قضايا

علي حسين: عندما طرح أرسطو السؤال الازلي: كيف يجب أن نعيش؟

مثلما كان افلاطون تلميذا لسقراط، عاش ارسطو اكثر من عشرين عاما وهو يستمع الى دروس معلمه افلاطون في الاكاديمية، ومثلما كان افلاطون معلما للحاكم ديون، اصبح ارسطو معلما لابنه الاسكندر، وفي كلتا الحالتين كان افلاطون وارسطو يودان ان تتجسد تعاليمهم في نظام الحكم، ومثلما اسس افلاطون مدرسته، تمكن ارسطو ان يؤسس المدرسة " المشائية " وكان الطلبة فيها يتفلسفون وهم " يتمشون " بين الاروقة.

ولد ارسطو في مقدونيا سنة 384 ق.م، ونعرف أن والده كان طبيباً في بلاط ملك مقدونيا، قد أرسل ابنه وهو في السابعة عشرة إلى أثينا، وهناك التحق الأكاديمية افلاطون، واستقر لعشرين عاماً كطالبٍ في البداية، ليتحول في النهاية إلى مدرسٍ فيها، غادر أرسطو الأكاديمية في السنة التي توفي فيها معلمه أفلاطون، وبعد فترة من السفر عاد إلى أثينا ليؤسس فيها المشائية، وقد بقي أرسطو في المدرسة حتى العام 323 ق. م، حيث اصبحت علاقته سيئة بالطبقة الحاكمة، فقد كان يرفض اي اتهام يوجه الى الفلسفة، عاش سنوات الاخيرة منفيا في جزيرة وابيه وتوفي فيها عام 322 ق.م

شكل كل من سقراط وأفلاطون وارسطو سلسلة مترابطة، ولاننا نؤمن بما قاله ديورانت من ان العباقرة لا يولدون من لاشيء، ولهذا كان هؤلاء الثلاثة معلمون ملهمون، لكن برغم ارتباطهم إلا ان افكارهم كانت مختلفة، لم يكونوا يرددون ما يقال لهم، كان لكل واحد منهم اشتغالاته الخاصة. بتعبير ادق كان سقراط متحدثا عظيما، وكان أفلاطون كاتبا ممتازا وكان أرسطو مفكرا يهتم بكل الاشياء، كان سقراط وأفلاطون يرون ان العالم الذي لا يمكن إدراكه إلا بالتفكير الفلسفي المجرد. وكان أرسطو، يعتقد ان التجربة والمعاينة هي التي تشرح لنا ما يدور حولنا في العالم، وكان ارسطو يرى أن للمخلوقات البشرية وظيفة مهمة وهي قدرتها على التفكير بما يجب ان تفعله، ولهذا اعتبر أن أحسن نوع للحياة بالنسبة للمخلوقات البشرية هي الحياة حيث نستعمل قدراتنا العقلية.

كان السؤال الذي يشغل الفلاسفة هو :"كيف يمكننا أن نزيد حظوظنا من السعادة ؟". وكان سقراط يصر إن السؤال يجلب لنا الحقيقة وهذه الحقيقة هي التي ستدلنا على السعادة، في الوقت الذي كان فيه افلاطون يرى ان السعادة تقوم على نوع معين من التناغم والانسجام بين الرغبات والأهداف، فيما أصر أرسطو أن يخبرنا إن الاحساس بالسعادة سيقودنا إلى السلوك الحسن.

أرسطو الذي كان يطرح على تلامذته سؤالاً هو: "كيف يجب أن نعيش؟". وكان يعتقد إن الاجابة عن هذا السؤال هي الطريق إلى الفلسفة ولهذا ظل طوال حياته يرفع شعار " إبحث عن السعادة" .

ماذا تعني عبارة "إبحث عن السعادة"؟ تعني عند أرسطو اكتمال الفضائل في النفس، وهو يعتقد إن كل فضيلة توجد في الوسط بين طرفي نقيض. توجد الشجاعة مثلها في الوسط بين الجبن والتهور.

يعتقد الكثير من فلاسفة العصر الحديث بأن أرسطو كان محقاً في ما يتعلق بأهمية تطوير الفضائل كما أن رؤيته لما تعنيه السعادة كانت دقيقة وملهمة. يعتقدون بأنه عوض السعي إلى رفع نسبة المتعة في الحياة، يجب أن نحاول أن نكون أحسن وأن نفعل الشيء الصحيح. هذا ما يجعل الحياة تسير على ما يرام.

كل هذا يجعل الأمر يبدو وكأن أرسطو كان مهتماً فقط بالتطوير الذاتي للأفراد. لم يكن كذلك. يبين أرسطو بأن المخلوقات البشرية هي مخلوقات سياسية. نحتاج أن نكون قادرين على العيش مع الآخرين، ونحتاج إلى نظام للعدالة حتى نتعامل مع الجانب الأسود من الطبيعة البشرية. لا يمكن أن تدرك السعادة إلا في علاقة مع الحياة في المجتمع. نعيش معاً، ونحتاج أن نجد السعادة بالتفاعل جيداً مع الناس الذين يحيطون بنا في دولة سياسية منظمة.

كان أرسطو يوصف بانه ذكي جداً وكانت أبحاثه شاملة وجامعة لدرجة أن مَن يقرأ أعماله يعتقد أن أرسطو محقاً في كل شيء. وبعد مئات السنين على وفاته، كان العلماء الذين عاشوا بعده يقبلون أفكاره حول العالم على أساس أنها صحيحة بلا جدال. إذا استطاعوا أن يثبتوا أن أرسطو قال شيئاً، كان ذلك كافياً بالنسبة إليهم. هذا هو ما يسمى أحيانا "سلطة أرسطو" التي ظلت تهيمن على الفلسفة لاكثر من خمسة عشر قرنا،

عاش أرسطو حياته مفتوناً بالعديد من هذه الأسئلة الفلسفية، لكنه كان يميل إلى الإجابة عنها بطريقة يمكن أنْ نطلق عليها اسم "علمية". لقد كان، مثل أفلاطون، فيلسوفاً، لكنه كان فيلسوفاً طبيعياً، وهو ما نسميه "عالِماً". كان فرع الفلسفة الذي يثير حماسه أكثر هو المنطق - كيف يمكننا التفكير بشكل أكثر وضوحاً -. كان دائماً مشغولاً بالعالم من حوله، بالأرض والسماء، وبطريقة تغير الأشياء في الطبيعة. .عاش ارسطو ومات عاشقا للحكمة. أمضى حياته في محاولة لفهم العالم من حوله، وبطرق نرغب أنْ نصفها الآن بالعلمية. لقد أثّرت رؤيته للأرض ومخلوقاتها والسماوات المحيطة بها، في فهمنا لأكثر من 1500 سنة. لقد تفوق أرسطو جنباً إلى جنب مع جالينوس، على جميع المفكرين القدماء. بالطبع فإنه بنى على ما مضى،، لكنه لم يكن فيلسوفاً متعالياً. لقد انخرط بالفعل مع العالم المادي عندما كان يحاول فهمه.

مثل كثير من القراء العرب تعرفت على ارسطو من خلال ترجمات احمد لطفي السيد، وهو مفكر مصري، يعد من رواد النهضة العربية الحديثة، وقد ترجم الى العربية بعض كتب ارسطو اشهر السياسة، الكون والفساد، وكتاب علم الاخلاق " وقد ترجم لطفي السيد هذه الكتب في عشرينيات القرن الماضي .. وقد وجد لطفي السيد في فلسفة ارسطو بانها الاقرب الى تفكيرنا الحديث، ونجده يقول :" ان بعض الناس سيتسائلون هل نحن في حاجة الى ارسطو في عصرنا الحاضر " ويجيب :" ان فلسفة ارسطو اساس من اسس المدنية الغربية ن وسيظل التفكير الغربي عندنا مستعارا ما لم يتطور تاريخ الفكر عندنا على غرار تطوره في اوربا " .

لعلة نقط البدء في فلسفة ارسطو هي تمجيد العقل، لانه يؤمن بان الناس مخلوقات عقلانية تتخذ القرارات التي تقودها الى الخير، وان ملكة العقل هي اسمى الخيرات، :" ان التامل والمعرفة جديران بان يسعى اليهما الانسان، إذ بغيرهما يستحيل على المرء ان يحيا الحياة التي تليق بانسنيته " . وككائنات عقلانية تاتي سعادتنا العظمى من الخيارات التي وصلنا اليها من خلال العقل، وأرسطو في الواقع أساس النزعة الإنسانية الأوروبية كلها. فالفلسفة كما اراد لها ارسطو هي المحاولة العنيدة المستمرة لوضع العقل في العالم.

ورحم الله ابو العلاء المعري الذي قال :

كذب الظن لا إمام سوى العقل

مشيراً في صبحه والمساء

 يلاحظ ارسطو في كتابه علم الاخلاق ان كل سعي انساني وكلل عمل يتطلبان خيرا ما، على انه غاية لهما . فاذا كان هناك عدد كبير من الاعمال المختلفة، فهناك انواع كثيرة من الخيرات . بيد ان هذه الخيرات كلها يخضع بعضها لبعض حتى نصل الى الخير الاعظم . هذا الخير الاعظم في نظر ارسطو هو السعادة :" ان السعادة هي الخير الوحيد الذي يكتفي بذاته، انها الخير المطلق " .

يري الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في كتابه " اجمل قصة في تاريخ الفلسفة " أن أرسطو لم يكن فيلسوفاً تأمّلياً، وإنما كان يرى العالم بعين الفلسفة، ويدرّبنا على أن نتفق على ثوابت الحياة كجماعة إنسانية، وأن نعي الوجود جيداً، يكتب أرسطو: "يجب أن نختبر ما قُلناه سابقاً ثم نختبر صحته بمقارنته بحقائق الحياة، فإذا ما وجدناه يتّفق معها فعلينا إذن أن نقبله، وإذا ما تعارض معها فلا مفرّ من التسليم بأنّه محض حديث نظري".

يكتب فيري أن أرسطو تمكّن من تخصيب الفلسفة بالملاحظة اليومية للحياة

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم