قضايا

عبد العزيز قريش: أسلمة المعرفة بين الإبستيمولوجيا والإيديولوجيا.. طرح إشكالي

ـ في البدء كانت الكلمة، والكلمة عنوان:

بداية أود أن أشير هنا؛ إلى أن هذه الورقة ستطرح على العقل المسلم إشكالية أسلمة المعرفة طرحا مستجدا، لا مكررا. لأن بعض المفكرين مازالوا يطرحون أسلمة المعرفة طرحا عقائديا في وجه الطرح الغربي الذي ينسب إليه المعرفة كامتداد للمعرفة اليونانية، متنكرا لحقبة طويلة مرت بها تلك المعرفة في السياق التاريخي والحضاري الإسلامي بما له من تأثير في تقعيد المعرفة في الغرب. وبما أن هذا الطرح يجد مسوغات كثيرة تبرره عقائديا. كان لزاما علينا أن لا ننساق في هذا لاستشكاله جدا. ما يدعو إلى تفكيك هذه القضية الفكرية والمعرفية والمنهجية والمفهومية إلى موادها الخام، لتشييد رؤية مختلفة لها ضمن نظرية المعرفة. ومنه؛ لن تكون هذه الورقة تفصيلا ولا تحليلا أكاديميا لموضوع أسلمة المعرفة في البعد الإبستيمي، والبعد الإيديولوجي. وإنما ستطرح الإشكالية من خلال طرح جملة من الأسئلة الجوهرية والرئيسة. تشكل الإجابة عنها طريقا نحو رؤية خاصة تخرج المعرفة من دائرة استشكال الإبستيمي والإيديولوجي الملتبس. وتأسيس رؤية مستقلة للمعرفة بعيدا عن الأبعاد التي تخندق المعرفة كفعل ونتيجة في اتجاهات معينة وتحاصرها بالإسقاط الخارجية وغير الذاتية. وعليه؛ نلج إلى العنوان.

ـ في العنوان:

هذا الموضوع قديم مستجد في نفس الآن، يأخذ عدة أبعاد الدائرة الفكرية، من خلال زوايا متعددة، تذهب إلى حد التناقض والتضاد. بما يطرح عدة أسئلة جوهرية ومركزية في ذات المعرفة وطبيعتها، وفعلها ومناهجها ونتائجها، وبراديغماتها التي تشتغل من خلالها على موضوعاتها. ما تشكل المفاهيم في هذه القضية الإطار المرجعي لمقاربتها وتناولها البحثي. وانطلاقا من هذا الإطار، سنحدد مفاهيم العنوان إجرائيا لا لغويا ولا اصطلاحيا، لتمييزها في سياق هذه الورقة، وانتفاء الصفة الأكاديمية عنها. وبذلك نقصد ب:

أ ـ الأسلمة: وتعني فعل أسلمة موضوع ما، بإدخاله في السياق الإسلامي، ووسمه بالإسلامي لإسقاطات البعد الإسلامي عليه، سواء كبناء معرفي أو كحامل لمنظومة القيم الإسلامية المتوافقة مع طبيعة أسلمته. وهنا؛ تنبعث المعضلة الكبيرة التي تواجه الباحث والدارس والمنظر الذي يريد أن يدخل الموضوع ـ هنا موضوع المعرفة ـ في الإسلام، ودمجه بشكل ذوباني في الطبيعة الإسلامية، التي نصف بها نحن المسلمون معارفنا، ونضفي عليها نكهة إسلامية. وتتمثل معضلتنا في السؤال التالي:

ـ هل المعرفة كفعل ونتيجة فيزيقية أو صورية في ذاتها وطبيعتها محايثة أم متعالية؟ ونقصد بالمحايثة؛ الوجود الداخلي الذي يدرس في سياق ذاته، ويمنحنا معرفة ذاته من خلال ذاته، بما يفيد معاني ودلالات ذاتية في طبيعته. مقابل بالمتعالي؛ الذي نقصد به الوجود الخارجي الذي يدرس في سياق خارج ذاته، نمنحه نحن معرفة ذاته من خلال ذواتنا، بما يفيد معاني ودلالات خارجة عن طبيعته. بمعنى آخر هل المعرفة في ذاتها وطبيعتها دينية أم لا دينية؟ هل يمكن أن تكون المعرفة في ذاتها مسيحية أو مسلمة أو يهودية أو بوذية أو هندوسية ... أم هذه السمة تأخذها من الإسقاطات الخارجية عن ذاتها؟ ومنه؛ لإثبات هذه القضية يجب أن تفيد الحجج والدلائل ذلك موضوعيا وعقليا، مع تحديد زمن ومكان وموضوع هذه السمة في المعرفة كذات؛ فعل ونتيجة، وأعني هنا بالسمة، هي سمة التدين بصفة عامة.

ب ـ المعرفة: وتعني المعرفة فعلا ونتيجة، والفعل هو فعل معرفي له مستلزمات ومتطلبات وشروط المعرفة ذاتها، من إطار براديغمي خاص به؛ يتضمن رؤية فلسفية أو ميتافيزيقية، وقيم، وأسئلة مركزية، ونظريات، ومنهجية، ومفاهيم ومصطلحات، وأدوات وإجراءات، ونظرة للتغيير، وشروط الممارسة، وحرية الاشتغال ... فالمعرفة كفعل عملي وكنتائج معينة تمارس إما في سياق موضوعي أو ذاتي، وهنا؛ تكون ذاتا مستقلة أو تابعة، بمعنى هل في الممارسة؛ المعرفة فعلا ونتيجة تكون محايدة أو منحازة؟ وبالتالي يمكن إدخالها في البعد الديني أو إخراجها منه. وفي إطاره هذا؛ نطرح السؤال التالي: هل المعرفة بمفهوم الفعل المعرفي ونتيجته، تتطلب بالضرورة، وبالحتمية الوجودية أسلمتها أم مسيحيتها أو تهويدها ...؟ هل هذه الإشكالية مفتعلة من قبل الانفعال السيكولوجي والانتقاء العرقي/الاثني/القبائلي/العشائري/الطائفي ... أم حقيقية واقعية في ذات وطبيعة المعرفة؟ وهل المعرفة ببعديها الفعل والنتيجة مطلقة أم نسبية؟ والمطلق والنسبي متعلق بالمصدر والمرجع، بمعنى الدين مصدر للمعرفة المطلقة، ما يستدعي توجيه الدين للمعرفة واحتضانها وتخليقها في بيئته، أو بمعنى الدين مرجع للمعرفة النسبية التي تولد في رحم التجربة الحسية، العقل " المعرفة الحصولية "، أو في رحم التأمل الميتافيزيقي " المعرفة الحضورية "، أو المنهج العلمي. فهي إن كانت مطلقة يكون النسبي تابعا، وإن كانت نسبية، فالنسبي مستقل بذاته لا تابع. ومنه؛ تكون المعرفة إما داخل السياق الديني أم خارجه.

ج ـ الإبستيمولوجيا: وتعني فعل حفري يدرس ويبحث في طبيعة المعرفة، ومصادرها، وحدودها، وكيفية اكتسابها، مع فهم كيفية معرفة الأشياء، وما يجعل تلك المعرفة صحيحة أو خاطئة، وكذا كيفية التمييز بين الاعتقادات التي تعد معرفة حقيقية وتلك التي لا تتعد كذلك. وهنا؛ بهذا المفهوم نذهب بالأسلمة أو غيرها من الأبعاد الدينية أو العقائدية، إلى الفعل بذاته، أهو فعل إسلامي أم غير إسلامي؟ وهل هو فعل موافق للشريعة ومنضبط لقوانينها وأحكامها وشروطها ومتطلباتها ومقاصدها أم غير منضبط؟ أم يبقى كذات سيكولوجية قائما في ذاته لا في خارجها؟ كما يطرح علينا سؤال أساسي ومركزي في إطار الإبستيمولوجيا. الأسلمة؛ أفعل ديني أم فعل معرفي؟ أم هما معا؟ وكيف؟ ومنه، أتقع الأسلمة في الإبستيمي أو يقع الإبستيمي في الأسلمة؟ كما يطرح هنا سؤال ضروري تفيد الإجابة عنه في تحديد طبيعة الأسلمة، وهو: الأسلمة، أهي حمى عقائدية أم حمى معرفية؟ أهي ذوبان الديني في المعرفي أو المعرفي في الديني؟ أهي نهج ومسلك أم طبيعة ذات؟ وسأضرب مثالا لهذا السؤال الأخير يفهم المقصود منه؛ نأخذ على سبيل المثال لا الحصر: الأسر ومعاملة الأسرى بين حماس والصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين. الأسر يبقى مفهوما معرفيا صوريا يفيد الاحتجاز أو السجن، فهو كفعل يبقى بعيدا عن البعد العقائدي في طبيعته، بإمساك العدو وقبضه واحتجازه وتقييد حريته. وأما معاملة الأسرى كفعل تفيد جميع الإجراءات والتصرفات التي تتخذ تجاه الأسرى وفي حقهم، سواء من حيث ظروف وشروط احتجازهم، وإيوائهم، وإطعامهم، وحمايتهم من الأذى، أو معاملتهم بإنسانية. فهذا الفعل يبقى معرفة قبل أن يكون سلوكا ونهجا بعيدا البعد العقائدي؛ لكن حينما نخرجه من المحايثة إلى السياق الخارجي، هنا يتحول المعرفي إلى العقائدي عبر النهج والمسلك. وبذلك نضفي على معاملة أسرى الصهاينة بعدا دينيا، فتغدو المعاملة كمعرفة إسلامية بفعل السلوك الإسلامي لآسري أولئك الأسرى. فتخرج المعرفة من ذاتها لتسكن ذات غيرها " العقائد ". وبذلك نكون أمام أسلمة المعرفة، لكن الحقيقة أننا أخرجنا المعرفة من طبيعة سياق ذاتها إلى سياق غيرها، فتتلبس به. وأما معاملة الصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين للأسرى الفلسطينيين هي الأخرى تتلبس بالمذهب الصهيوني اليهودي المتطرف، فتخرج من ساق ذاتها كمعرفة إلى سياق غيرها، فتكتسب البعد العقائدي. فيكون الاختلاف بين المعرفة كفعل إبستيمولوجي، وكفعل عقائدي. ويحصل المقارنة والتمايز والتمييز.

د ـ الإيديولوجيا: وتعني منظومة الأفكار والمعتقدات والقيم المنظمة لرؤى الأفراد والجماعات للعالم، والموجهة لسلوكهم ومواقفهم نحو القضايا المختلفة في عالمهم. بمعنى طابعهم الخاص بهم في رؤية الأشياء وفهمها واكتسابها ومعالجة قضاياها ومشاكلها وإشكالياتها، أي بمعنى آخر الإطار الفكري الذي من خلاله يفسرون واقعهم ويفهمونه، مع تعيين الطريقة والأسلوب الذي يعملون به في تغيير واقعهم أو الحفاظ عليه واستمراره. وهنا ينبع السؤال الرئيس؛ هل الأسلمة فعل معرفي أم فعل إيديولوجي؟ هل الأسلمة ستغرق المعرفي أم تستغرق الإيديولوجي؟ وهل هناك من ترابط وتعالق بين ما بين الديني والإيديولوجي؟ في إطار ما كان هناك تعالق بين الديني والإيديولوجي؛ ألا تتحول أسلمة المعرفة إلى إسلاموية المعرفة؟ ألا يمكن أن تتحول أسلمة المعرفة إلى أدلجتها؟ والعكس محتمل؟ أيمكن في أسلمة المعرفة فصل الديني عن الإيديولوجي، وفصل الديني عن المعرفي، وفصل المعرفي عن الإيديولوجي؟ ألا يستشكل علينا فعل أسلمة المعرفة بلحمة الإبستيمي والإيديولوجي؟ ويصعب الفصل بين هذه الأبعاد الثلاثة " الديني، المعرفي، الإيديولوجي "! ألا يتعقد طرح المسألة حين يكون المعمار المعرفي الإنساني مشيدا بفكر الإنسان كل الإنسان؟ كل زمان ومكان وإنسان وضع لبنته في تعميره. وليس لأحد الفضل على هذا المعمار في بنائه، في بعده الإنساني المحض؟ ...

ـ في الطرح الإشكالي:

انطلاقا من العنوان، يطرح سؤال جوهري ومركزي ورئيسي تتفرع عنه مجموعة أسئلة، المشكلة للطرح الإشكالي لأسلمة المعرفة، وهو: ما إذا كانت المعرفة فعلا ونتيجة مستقلة عن الدين أم متعلقة به؟ في ذاتها وطبيعتها أو في سياق ذات غيرها؟ وهو سؤال فلسفي عميق، متعلق بالداخل الذاتي أو بالخارجي الغيري أو بهما معا، وقد أثار نقاشا ومناظرات وحوارات كثيرة بين الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين على مر العصور والدهور. والإجابة عنه تقوم على الإطار الفكري، وزاوية الرؤية التي نتبناها في الإجابة، بمعنى البراديغم الذي نشتغل ضمنه. حيث يمكن النظر إليه هذا من زوايا متنوعة ومتعددة.

أ ـ المعرفة مستقلة عن الدين:

وفي سياق هذا الطرح، يتبنى العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين التفكير العلماني أو التجريبي، ومنهجه الذي يفصل بين الدين والمعرفة العلمية أو الفلسفية، التي تنشأ عن التجربة الحسية، والعقل، والمنهج العلمي بعيدا عن الدين. فالمعرفة العلمية تنشأ عن التجربة والملاحظة، وتخضع للاختبار والتعديل، كما تخضع للصواب والخطأ. وتعتمد على التكرار والتجربة المفضية إلى نفس النتائج، ولا تعتمد عندهم على المصادر العقائدية/الدينية. فتعدد الأديان عندهم يفضي إلى عدم توحيد المعرفة، إذ يلغي لديهم اعتبار الدين مصدرا معرفيا مشتركا يوحد المعرفة. حيث تاريخيا لديهم؛ تطورت المعرفة البشرية من قبيل العلوم الحقة، كالرياضيات، والفلك، والطب، والفيزياء، والكيمياء، خارج الدين أو في تحد له، في بعض الفترات التاريخية. كنظرية دوران الأرض حول الشمس، تحد للكنيسة من قبل العلم. وفي العصر الحديث، شهد المجال الفلسفي الغربي ظهور مفكرين ركزوا على دور العقل والتجربة في إنتاج المعرفة كديكارت وكانت. وفي النظريات العلمية الحديثة، تناقش وتدرس بين العلماء في إطار علمي بحت دون أي استحضار للدين، كنظرية التطور أو الفيزياء الكمية.

ب ـ المعرفة متعلقة بالدين:

في سياق هذا الرأي يتبنى العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين التفكير الشمولي، الذي يجد الدين مصدرا رئيسيا للمعرفة المطلقة والحقيقة الكاملة، باعتباره وحيا إلهيا يحمل العلم المطلق، الذي أحاط ويحيط كل الحياة علما، يتضمن منظومة أخلاقية وقيمية مثالية متعالية توجه الحياة الإنسانية جميعها، فكان منهم مثلا ابن سينا والرازي اللذين ربطا علاقة بين الدين والعلم، واعتبرا البحث العلمي من العبادة ـ وهم في اعتبارهم ذلك من الصائبين ـ. وهو الدين عندهم سواء في الفكر الإسلامي، أو المسيحي، أو اليهودي، مصدر المعرفة يوجه ويرشد العلوم والآداب؛ حيث الدين يقدم الرؤية الكلية للكون لفهمه، والإنسان، والحياة، ما لا يمكن للمعرفة وحدها أن تفعله وتحققه. كما يوفر للمعرفة الإطار القيمي والأخلاقي التي تتحرك فيه وبه، لكي لا تكون ضارة وهادمة للإنسانية كما يقع في صناعة الموت بالأسلحة المدمرة. ومنه؛ تاريخيا ساهمت بشكل وافر وفعال ومؤثر الحضارات الدينية " الإسلامية، والمسيحية، واليهودية، والهندوسية... " في تطوير المعرفة بشكل متراكم ومرصد. فكان الدين البيئة التي أسست واحتضنت البحث العلمي والفلسفي من خلال طرح الأسئلة الجوهرية على الإنسان ما تعلق منها بواقع الحال أو المحتمل أو المآل. فمثلا تطورت علوم كثيرة في الحقبة الإسلامية النيرة والمشعة كالفقه، والتفسير، والرياضيات، والفلك  ... كما كان اللاهوت المسيحي الإطار الفلسفي في أوروبا خلال العصور الوسطى.

