قضايا

علي حسين: مئوية في الشعر الجاهلي.. طه حسين وعاصفة التراث

اعلنت ادارة معرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الجديدة التي ستعقد للفترة من 21 كانون الثاني إلى 3 شباط 2026.، الاحتفاء بكتاب طه حسين " في الشعر الجاهلي " حيث يصادف مرور مئة عام على صدوره – صدر في ايار من عام 1926 -.

في العشرين من اذار عام 1932 الحكومة المصرية تعقد اجتماعا طارئا، لم يكن على جدول اعمالها سوى قضية واحدة، وبعد ربع ساعة من الاجتماع خرج رئيس الوزراء اسماعيل صدقي الى مندوبي الصحف الذي تجمعوا بانتظار قرارات المجلس ليعلن لهم:" استنادا الى الصلاحيات المخولة لنا.. قرر مجلس الوزراء فصل الموظف بوزارة المعارف العمومية طه حسين افندي من خدمة الحكومة ".. بهذه الكلمات اعتبرت الحكومة المصرية ان الازمة التي استمرت ست سنوات كاملة، قد انتهت.

كان طه حسين قد بدا بكتابة " في الشعر الجاهلي في كانون الثاني عام 1926، وانجزه بعد شهرين لينشر في ايار من العام نفسه، وبعد خمسة اشهر من توزيع الكتاب اصدر رئيس نيابة مصر القرار التالي: بتاريخ 30 ايار سنة 1926 تقدم بلاغ من الشيخ خليل حسنين الطالب بالازهر لسعادة النائب العمومي يتهم فيه الدكتور طه حسين بانه الف كتابا اسماه (في الشعر الجاهلي)، وفيه طعن صريح في القرآن الكريم. حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم.. وبتاريخ 5 حزيران ارسل فضيلة شيخ الازهر لسعادة النائب العام خطابا يبلغ له به تقريرا رفعه علماء الجامع الازهر عن كتاب الفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية اسماه (في الشعر الجاهلي) كذب فيه القرآن صراحة وطعن على النبي (ص). واهاج بذلك ثائرة المتدينين واتى بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى. وطلب اتخاذ الوسائل الفاعلة الناجعة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة.

وبتاريخ 14 ايلول سنة 1926 تقدم الينا بلاغ آخر من حضرة عبد الحميد البنان افندي عضو مجلس النواب ذكر فيه ان الاستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية كتابا اسماه (في الشعر الجاهلي) طعن وتعدى فيه على الدين الاسلامي بعبارات صريحة واردة في كتابه. وحيث انه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري.. قد ارجانا التحقيق الى ما بعد عودته ". هكذا توالت البلاغات على النائب العامة حيث وصل عددها الى اكثر من ثلاثين بلاغا جميعها تطالب بتقديم طه حسين الى المحاكمة وحرق كتابه " في الشعر الجاهلي " بالساحات العامة.

كان طه حسين انذاك في السابعة والثلاثين من عمره، يقضي اجازة الصيف في فرنسا، لكنه فوجيء ببرقية مستعجلة يرسلها له صديقه محمد المرصفي يخبره فيها:" عرض على البرلمان كتابك في الشعر الجاهلي. ناقش البرلمان طردك من الجامعة. هدد رئيس الوزراء بالاستقاة. تدخل سعد زغلول، احيل الموضوع الى النيابة العامة. النيابة تطلب حضورك للتحقيق معك ".

لم يخبر المرصفي صديقه طه حسين بان امور اخرى جرت خلال الايام الماضية، فطلبة الازهر ومعهم بعض المشايخ تظموا تظاهرة توجهت الى بيت سعد زغلول تطالبه بالاقتصاص من طه حسين ويتحدث احد المشايخ نيابة عن المتظاهرين ليقول لسعد زغلول:" نعلن اليك يامولانا اننا كما اتخذناك سلاحا نحارب به المغتصبين، فسنتخذك سلاحا نحارب به الملحدين ".

وفي مجلس النواب كانت هناك جلسة عاصفة حيث وقف النائب مصطفى الغاياتي يقول:" ما كان المظنون به ان يوجد بين المسلمين في مصر من يجرؤ على الدين الى هذا الحد الذي بغه طه حسين افندي " ثم يطالب بحرق الكتاب ورجم المؤلف.

