي، الإنسان الذي لا تقتصر علاقته بالله على العبادات، بل تنعكس هذه العلاقة في سلوكه مع الناس، في عدله، وصدقه، ورحمته، ونزاهته.
لقد وقع كثير من الخطاب الديني في فخ الشكلانية، حين ربط التدين بالمظاهر والالتزام الحرفي بالشعائر، واعتبر أن الالتزام بالأوامر كافٍ لقياس الإيمان، متناسيًا أن جوهر الدين هو الأخلاق. كيف يُفهم الدين حين يتحول إلى منظومة سلوكية تفتقر إلى الرحمة والإنصاف؟ كيف نصلي، ونصوم، ونحج، ونشهد في الوقت نفسه الظلم، والكذب، والفساد ولا نستنكره؟
الأخلاق ليست أمرًا ثانويًا في الدين، بل هي لبّه. فقد جاء عن النبي محمد: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وجاء عن الإمام جعفر الصادق: "كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم" أي بسلوككم لا بشعاراتكم.
حين يتحول الدين إلى سلّم للنفوذ، أو وسيلة لإقصاء المختلف، أو وسيلة للتمييز بين الناس باسم "الصلاح الظاهري"، يفقد معناه ويُصبح عبئًا ثقيلًا على الناس. نحن بحاجة إلى دين يُقاس بأثره في المعاملات، لا بكثرة خطبته أو طول لحيته. بحاجة إلى فهم يعيد مركزية الأخلاق في الدين، ويربط بين التعبّد والسلوك، بين الصلاة والعدل، بين الصيام والرحمة، بين العقيدة والضمير. بهذا المعنى، يصبح الدين قوة بناء لا أداة تزكية مزيفة.
الدين والعقل... تكامل لا تصادم
من أوضح ما تميزت به الرسالة القرآنية أنها لم ترفض العقل، بل خاطبته، وراهنَت عليه. فجاءت عشرات الآيات تبدأ بـ"أفلا تعقلون"، "أفلا تتفكرون"، "لعلهم يتفكرون"، في تأكيد واضح على أن الدين لا يكتمل بدون التفكير، ولا يستقيم بدون الفهم.
العقل في جوهره هو أداة التمييز، والبحث، والفهم. وبدونه يصبح الإيمان مجرد تكرار لما يُلقّن، لا قناعة حقيقية. ولهذا، فإن أعظم الإيمان ليس ما يُؤخذ عن تقليد أعمى، بل ما يُبنى على تأمل وتساؤل وتجربة ذاتية.
التاريخ الإسلامي ذاته عرف لحظات ذهبية حين ازدهرت الفلسفة، والمنطق، والكلام، جنبًا إلى جنب مع الفقه والحديث. فابن رشد، والفارابي، والكندي، وابن سينا، والغزالي، وغيرهم، سعوا إلى الجمع بين العقل والنقل، واعتبروا أن الوحي لا يتناقض مع العقل، بل يكمله.
لكن مع صعود تيارات فكرية أغلقت باب الاجتهاد، وجرّمت السؤال، وتحاشت النقاش، بدأ الدين يتحول إلى منظومة مغلقة تخاف من كل ما هو جديد. فأصبح العقل متّهَمًا، والسؤال مذمومًا، وكأن التساؤل يهدد الإيمان، لا يُعزّزه.
هذا التصادم المفتعل بين الدين والعقل، ليس نابعًا من النصوص الدينية ذاتها، بل من تحوّل الخطاب الديني إلى أداة سلطة تريد الطاعة العمياء، وتخشى كل ما يوقظ الوعي.
إن الإيمان القوي لا يخاف من العقل، بل يتغذى عليه. والإيمان الحقيقي لا يُطلب بالقهر أو القطيعة مع الفكر، بل بالحوار، والوعي، والانفتاح. والشك هنا لا يعني الإلحاد، بل يعني الحفر في المعنى، واختبار القناعة، وبناء الإيمان على أساس متين.
فالدين بلا عقل يتحوّل إلى طقوس جوفاء، والعقل بلا قيم روحية قد يسقط في العبث. والإنسان لا يكتمل إلا بهما معًا.
الدين في زمننا.. مسؤولية لا ميراث
في عالم سريع التحول، تتداخل فيه الثقافات وتتشابك فيه القيم، لم يعد كافيًا أن نُورّث الدين كما نُورّث أسماء العوائل أو عادات القبيلة. فالدين ليس عباءة تُسلَّم من جيل إلى جيل، بل مسؤولية تُحمَل بوعي، وتُجدد بفهم، وتُفعَّل بضمير حي.
الخطورة في التعامل الوراثي مع الدين أنه يجعل التدين طقسًا شكليًا، لا علاقة له بالوعي أو السلوك أو الموقف من الظلم. فيصبح الانتماء الديني تقليدًا لا سؤالًا، ويغدو الدفاع عن "الدين" دفاعًا عن الهوية الجمعية، لا عن القيم الأخلاقية التي جاء بها الوحي.