ج ـ بين الموقفين موقف ثالث:

وهو الموقف القائل بالتكامل بين الدين والمعرفة، حيث يرى بعض المفكرين أن المعرفة ليست مستقلة بالكامل عن الدين ولا متعلقة به بشكل تام، بل توجد علاقة تكاملية بينهما كما يحدث في البينمنهجية حاليا. فالغزالي مثلا في الفكر الإسلامي قدم أنموذجا جامعا بين المعرفة العقلية والدينية، من حيث يتكامل عنده العقل والوحي لفهم الحقيقة. إذ الدين يوفر عندهم القيم الأخلاقية والإطار الوجودي، في حين تسهم المعرفة "العلم والفلسفة" في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية وتفسيرها وإيجاد الحلول لمشكلاتها وإشكالياتها وقضاياها، واستخلاص القوانين والعبر منها. وبذلك ظهر مفهوم أسلمة المعرفة في الفكر الإسلامي الحديث، لإعادة بناء وتشييد وصياغة المعرفة ضمن إطار إسلامي عقلا ومنهجا وتفكيرا. فيكون الدين فيها موجها ومرشدا وحاضنا، وليس متحكما ولا مقيد للبحث فيها. فبين الدين والمعرفة جسور متعددة، سواء في معرفة الحقائق أو في تعقلها أو الاشتغال عليها وبها.

فالروحانية والتفسير جسر يصل ما بين الدين والمعرفة؛ حيث الأول يقدم للإنسان المؤمن منظورا روحانيا، يوجهه ويرشده إلى البحث عن الحقيقة وغاية الوجود ومآلاته. فيسعى الإنسان إلى معرفة ذلك من خلال التأمل والتفكر والتدبر في الكون والحياة ومكوناتهما وقوانينهما، وبذلك البحث عن المعرفة يعد أداة أو مسلكا إلى فهم الوجود الإلهي وغاية الحياة بشكل أعمق وواضح. كما أن ترابطهما وتعالقهما ينفي التناقض بين العقل والنقل، بمعنى يرفع عنهما التناقض إلى حد يجعلهما يتكاملان في معرفة الحقائق الكونية والحياتية والوجودية. ومنه يمكن القول بأن طرح أسلمة المعرفة أحالها إلى إشكال فكري، يسع تلك الأنواع الثلاثة من الرؤى الفكرية. وهو إشكال يقوم على صياغة ذاته في التالي:

د ـ الإشكال:

في ظل عالم المعرفة، ومجتمع المعرفة، وقوة المعرفة؛ تشهد المعارف بكل حقولها ومجالاتها ونظمها وقيمها تحولات متسارعة تحصيلا وإبداعا وبحثا، تحولات ثقافية وعلمية، مما استدعى هذا التحول المتسارع  ضرورة إعادة التفكير في طريقة وكيفية تفاعل المعرفة مع منظوماتنا الفكرية والدينية تأثيرا وتأثرا. فظهرت حوارات ومناظرات ونقاشات في هذا السياق التغييري والتطوري، مقابل أطروحات فكرية بنيت على مجموع التناقضات بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الاستيلاب/ الاغتراب والاستقلال والتحرر الفكري. برزت أطروحة "أسلمة المعرفة" مشروعا فكريا في النصف الثاني من القرن العشرين، يسعى إلى إعادة صياغة العلوم والمعارف الإنسانية حسب المنظور الإسلامي، من حيث تطبيق المعايير والمفاهيم والقيم الدينية الإسلامية على مختلف ميادين المعرفة والعلوم، سواء الطبيعية منها أو الإنسانية، استجابة لمحاولات تجاوز التغريب والاستلاب الثقافي التي أثرت على المجتمعات الإسلامية بعد الاستعمار، كما يهدف في ذات الوقت إلى تقديم بديل معرفي يتجاوز الطابع المادي والعلماني للفكر الغربي.