ويتحدث رئيس الجامعة احمد لطفي السيد ليخبر المجلس ان الجامعة منعت انتشار الكتاب بان اشترت جميع النسخ وحفظتها في مخازنها. كما اتخذت اجراءات امنع طبع نسخ اخرى.

في السادس من تشرين الاول عام 1926 يقطع طه حسين اجازته ويعود الى مصر، وفي اليوم التالي يذهب الى النيابة، فيجد القاعة الكبرى وقد امتلات بمراسلي الصحف وبعدد من علماء الازهر وطلبته

وقد انحصر التحقيق في اربع نقاط اساسية:

1- مسالة وجود النبي ابراهيم وولده اسماعيل في الجزيرة العربية

2- مسالة القراءات السبع للقران

3- الحديث حول قريش

4- وجود الاسلام في البلاد العربية

ويبدا التحقيق

س: لماذا حاولت في كتابك التعرض الى الدين الاسلامي

ج: لم اعرض بالدين، وقد اقتصر بحثي على العلم والاستدلال بالعلم

س: هل تعتقد ان القران وحده كاف لاثبات الوقائع التي وردت فيه

ج: تنقسم الوقائع الى قسمين

- الحوادث المعاصرة لنزول القران.. وهو صحيح

- الحوادث التي حدثت قبل نزول القران وهي عبارة عن قصص اراد الله بها اقناع عبيده وهدايتهم.

ان طه حسين لم يكن يتصور ان كتابه يمكن ان يثير كل هذه الضجة، فهو يعتقد ان منهجه في البحث العلمي يتيح له ان يطبق نظرية الشك التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي ديكارت على تاريخ الادب العربي ولهذا نراه يكتب في مقدمة كتابه " في الشعر الجاهلي:" ان الكثرة المطلقة مما نسميه ادبا جاهليا، ليست من الجاهلية في شيء، وانما هي منحولة بعد ظهور الاسلام، فهي اسلامية تمثل حياة الجاهليين. ولا اكاد اشك في ان ما بقى من الادب الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الادبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي ".

لعل الجزء الخطير في هذا المقطع هو اثارة الشك فيما يتعلق بالتراث العربي، ان طه حسين يشك في كل شيء، ويريد لهذا الشك ان يصبح منهجا يدرس في الجامعة فهو يكتب في بعض صفحات الكتاب:" نحن بين اثنين: إما ان نقبل في الادب وتاريخه ما قاله القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو من كل بحث، وإما ان نضع علم المتقدمين كله موضوع البحث. لقد نسيت فلست اريد ان اقول البحث، وإنما اريد ان اقول الشك ".

بعد اشهر من انعقاد المحكمة وسماع دفاع المتهم واراء بعض رجال الدين اصدر القاضي محمد نور رئيس نيابة مصر في الثلاثين من آذار عام 1927 قرار جاء فيه:" وحيث انه مما تقدم يتضح ان غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين بل ان العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه انما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده ان بحثه يقتضيها. وحيث انه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر. " فلذلك" تحفظ الأوراق ادارياً ".

تذكر سوزان طه حسين الأزمة التي اثيرت حول كتاب "في الشعر الجاهلي" فتكتب في مذكراتها: "الضجة التي اقترنت بهذا الكتاب، وثورة الجهل والتعصب التي اعقبت صدوره نعرفها جميعا، اما ما لانعرفه فهو ماكانته هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوى، لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في كانون الاول عام 1926 وانجزه في اذار من العام نفسه. "

لم يشأ طه حسين ان يرد على سيل الهجوم، هذا إلا أنه اجاب فيما بعد على اسئلة وجهها له صديقه احمد حسن الزيات ونشرت في مجلة الرسالة في عددها الصادر في ايار عام 1926.

* أية عاصفة تلك التي أثرتها يادكتور؟

- يجيب طه حسين: ضجة كبيرة لأمر تافه، ان الاستاذ الذي يلقي دروسه بأمانة كثيرا ما تعرض له في المادة التي يدرسها ملاحظات ومباحث شخصية كما تعرض له في بعض الاحيان نظريات ايضا، وطبيعي جدا ان يجمع هذه الملاحظات ويصوغها في قالب تحليلي يعرضه مع شيء من التفصيل.

* ولكنك تعرضت لمسائل تعرف انها شائكة.

