قضايا
سامح مرقس: العلم وافكار ما بعد الحداثه
طرح العديد من المفكرين الفرنسيين مثل ميشيل فوكو، جاك دريدا، جاك دييجو وجان فرانسوا ليوتار افكار ما بعد الحداثة كرد فعل لازمه الراسماليه في سبعينات القرن الماضي. جذبت هذه الافكار انتباه علماء علم الاجتماع وبعض المثقفين غير المتخصصين في مجال البحث العلمي.
تؤمن الحداثة بان الحقيقة موجوده بشكل مستقل عن الوعي البشري ويمكن معرفتها من خلال استخدام العقل، وان العلم هو وسيلة موضوعية لفهم العالم الطبيعي وقد ادي تطبيقه إلى ارتفاع غير مسبوق في مستوى المعيشة المادي للانسان وبناء حضارة حديثه تضع أعلى قيمة على فرديه حياة الإنسان وحريته.
لا تؤمن نظريه ما بعد الحداثة بقدرة العلم على حل جميع مشاكل المجتمع، وتعتقد أن العقل والعلم ليسا سوى تقاليد غربية تتنافس مع التقاليد الثقافية الأخرى للمعرفة، وترفض وجود طريقة موضوعية لإثبات الحقيقة. ومن أهم منتقدي موضوعية المنهج العلمي ”توماس كون“ الذي عرض أفكاره بأسلوب مميز في كتاب صدر عام 1962 بعنوان "هيكل الثورات العلمية"
(The Structure of Scientific Revolutions)، والذي اكتسب شعبية كبيرة، خاصه بين المتخصصين في مجال العلوم الاجتماعية.
اقترح توماس كون أن الاختيارات في المنهج العلمي لا تتم وفقًا لأدلة موضوعية، بل تخضع لقيم اجتماعية محددة مسبقًا، وأن العلم لا يتقدم من خلال التراكم الخطي للمعرفة، بل يتبع ثورات دورية أطلق عليها مصطلح "تحول النموذج“ (paradigm shift) . واشار الي ان الحقيقة العلمية في اي مرحله لا تحددها معايير موضوعية، بل تعبر فقط عن موقف المجتمع العلمي في ذلك الوقت، وان هذا الاجماع هو الذي يحدد أنواع التجارب التي يقوم بها العلماء، وأنواع الأسئلة التي يطرحونها، والمشكلات التي يعتبرونها مهمة.
ان اراء توماس كون وفلاسفه ما بعد الحداثه لا تفسد فقط التمسك بالواقعيه العلميه بل تحاول انعاش الثقة في انماط قديمه للمعرفه تم تهميشها مع التقدم العلمى.
ومن الانتقادات الموجهة إلى نظرية ما بعد الحداثة صعوبة تعريفها، وكونها مجرد مجموعة أفكار ترفض قيم الحداثة التي انتشرت في أوروبا مع الثورة الصناعية والتقدم العلمي. كما انها فلسفه تفكيكيه تعاني من التناقض، والغموض، فضلاً عن فشلها في تقديم أفكار جديدة لإعادة البناء الثقافي والفكري. على النقيض من ذلك، فقد تم بناء المنهج العلمي بعناية شديدة على مدى فترة طويلة من الزمن، وأي محاولة لتقليص موضوعية النهج العلمي سوف تجعل العلم بلا معنى.
يدرك العلماء تمامًا أن اي نظرية علميه معرضه للانهيار، ولا يوجد قبول أعمى ومتحيز لنتائج البحث العلمي، وأن مسار التقدم العلمي متعدد الأوجه، وأن تطور المعرفة العلمية ليس بالضرورة تحولات في النموذج (paradigm shift) كما اقترح توماس كون، فعلي سبيل المثال تفاصيل تطور فهم طبيعه الكون دليل قوي علي اهميه تراكم المعرفه. مثال اخر، انتقد العلماء معادله اينشتاين الخاصه باستقرار الكون وقرروا حذف الثابتً الكونيً، وهو خطأ ارتكبه اينشتاين في معادلته، ادي هذا التعديل الي اكتشاف ان الكون ليس ثابتا بل يتمدد، وهو ما اكده إدوين هابل من خلال ملاحظاته التلسكوبيه الهامه.
لا يعيب المنهج العلمي التحول في النموذج بل هذا يعبر عن نقلات كبيره في التطور العلمي من قبل عباقره قادرين علي تخيل رؤيه جديده تتعارض مع النموذج الساءد وتتجاوز مفاهيم عصرهم ومن افضل الامثله هو تطور فهم طبيعه الجاذبيه من نيوتن الي اينشتاين.
قد يكون لاراء كون حول نقد العلم ابعاد سياسيه بسبب التقدم السريع الذي حدث في علوم الفيزياء أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، الامر الذي تطلب إنفاقا حكوميا ضخما مما دفع الطبقة الحاكمة الأمريكية الي تغيير نهجها تجاه العلم والعلماء خاصه ان العديد منهم انجذبوا إلى الفلسفه الماركسية واصبحوا مهتمين بتنميه المجتمعات الاشتراكيه.
ربما ترتبط الأبعاد السياسية لآراء كون بعلاقته بجيمس براينت كونانت رايس جامعه هارفارد. حصل كون علي درجه الماجستير في الفيزياء من جامعه هارفارد عام 1949، تلاها دراسه تاريخ العلم تحت اشراف كونانت، المعروف بعدائه للفكر الماركسي، والذي كان مديرا للجنة أبحاث الدفاع الوطني خلال الحرب العالمية الثانية ورئيسا للجنة المخاطر الحاليه، وهي جماعة ضغط مناهضة للشيوعية في الخمسينيات من القرن الماضي. ادرك كونانت ضروره وجود فكر ايديولجي جديد لكبح سيطره العلم علي المجتمع مما دفعه الي تشجيع كون لدراسه فلسفه العلم .
لا شك أن التقليل من أهمية العلم وموضوعيته لا يخدم الإنسانية، لأن العلم يخدم البشر ليس فقط بتوفير الأدوات التكنولوجية التي نعتمد عليها جميعاً في حياتنا اليومية، بل أيضاً في مواجهة تقلبات الطبيعة ومعالجة أمراض مختلفة كانت قاتلة قبل التطور الحديث في العلوم الطبية والبيولوجية.
واخيرا، سوف يستمر العلم في خدمه الانسانية ورفاهيتها رغم انف المشككين ومنظري ما بعد الحداثه.
***
سامح مرقس
استاذ الاشعه التشخيصيه سابقا بجامعه شفيلد، انجلترا