والسؤال المهم في موقعه هذا: على افتراض أن المعرفة تتعدى الطبع الإبستيمي إلى التطبع الإيديولوجي؛ هل يمكن "أسلمة" المعرفة حقيقة بشكل كامل وشامل، بما يؤدي إلى تطور العلوم أم قد تؤدي "أسلمة" المعرفة إلى إعاقة تطورها؟ أيمكن أن تخلق الأسلمة معرفة وعلما، تتناسق وتتناغم مع القيم والمبادئ الإسلامية أم ستشكل مجرد نوع من التوفيق السطحي بين الدين والعلم، والتلفيق بينهما؟ وكيف ستجيب الأسلمة عن الأسئلة الكبرى عن إشكاليات المعرفة التي تطرحها مختلف حقول المعرفة والعلوم؟ أيمكن بالأسلمة تجاوز تخلفنا وتأخرنا الحضاري والإنساني والعلمي والتكنولوجي والرقمي؟ أيمكن للأسلمة أن تقود حوارا دائما ومستمرا بين النص الديني الإسلامي والحياة الواقعية للعالم الإسلامي، والإنسان الغربي؟ وما الإضافات النوعية التي تقدمها للمعرفي والقيمي والعملي؟ أيمكن للأسلمة أن تحل مشكل الهوية الفردية والجماعية للإنسان المسلم الضائع، الفاقد الثقة في نفسه من جهة أولى، ومن جهة أخرى تعيد تشكيل هوية المعرفة والعلوم بوضوح وتميز تام ودال؟ أيمكن للأسلمة خلق نظام ثقافي إسلامي جديد، له مفردات أبحاث تختلف عن مفرداتها السابقة التقليدية، وسماته تتخطى النظام الثقافي الإسلامي القديم؟ ألا يكمن بعد التجديد في الأسلمة؟ والتجديد الانفتاح على الآخر والتفاعل معه إيجابا لا سلبا بالرفض المطلق!

من خلال استشكال الأسلمة بين الإبستيمي والإيديولوجي؛ يرى دعاة الأسلمة أنها سبيل استعادة الهوية الثقافية والدينية للمعرفة والإنسان المسلم، في مواجهة التحديات الغربية والعولمة التي يطرحها الفكر الغربي. مقابل رؤية معارضيها، التي تفيد تهديدها للحريات الفكرية في العالم الإسلامي، مع حدها للتنوع العلمي والثقافي المطلوب لتقدم وتطور الفكر الإسلامي والإنسان المسلم، وإغماسه في الفكر الماضوي التقليدي. وتبقى عدة تحديات تواجه الأسلمة من قبيل تعاطيها ومقاربتها للعولمة، والرأسمالية المتوحشة، وحرية السوق، ومستجدات الرقميات من ذكاء اصطناعي وتكنولوجيا متجددة ... كأنظمة قائمة بذاتها، ومجموع القضايا التي تطرحها على العالم بما فيه العالم الإسلامي، وعلى الإنسان المسلم. فكيف يمكن ـ إذن ـ التوفيق بين الالتزام بالمبادئ الدينية وتطوير المعرفة العلمية الحديثة؟ وما دور المفكرين والفلاسفة والباحثين والمثقفين والمؤسسات الأكاديمية في تحقيق هذا التوازن بين الأسلمة والمعرفة؟ ... ومن هنا؛ تبقى مسألة " أسلمة المعرفة " إشكالية قائمة ما بين الإبستيمي والإيديولوجي، تستمد استشكالها من تداخل هذين البعدين فيما بينهما، في انفتاح على أبعاد أخرى من دائرة الإبستيمي كالبعد السياسي والثقافي والاجتماعي، مع استحضار مكونات الإبستيمي؛ من معطيات أولية للمعرفة، وأنماط التفكير، والمفاهيم الأساسية، ومنهجيات ومسلكيات إجرائي، والمؤسسات المنتجة للمعرفة، والخطابات المسيطرة، وحدود المعرفة، والعلاقات بين السلطة والمعرفة ...

والأسلمة ليست فعلا فكريا أو عمليا سهل المنال، فكل مفردة فيها ومنها تطرح إشكالا على مستوى القبول أو الرفض، خاصة للعقل العلمي الذي يؤمن بالمنحى التجريبي والوقائع الواقعية والموضوعية التي تعطي الدليل على حجية المعرفة وصدقها وحقيقتها وصوابيتها، أو للعقل الديني العاطفي الذي يؤمن أن الدين احتوى كل الحقائق ولم يترك للإنسان شيئا يذكر، سوى عبادة الرحمن على طريقة الصوفية لا طريقة العلماء ـ ليس بالمفهوم الإسلامي وإنما بالمفهوم الغربي ـ الذي يلغي العقل ويعتمد النقل. فكيف للأسلمة أن تثبت في عاصفة المتغيرات الفكرية المتسارعة وتتحدى إشكاليات مواجهة الممارسة المعرفية؟ ...

***

عبد العزيز قريش

في المثقف اليوم