في زمن الانكشاف الإعلامي، واحتكاك الأديان، وصعود الإلحاد واللادينية، لم يعد ممكنًا الاستمرار في تقديم الدين كما قُدِّم قبل قرون، بل يجب إعادة التفكير فيه، لا من باب "تغيير الدين"، بل من باب تحريره من الكسل الذهني، ومن سلطة التكرار. التديُّن المعاصر يجب أن يكون مسؤولًا:
- مسؤولًا أمام ضمير الإنسان، لا فقط أمام سلطة المؤسسة.
- مسؤولًا في مواجهة الظلم، لا متواطئًا معه.
- مسؤولًا في إنتاج الخطاب، لا مستهلكًا لنصوص ماضوية.
نحن بحاجة إلى دين يتحدث بلغة الإنسان، لا بلغة التحذير والتكفير. دين يوسّع الأفق، لا يُغلقه. دين يُربّي على النقد والبصيرة، لا على التبعية والخوف.
إن مسؤولية المؤمن اليوم هي أن يُحرّر الدين من برودة الوراثة، ويبعث فيه دفء المعنى. أن يتعامل معه كقضية حيّة، متجددة، لا كحقيبة مغلقة، ولا كصندوق أسرار لا يُفتح. ففي عصرنا، لا يُقاس صدق الإيمان بكثرة الخطب أو عدد المساجد، بل بقدرة الدين على أن يكون صوتًا للمظلوم، وعدلًا في وجه الطغيان، وجسرًا للسلام بين البشر.
خاتمة: نحو فهم ينقذ الدين من أتباعه ... ويعيده إلى روحه
لقد آن الأوان لأن نتوقف عن التعامل مع الدين كقالب جاهز، أو تركة لا تُمس، أو سلطة لا تُسائل. الدين ليس جدارًا نحتمي خلفه لنُهاجم الآخرين، ولا بطاقة عضوية في جماعة ما، ولا ذخيرة أيديولوجية نخوض بها حروبنا النفسية والسياسية.
الدين، في جوهره، رحلة وجودية تبدأ من التساؤل لا من الحفظ، ومن التواضع لا من التسلط، ومن اختبار الذات لا مراقبة الآخرين. هو مشروع تحرر، لا مشروع تقييد. مشروع إنساني قبل أن يكون شعائري. أخلاقي قبل أن يكون سلطويًا.
إن إعادة فهم الدين لا تعني هدمه، بل إحياءه. لا تعني نزع القداسة عنه، بل تحريرها من الاستغلال. نحن لا نُشكك في جوهر الدين، بل نُشكك في الطرق المتحجرة التي يُفهم ويُطبَّق بها، وفي أولئك الذين اختزلوا الدين في طقوس ظاهرية، أو استخدموه كواجهة لسلطة ظالمة أو تجارة مقدسة.
لسنا بحاجة إلى المزيد من المتدينين الصاخبين، بل إلى مؤمنين صامتين يغيّرون العالم بسلوكهم. لسنا بحاجة إلى أصوات ترفع الشعارات، بل إلى ضمائر تعيش القيم. ولسنا بحاجة إلى اجترار الموروث، بل إلى عقل نقدي يُعيد تأويله، ويُحسن الإنصات لما فيه من جوهر حيّ، ويطرح عنه ما علق به من تشوّهات الزمن وسلطة الإنسان على المعنى.
نحن بحاجة إلى شجاعة عقلية وروحية، تضع اليد على مواطن الخلل، وتفتح النوافذ نحو أفقٍ دينيٍّ جديد:
- دين لا يُختصر في المظاهر، ولا يُختزل في التاريخ، ولا يُؤدلَج في السياسة.
- دين يتنفس عبر القلب والعقل معًا، وينبض في سلوك الإنسان لا في صراخ المنابر.
إن لم نمتلك هذه الشجاعة، سيظل الدين ضحية أتباعه، وسيرث أبناؤنا عبئًا لا نورًا، وسيُنظر إليه كمشكلة لا كحل، وكعائق لا كجسر عبور نحو إنسانية أسمى.
***
محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي
........................
المراجع والمصادر:
1. أبن رشد، تهافت التهافت.
2. أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين.
3. الجاحظ، البيان والتبيين.
4. زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي.
5. عبد الله العروي، السنة والإصلاح.
6. عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي.
7. علي شريعتي، النباهة والاستحمار.
8. فؤاد زكريا، التفكير العلمي.
9. محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية.
10. محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام.
11. محمد شحرور، الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة.
12. ماجد الغرباوي، مدارات عقائدية ساخنة.
13. نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة.
14. هشام جعيط، الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر.
15. عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة.
16. يوسف الصديق، هل قرأنا القرآن؟.