- بلى، ولكني طلبت مدفوعا بشغف مهنتي الى اولئك الذين لا يعرفون مناهج النقد الحديثة والبحث الحر ألا يقرأوا كتابا لم يكتب لهم، ان كتابي جدير بما هو جدير به، وقد لا تكون له قيمة الا في نزاهة بحثه.

يذكر الدكتور طه حسين في كتابه أسباب انتحال الشعر الجاهلي، فيذكر البواعث الدينية والسياسية، وأثر القصاص والشعوبية والرواة في هذا الانتحال، ثم يستعرض الشعراء مؤكدا ما ذهب إليه من أن أكثر ما يضاف إلى هؤلاء الشعراء الجاهليين منحول، رافضا الشعر المنسوب إلى شعراء اليمن؛ لأن لليمن لغة تُخالف لغة قريش.

ويقول: " إن هجرة اليمنيين إلى الشمال مشكوك فيها أولا، وليس كل الشعراء هاجروا من اليمن ثانيا، فالشعر الذي يضاف إلى «جُرهم» وسواهم من الذين عاصروا إسماعيل منحول، وليس لليمن في الجاهلية شعراء، أما ربيعة وهى من عدنان، وتسكن في الشمال، فشعرها دون شعر المضريين، وأما مضر فكان لها شعراء يتخذون الشعر فنا، فالشعر أصل في مضر دون اليمن أو ربيعة، فنظرية تنقل الشعر في القبائل غير صحيحة، فالشعر إنما كان في مضر ثم انتقل إلى أقرب القبائل العربية إليها، وهم ربيعة ثم إلى القبائل البعيدة، كاليمن، ثم إلى الموالى وليس كما يقول علماء العربية من أن الشعر كان في اليمن، ثم انتقل إلى ربيعة، ثم إلى قيس من مضر، ثم إلى تميم، وشعراء المدينة ليسوا يمنيين، بل هم مضريون".

ويتبن لنا أن طه حسين اعتمد في بحثه على الشك في هذا التراث متخلصا من كل أفكاره القديمة التي عرفها من قبل؛ ولذلك رأى أن هذه الوفرة في الشعر الجاهلى بالفعل لا يمكن أن يقبلها عقل أو منطق؛ نظرا لأن هذا الشعر كان يُنقل شفاهة ولم يتم تدوينه، كما أن الكثير من الرواة ماتوا في الحروب وغيرها، وبالتالى لا يمكن أن يُنقل إلينا كل هذا التراث بهذه الوفرة، حيث لم تُعرف الكتابة والتدوين إلا قبل الإسلام بقرن واحد فقط من الزمان، وهو ما ينفى أن يكون كل ما وصل إلينا بالفعل من تأليف شعراء عاشوا في العصر الجاهلي.

وفى مواجهة كتاب " في الشعر الجاهلي " صدرت كتب عديدة منها: (نقد كتاب فى الشعر الجاهلي) لمحمد فريد وجدى، و(الشهاب الراصد) لمحمد لطفى جمعة، و(نقض كتاب فى الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضر حسين، و(محاضرات فى بيان الاخطاء العلمية والتاريخية التى اشتمل عليها كتاب فى الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضرى، و(تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعى و(النقد التحليلى لكتاب فى الشعر الجاهلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوى، وعشرات بل مئات غيرها من الكتب والمقالات والأبحاث.

طه حسين الذي أضاء حياتنا بوصفه مثقفا جمع بين الفكر والممارسة في وحدة متماسكة، قدم لنا المثل لما ينبغي ان يكون عليه المثقف والكاتب في ظلوطوال حياته التي بلغت الـ " 84 " عاما – توفي في الثامن والعشرين من تشرين الاول عام 1973 – يخوض معاركه قولاً وفعلاً، لم يتعب او يستكين، تنقل من معركة الى معركة، وكل معاركه هدفها اشاعة التعليم وتحرير العقول وتحديث المجتمع، مؤمنا بالدور الحاسم الذي يجب ان تلعبه النخب الثقافية التي عليها ان تتبنى مشروعا تنويرا يسعى الى توسيع قاعدة الناس القادرين على تغيير واقعهم.

كتب محمد مهدي الجواهري في رائعته " أحييك طه ":

نهضت بنا جيلاً وأبقيت بعدنا

لأبنائنا ما يحمدون به المسعى

*

أبا الفكر تستوحي من العقل فذّه

وذا الأدب الغضّ استثرت به الطبعا

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم