قضايا
سجاد مصطفى: أنا أفكر إذن أنا موجود

تلك الجملة التي استقرّت في ذاكرة التاريخ الفلسفي وأيقنت للإنسان أبهى لحظة من لحظات تأمله الذاتي: أنا أفكر إذن أنا موجود (Cogito, ergo sum).
عبارة رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، التي حاول بها أن يؤسس اليقين الأول في رحلة الإنسان نحو المعرفة، واستكشاف جوهر وجوده.
لكن، هل حقًا يكفي أن أفكر لكي أكون؟. هل يختزل الوجود في مجرد عملية ذهنية، في هذا النشاط العقلي الضيق الذي نسميه تفكيرًا؟
هذه العبارة تبدو في ظاهرها واضحة وبسيطة، لكنها تنطوي على عمق لانهائي من التساؤلات التي ما زالت تثير جدلًا فلسفيًا معاصرًا.
ديكارت حاول أن يجد نقطة يقينية يتجاوز بها الشك، فوجد أن الشك نفسه يفترض وجود من يشك، ومن ثم فالفكر دليل وجود الذات. إلا أن هذه الحتمية العقلية لم تخلو من نقاد، ولا من تحديات حادة.
فلسفيًا، أول ما يثيره النقاد أن أنا أفكر لا تضمن بالضرورة وجود كيان مستقل وثابت. قد يكون الفكر ظاهرة عابرة، لحظة وعي قصيرة، وليست دليلاً كافيًا على ذات ثابتة ومستقلة.
الفيلسوف الألماني هيغل مثلاً رأى أن الذات لا تُعرَّف بالفردية المجردة وإنما في سياق الوعي الجمعي والتاريخي. وهذا يعني أن وجود الإنسان لا يتوقف على تفكيره الفردي فقط، بل هو مشروط بالبيئة، بالتاريخ، بالآخرين.
وفي العراق، حيث تتشابك الهوية مع التاريخ المضطرب، تبدو مقولة ديكارت غير كاملة. ففي مجتمعٍ لا تزال الحكايات والذاكرة الجماعية تسير كنبع لا ينضب، لا يمكن للإنسان أن يدعي وجوده فقط من خلال فكره، بل عبر ذاكرة تشكل الذات والوعي.
قال الفيلسوف العراقي هادي العلوي: الذات الحقيقية ليست ما نفكر فيه لحظة بل ما نحتفظ به من تجارب وتاريخ وموقف.
هذا يقودنا إلى فكرة أن الوجود ليس مجرد فعل تفكير، بل هو امتداد حي للتاريخ والذاكرة والاختبار. لذا فإن الذات لا تتبلور فقط في اللحظة الراهنة، بل عبر الزمن المستمر.
أما إيمانويل كانط، فذهب أبعد من ذلك حين أكد أن الفكر يحتاج إلى حس ليُنتج معرفة حقيقية. بمعنى آخر، التفكير ليس نشاطًا داخليًا منفصلاً، بل هو مرتبط بالتجربة الحسية والتفاعل مع العالم الخارجي.
وهذا ينقلنا إلى فكرة أن الوعي بالوجود يتطلب الانفتاح على العالم، والتفاعل معه، وليس العزلة الفكرية فقط.
كما أن فيلسوفنا العراقي عبد الجبار عبد الله، انتقد مفهوم الذات ككيان منفصل قائلًا: الفردية لا تتجلى في العزلة عن الآخر، بل في العلاقة مع الآخر؛ الذات لا وجود لها إلا في الحوار.
من هنا، نرى أن عبارة ديكارت رغم عظمتها، ليست محصنة من النقد، ولا تمثل إجابة نهائية عن السؤال الأزلي: ما هو الوجود؟
الجدير بالذكر أن هذه العبارة كانت حجر الأساس في تأسيس الحداثة الغربية، إذ فجرت قطيعة مع عالم العصور الوسطى الذي كانت فيه الحقيقة ترتبط بالخارج، بالخالق، وبالعادات، لتبدأ رحلة الفرد نحو بناء معرفته بنفسه.
لكن مع تقدم الفلسفة، ظهر أن الوعي بالذات لا ينفصل عن العالم والتاريخ. فالذات والوجود ليسا مجرد فعل فكري منفصل بل هما لحظة تاريخية وثقافية وعلاقة إنسانية.
وبذلك، نكون أمام رؤية أكثر ثراءً للوجود: الإنسان موجود ليس فقط لأنه يفكر، بل لأنه يتفاعل مع ذاته والآخرين، مع بيئته، مع تاريخه، ومع قيمه.
فالفكر هو نقطة انطلاق، لكنه ليس نهاية المطاف. وهنا تكمن معركة الوعي: هل نكتفي بأن نكون مجرد مفكرين منعزلين، أم نمد جذورنا في العالم، لنصبح ذوات متجذرة في التاريخ والواقع؟
لكن ماذا لو قلتُ لك: أنا أشعر، إذن أنا أعمق من مجرد وجود. فالوعي الفكري وحده لا يكفي لاحتضان عمق التجربة الإنسانية. فأنا أفكر تشير إلى نشاط ذهني مجرد، بينما أنا أشعر تغوص في بحر التجربة الحيّة التي تشكل ماهية الإنسان.
الفيلسوف الفرنسي ميشيل مرلو-بونتي، أحد أعظم فلاسفة الظاهراتية، يرى أن الوعي الجسدي والشعور ليسا مجرد نتاج التفكير، بل هما جوهر الوجود.
الإنسان ليس فقط كائنًا مفكرًا، بل هو جسد يشعر، يعاني، يفرح، يحب، ويعيش العالم عبر جسده وروحه.
ذلك الشعور هو ما يجعل الوجود حيًّا، متألقًا، ذا بعد إنساني لا يُختزل في مفاهيم مجردة.
وبعبارة أخرى، إن شعورنا بالوجود معناه أننا نحتضن اللحظة بكل أبعادها، لا الفكر فقط، بل العاطفة، الحواس، والانغماس في العالم.
هذا الشعور هو من يصنع معناها، وهو الذي يُكسر برودة التفكير الجامد.
كما يقول الفيلسوف العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي:
الوجود لا يكتمل إلا حين يصاحبه نبض القلب وشعور الروح، فالألم والحب والغضب هي التي تمنح لحياتنا عمقًا، لا مجرد فكرة فارغة.
فهل نكتفي بأن نكون مفكرين، أم نريد أن نكون كائنات حية تنبض بكل أبعاد الإنسان؟
هذا هو التحدي الأكبر: أن نتحرر من القيد الضيق للفكر، لنعيش الوجود بكل ما فيه من حس وجسد وروح.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة الكبرى التي تناقشها أعمق العقول:
الوجود لغزٌ لا يُفكُّ، وكلما اقتربنا منه، ازدادت تساؤلاتنا عُمقًا؛ فلا وجود بلا سؤال، ولا سؤال بلا وجود.
فهذه الجملة التي تختصر كل صراع الفكر الإنساني، تذكرنا بأننا في رحلة دائمة مع الوجود، لا نملك سوى أن نطرح الأسئلة بعمق، ونتأمل في ذاتنا وعالمنا بلا توقف.
سجاد مصطفى حمود
..............................
الهوامش:
1. ديكارت، رينيه. تأملات في الفلسفة الأولى. ترجمة محمد عبد الله دراز.
2. العلوي، هادي. من تاريخ التعذيب في الإسلام. دار المدى.
3. عبد الله، عبد الجبار. مقالات فلسفية. بغداد: دار الوراق.
4. كانط، إيمانويل. نقد العقل المحض. ترجمة محمد مندور.
5. مرلو-بونتي، ميشيل. الظاهراتية والوعي الجسدي. ترجمة دار المدى، 1998.
6. البياتي، عبد الوهاب. خواطر فلسفية وشعرية. بغداد: دار الشؤون الثقافية، 2003.
7. هيغل، جورج فيلهلم فريدريش. ظواهر الروح.