قضايا
كاظم لفتة جبر: الثقافة بين هوية الوعي وانطباع الصورة

إن الحديث عن الثقافة حديث متشابك، كونها تتمازج مع كل معنى يتناوله أو يعرفه الإنسان، فالثقافة لا ترتبط بتحصيل المعرفة، بل بعملية استخدامها وكيفية توظيفها، ففي البحث عن هوية الثقافة لشعب أو مجتمع ما، يجب علينا معرفة طريقة عيشهم وميولهم إلى الموضوعات واستخدامهم للغة والدين، وطريقة تداولهم للمشاعر بينهم، فكل شعب يمتاز بعده مميزات، توجه تفكيره وتحدد مشاعره.
فكل متبنى فكري ثقافي هو نتيجة لفهم أعمق لعادات وتقاليد المجتمع ودينهم ومشاعرهم، وهذا هو ما يتميز به الادباء أنهم مميزون في توظيف وتفعيل ثقافة مجتعمهم بأسلوب جمالي تجعله ذات بُعد عالمي.
فلكل ثقافة هوية خاصة بها تكتسي لوناً معيناً من التفكير وفهم الموضوعات، وينعكس ذلك على كل الطرق في المجتمع والدين والدولة. فالثقافة في جوهرها فعل تذوق وفهم وتأويل، وليست مجرد حفظ ونقل، فهي تنبض في الأسواق الشعبية كما تنبض في المعارض الفنية، وتتكلم بلسان الفلاح كما تتكلم بلسان الفيلسوف. إنها الجسر الذي يربط حكمة الأجداد وأسئلة الأبناء، وبين جماليات الفن وضروريات الحياة. لهذا فإن الحديث عن الثقافة لا يمكن عزله عن الجغرافيا التي تحتضنها، ولا عن التاريخ الذي يروي مسيرتها، ولا عن الدين الذي يلزم قيمتها، ولا عن المشاعر التي تحدد شكل تفاعل أفرادها.
لكن في زمن الصورة والتقنيات الرقمية حدث ما يمكن تسميته انكماش المسافة الثقافية، إذ لم تعد الجغرافيا تصنع الفوارق كما كانت من قبل. بل تحولت الثقافة إلى منتج قابل للتصدير عبر الإنترنت.
وهربارت ماركوز في مشروعة النقدي (الإنسان ذو البُعد الواحد) يرى إن الصراع بين الواقع الثقافي والواقع الاجتماعي قد أخذ اليوم بالتراخي، فالعناصر المعارضة، والمغتربة والمتعالية، التي كانت الثقافة الرفيعة تُشكل بفضلها بعدا آخر للواقع، هي في سبيلها إلى الزوال. وتصفية العناصر المعارضة التي تخلق التوتر لا تتم الآن عن طريق نفي القيم الثقافية وطرحها، بل تتم من خلال دمجها في النظام القائم، وعن طريق إعادة إنتاجها وتوزيعها على نطاق واسع.
واذا كانت وسائل الاتصال الجماهيري تخلط على نحو منسق ومموه في الغالب بين الفن والسياسة والدين والفلسفة والتجارة، والمبدع والمشهور، بين القارئ والمفكر، فإنها في الوقت نفسه، ترجع هذه المجالات الثقافية إلى قاسم مشترك، يطلق عليه ماركوز الشكل الانطباعي.
فتسليع الثقافة أصبح أمرا شائعا، لأنه تم سلخ المُثل الأعلى من مجاله السامي، والروحي للتعبير عنه بمعدلات علمية وتجارية وبسيطة وشائعة في المجتمع.
وحتى الكلمات الكبيرة مثل الحرية والامتلاء والكرامة التي يرددها الزعماء والسياسيون في حملاتهم على الشاشات والموجات وفوق المنابر، لا معنى لها إلا في سياق الدعاية والأعمال، وخارج هذا السياق تصبح أصواتاً لا دلالة لها.
ومع شيوع هذا النمط يصبح الخطر الأكبر هو انكماش المعنى الثقافي للمجتمع، فحين تختزل الثقافة إلى مجرد استهلاك سريع للصورة والأفكار الجاهزة، يضعف النقد ويتراجع الإبداع الخلاق. ويتحول الوعي إلى مرآة تعكس ما يُلقى عليها بدل أن تبتكر صورها الخاصة. وتتمثل هذه الثقافة عند أصحاب الوعي المخدر والمزيف، الذين يرون في تسليع الوعي والحصول على المكاسب تجارة ثقافية.
أما أصحاب الثقافة الحية فهم القادرون على مقاومة كل هذا الزيف الثقافي مهما اخذت حقوقهم وابتعدت امانيهم. فالمثقف الحق هو من يحمي مجتمعة من الذوبان في ثقافة الصورة، وأن يمنح الصورة بعدا يتجاوز لحظتها الخاطفة، وأن يعيد للكلمة سحرها وقوتها، وللنقد مكانه.
واذا كانت وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي قد عمقت من هيمنة ثقافة الصورة، فإن دور المثقف والمبدع اليوم أكثر إلحاحاً، ليس فقط في إنتاج المحتوى، بل في إضافة المعنى.
وبهذا يمكن القول إن الثقافة ليست مجرد ادعاء، بل هي القوة التي تعيد تشكيل معنى الواقع بما يستحق، وهي مقاومة وتجاوز للوضع الراهن، فإن مسؤوليتنا الفلسفية والأدبية أن نستعيد للثقافة وظيفتها الأصلية، وان نفتح نوافذ جديدة للوعي، وان نجعل للإنسان القدرة على تقرير مصيره وصنع معناه.
***
كاظم لفتة جبر