قضايا

زهير الخويلدي: في عالم الخداع الشامل.. يصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً

مقدمة: عبارة "في عالم الخداع الشامل، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً" تشكل واحدة من أكثر الاقتباسات شيوعاً في الخطاب السياسي والفلسفي المعاصر، حيث تعكس التوتر بين الحقيقة والكذب في مجتمعات تُسيطر عليها الدعاية والتلاعب. غالباً ما تُنسب هذه العبارة إلى الكاتب البريطاني جورج أورويل (1903-1950)، مؤلف رواية "1984" التي تنبأت بديستوبيا الرقابة والكذب الرسمي. ومع ذلك، يثير أصلها جدلاً أكاديمياً، إذ لا توجد أدلة قاطعة على أن أورويل قالها أو كتبها، بل إنها ظهرت في الثمانينيات كتلخيص تفسيري لأفكاره.   تهدف هذه الدراسة إلى استكشاف أبعاد هذه العبارة بمقاربة أكاديمية موسعة، مستندة إلى تحليل تاريخي، فلسفي، وسياسي. سنبدأ بمناقشة الأصول التاريخية والجدل حول النسبة، ثم ننتقل إلى أهميتها الفلسفية كهرمينوطيقا للمعنى في عصر ما بعد الحقيقة، وأخيراً دورها في السياسة المعاصرة كدعوة للمقاومة. تعتمد الدراسة على مصادر متنوعة لتسليط الضوء على كيفية تحول قول الحقيقة إلى فعل ثوري في سياقات الخداع المنهجي.

الأصول التاريخية للعبارة والجدل حول نسبتها

تعود أقدم ظهور مسجل للعبارة إلى الثمانينيات، حيث وردت في كتاب "شركاء في الإبادة البيئية: تواطؤ أستراليا في كارتل اليورانيوم" لـ"فينتورينو جورجيو فينتوريني" عام 1982، كنقش افتتاحي منسوب إلى أورويل: "في زمن الخداع، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً.

 تلاها ظهور آخر في عام 1984 في مجلة "البعد العلمي"الكندية، في رسالة من ديفيد هوفمان يقول: "أعتقد أن جورج أورويل قال في كتابه 1984 إن في زمن الخداع العالمي، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً". ومع ذلك، لا يوجد دليل يربطها مباشرة بأورويل، الذي توفي عام 1950، قبل عقود من ظهورها. بحث شامل في أعماله، بما في ذلك "1984" ومقالاته، لم يعثر على مطابقة، مما يجعل النسبة خاطئة .

 يرى الباحثون مثل محقق الاقتباسات أنها ربما نشأت كتلخيص تفسيري لأفكار أورويل حول "الكذب الكبير" و"اللغة المزدوجة" (التفكير المزدوج)، ثم تحولت إلى اقتباس مباشر بسبب الانتشار الشعبي.ومع ذلك، توجد اقتباسات مشابهة سابقة تعبر عن فكرة ثورية الحقيقة في سياق الخداع. على سبيل المثال، في عام 1912، كتبت شارلوت ديسبارد في مجلة "التصويت": "الحقيقة! لكنها بالضبط الحقيقة التي لا يمكن معرفتها من قبل الجماهير، فالحقيقة ثورية".

 كذلك، في عام 1919، كتب أنطونيو غرامشي في مقالة " النظام الجديد ": "قول الحقيقة، الوصول معاً إلى الحقيقة، هو فعل ثوري".

 في عام 1968، أعاد اللاهوتي يورغن مولتمان صياغة غرامشي قائلاً: "الحقيقة ثورية". هذه الأفكار تعكس تطوراً فلسفياً يربط بين الحقيقة والثورة، خاصة في سياقات الاستبداد والدعاية، مما يجعل العبارة جزءاً من تراث فكري أوسع يتجاوز أورويل.

في السياق العربي، تُترجم العبارة إلى "في عالم الخداع الشامل، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً"، وتُستخدم في الخطاب السياسي، كما في مقالات تناقش الكذب السياسي والفلسفة في المجال العربي والاسلامي.

 هذا الجدل حول الأصل يعزز أهميتها كرمز ثقافي، حيث تتجاوز النسبة الدقيقة لتصبح تعبيراً عن الواقع المعاصر.

الأهمية الفلسفية للعبارة: هرمينوطيقا المعنى في عصر ما بعد الحقيقة

فلسفياً، تعبر العبارة عن تحول في مفهوم الحقيقة، حيث تصبح ليست مجرد معرفة موضوعية بل فعلاً مقاوماً في مواجهة الخداع المنهجي. في فلسفة أورويل، كما في "1984"، يُعاد تشكيل الواقع عبر اللغة، مما يجعل قول الحقيقة تحدياً للسلطة التي تسيطر على "الحقيقة الرسمية". هذا يتردد في فلسفة ميشيل فوكو، الذي يرى الحقيقة كمنتج للخطابات السلطوية، حيث يصبح الكشف عنها فعلاً سياسياً.   كذلك، في فلسفة يورغن هابرماس، يعتمد التواصل التحرري على "الفعل التواصلي" القائم على الصدق، مقابل "الفعل الاستراتيجي" الخادع، مما يجعل قول الحقيقة أساساً للديمقراطية.

في عصر "ما بعد الحقيقة"، الذي وصفه أكسفورد عام 2016 كعصر يغلب فيه العاطفة على الحقائق، تصبح العبارة هرمينوطيقا لتأويل الواقع. كما يشير جورج لاكوف في فلسفة اللغة، يُعاد صياغة الحقائق عبر الإطارات، مما يجعل قول الحقيقة فعلاً ثورياً يعيد تشكيل الوعي الجماعي.

 في السياق العربي، ترتبط العبارة بفلسفة الكذب السياسي، كما في دراسات تناقش تأثير الدعاية على المجتمع، حيث يصبح الصمت تواطؤاً والصدق ثورة.  هذا البعد الفلسفي يجعل العبارة أداة للنقد الاجتماعي، حيث تكشف عن الاغتراب الإنساني في عالم الوهم.

الأهمية السياسية المعاصرة: قول الحقيقة كمقاومة

في السياسة المعاصرة، تكتسب العبارة أهمية كبيرة في مواجهة الأخبار المزيفة، الدعاية الرقمية، والحقائق البديلة. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، استخدمت خلال عهد دونالد ترامب لوصف المبلغون عن المخالفات مثل إدوارد سنودن، الذي كشف عن برامج التجسس، مما جعله "ثورياً" في عيون البعض.   في الشرق الأوسط، تُستخدم في سياق الربيع العربي، حيث أصبحت وسائل التواصل أداة لقول الحقيقة ضد الديكتاتوريات، كما في مقال يصف "قول الحقيقة عمل ثوري".

في فلسفة السياسة، ترتبط بالمفهوم الغرامشي لـ "الحقيقة الثورية"، حيث يصبح الكشف عن الخداع خطوة نحو الهيمنة المضادة.

 أمثلة معاصرة تشمل الطبيب الصيني لي ون ليانغ، الذي حذر من كوفيد-19 وتم اتهامه بنشر "الشائعات"، مما يجسد كيف يصبح قول الحقيقة جرماً في أنظمة الخداع. كذلك، في السياق الفلسطيني، يُستخدم الاقتباس لوصف الشهادات ضد الاحتلال.  هذه التطبيقات تؤكد أن العبارة ليست مجرد شعار، بل دعوة للفعل في مواجهة الاستبداد الرقمي والإعلامي.

التقاطعات بين الفلسفة والسياسة

يتداخل البعدان في العبارة كتعبير عن الثورة الوجودية، حيث يصبح قول الحقيقة تحريراً من الاغتراب، كما في فلسفة إريك فروم أو جان بول سارتر. سياسياً، يعزز ذلك المقاومة المدنية، كما في حركات مثل أنا أيضاً وحياة السود مهمة، حيث يكشف الصوت الفردي عن الخداع الجماعي.  في السياق العربي، ترتبط بالنقد الفلسفي للكذب السياسي، كما في دراسات حول "فلسفة الكذب والخداع السياسي"، التي تناقش تأثيره على المجتمع.

خاتمة

في الختام، تمثل العبارة "في عالم الخداع الشامل، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً" رمزاً للصراع الإنساني مع الكذب، رغم الجدل حول أصلها. من أصولها التاريخية في أفكار غرامشي وديسبارد إلى أهميتها الفلسفية في نقد ما بعد الحقيقة، ودورها السياسي في المقاومة المعاصرة، تظل دعوة للشجاعة الأخلاقية. في عالم يسيطر عليه الخداع الرقمي، يصبح الحفاظ على الحقيقة ليس خياراً بل ضرورة ثورية، محفزة على بناء مجتمعات قائمة على الصدق والعدالة والمساواة.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

في المثقف اليوم