أقلام فكرية
غالب المسعودي: الشر الكامل في سياق النيوكولونيالية
تعريف الشر الكامل: المفهوم المحوري هنا هو "الشر الكامل الذي لا يملك دوافع تجميلية". هذا الشر لا يمكن تبريره أو "تجميله" بأي غطاء أيديولوجي، أو منفعة ذاتية حقيقية، أو ضرورة تاريخية مزعومة، تجعله مقبولاً ضمن أي نظام قيمي. هذا التحليل يطرح سؤالاً عميقاً: هل تتسم المنظومات الهيكلية الحديثة للاستغلال بالصراحة التدميرية التي تقاوم أي تفسير عقلاني أو أخلاقي؟
الشر الأداتي والأناني
يُعرّف هذا الشر بأنه فعل يُرتكب كوسيلة لتحقيق منفعة ذاتية خالصة، مثل كسب المال أو السلطة أو النجاة. الضرر الذي يلحق بالآخرين في هذه الحالة يكون عرضياً أو ثانوياً بالنسبة للفاعل، وليس هو الغاية المقصودة. الفرد الأناني يعمل وفقاً لمبدأ: "لا تساعد أحداً؛ بل أضرّ بالجميع إذا كان ذلك يحقق لك ميزة". في هذا السياق، يتم "تجميل" الاستغلال بوصفه كفاءة اقتصادية أو ضرورة للتنافس العالمي.
الشر الجذري
يُفهم "الشر الجذري"، وفقاً لإيمانويل كانط، على أنه انحراف فطري داخل الكيان الإنساني، حيث يتم تبني مبادئ تضع المصلحة الذاتية فوق القانون الأخلاقي. قد ينبع هذا الشر مما سماه كانط "اللا مجتمع الاجتماعي"، أي الصراع النابع من التفاعل الاجتماعي البشري. يظل هذا الشر متجذراً في الإنسانية وقابلاً للفهم ضمن إطار عقلاني، ولكنه يمثل تقويضاً ذاتياً للأساس الأخلاقي.
الشر الخالص
يمثل هذا المفهوم، خاصة لدى شوبنهاور، أعلى درجات الفساد الأخلاقي، حيث يُعرّف بأنه الرغبة في تعاسة الآخرين، وتُعتبر معاناة الآخرين "غاية في ذاتها". يوصف الشخص الخبيث بأنه يسعى إلى إلحاق الضرر بالآخرين دون مصلحة ذاتية مباشرة. هذه اللامبالاة بالذات مقابل هدف إيذاء الآخر تجعل "الشر الخالص" أسوأ أخلاقياً من الأنانية.
الشر الكامل والمجاني
يوصف الشر المطلق غالباً بأنه غير عقلاني أو جنوني، مما يجعل الحكم عليه صعباً وفقاً للمعايير الأخلاقية المنطقية. يمكن قياس تأثيره في الألم والمعاناة البشرية والاضطراب الاجتماعي.
أما "الشر المجاني"، وهو مصطلح لاهوتي مطبّق سياسياً، فيُعرّف بأنه أي شكل من الشر كان يمكن منعه بطريقة تجعل العالم أفضل بكثير. هذا التركيز على غياب الضرورة الأخلاقية الكافية هو ما يربط "الشر المجاني" بـ "الشر الكامل"؛ إذ يفتقر كلاهما إلى التبرير الجوهري أو الهدف الأسمى.
غياب "الغطاء التجميلي"
الغطاء التجميلي في هذا السياق لا يعني بالضرورة الجمال الفني، بل يشير إلى الغطاء الأيديولوجي الذي يُستخدم لتزيين الفعل الشرير. يمكن للفن العظيم أن ينتج عن أناس أشرار، ولا تحمل الجماليات بحد ذاتها أيديولوجيا متأصلة.
الغطاء التجميلي هو استخدام خطاب "التنوير" أو "التقدم" لتبرير الاستغلال الاستعماري القديم، أو استخدام خطاب "الكفاءة" و"المنافسة" لتبرير الجشع الرأسمالي الحديث.
إن تطبيق مفهوم "الشر المجاني" على الأنظمة البشرية هو تحويل للنقد من لاهوتي إلى سياسي. فإذا كان النظام النيوكولونيالي ينتج شراً "كان يمكن منعه وجعل العالم أفضل" (أي أن الديون والفقر المفروضين لا يحققان غاية كبرى، بل يعيقان الخير الأعظم)، فإن هذا الشر يفقد صفة "الأداتي العقلاني" ويصبح مجانياً بالنسبة للإنسانية ككل، رغم أنه يظل أداتياً بالنسبة للطبقة المستفيدة من رأس المال.
النيوكولونيالية كمنظومة للشر الهيكلي
النيوكولونيالية هي السيطرة التي تمارسها دولة (عادةً القوة الاستعمارية السابقة) على دولة أخرى مستقلة اسمياً (المستعمرة السابقة) من خلال وسائل غير مباشرة. هذه الظاهرة، التي صاغها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1956)، واستخدمها كوامي نكروما في الستينيات، تستبدل السيطرة العسكرية المباشرة بآليات الإمبريالية الاقتصادية، والعولمة، والإمبريالية الثقافية، والمعونة المشروطة. جوهر هذه العلاقة هو أن الدولة الخاضعة لها، على الرغم من امتلاكها لجميع مظاهر السيادة الدولية، تُوجّه سياستها الاقتصادية والسياسية فعلياً من الخارج.
المال كـ "شر كامل"
لتحقيق "الشر الكامل" الخالي من التجميل، يجب ربط النيوكولونيالية بالطبيعة الميتافيزيقية للمال الحديث. الشر المطلق قد يوصف بأنه "تسامٍ قائم بذاته خالٍ من الحب أو المعنى أو الهدف، إله بلا إله". النظام المالي النيوكولونيالي يتطابق مع هذا الوصف؛ فهو لا يقدم حكماً أخلاقياً (باستثناء الوعد الزائف بالتنمية)، بل هو "كائن، ضخم وغير مبالٍ، يولد نفسه بلا نهاية" عبر آليات الديون والنمو المتفشي.
لا يتبع هذا النظام منطقاً عقلانياً في المدى الطويل. إن عبادة النظام النقدي - التي تقتل الحياة، وتُدمّر الأنظمة الحيوية، وتقلب الأخلاق - هي الأقرب إلى التعريف الفلسفي للشر الكامل الذي يفتقر إلى المنطق الجوهري. هذا التدمير هو مجاني لأنه يهدد استدامة النظام البيئي العالمي ككل، مما يجعل الفوائد المتحققة قصيرة الأجل وغير عقلانية. النيوكولونيالية هي التعبير الهيكلي لهذا الشر، حيث يُنفّذ الشر الأناني (الجشع) بآليات مبتذلة (البيروقراطية)، ولكنه يستند إلى منطق نظامي خبيث يسعى إلى التدمير المجاني لضمان التسامي المقلوب لرأس المال.
الشر الكامل هيكلية هدفها منع الخير الأكبر
يُظهر التحليل أن "الشر الكامل" في النيوكولونيالية هو شر لامركزي. إنه ليس شراً شخصياً محدداً، بل شراً نظامياً يعمل بالتعاون بين الخباثة الهيكلية (التي تصمم القواعد العالمية لتفضيل الشركات على الشعوب) والابتذال البيروقراطي (الذي يضمن التنفيذ).
استراتيجيات فلسفة الأخلاق للمقاومة والتحرر
بما أن "الشر المجاني" هو الشر الذي كان يمكن منعه، وبما أن النيوكولونيالية هي نظام مصمم بشرياً (قواعد تجارية، مؤسسات مالية)، فإن المقاومة الأخلاقية لديها قوة التحويل السياسي:
الإصرار على التفكير النقدي
الإصرار على "التفكير" هو الحصن الوحيد ضد "التمسك بالقواعد السلوكية المقررة". التفكير النقدي ضروري لمواجهة الشر المبتذل في التنفيذ والشر الكامل في التصميم الهيكلي.
إعادة تعريف السيادة والتبعية
تتطلب المقاومة استعادة السيطرة على الاقتصادات والموارد الوطنية والمحلية، وضمان اتخاذ القرارات على المستوى المحلي الأنسب. هذا التفكيك للتبعية النيوكولونيالية يسمح للشعوب ببناء مفاهيمها الخاصة عن الحُسن والعدالة.
نقض الخطاب التجميلي
يتم تجميل الاستغلال بخطاب "التنمية" النيوليبرالي، لكن النتائج الملموسة هي تدمير الأنظمة الحيوية والانقلاب الأخلاقي (تحويل الرذائل إلى فضائل)، مما يثبت أن الغطاء التجميلي زائف ومُهدِّم للحياة.
محاربة الخباثة النظامية
على الرغم من أن التنفيذ يتم عبر أفراد يمارسون الشر المبتذل، فإن قواعد اللعبة العالمية مصممة بنية خبيثة تهدف إلى منع التحرر السياسي والاقتصادي للدول المستقلة.
إن التحدي الأخلاقي ليس مجرد إدانة الأفعال، بل الاعتراف بأن الشر النظامي للنيوكولونيالية هو شر نظامي، وليس مجرد سوء تقدير. هذا الاعتراف يتطلب تحويل النقد الفلسفي إلى جدول أعمال سياسية تهدف إلى استبدال المؤسسات الفاشلة بنظام عالمي يعتمد على الديمقراطية والمساءلة، ويُعلي من قيمة الحياة والعدالة فوق متطلبات النمو النقدي المجرد.
***
غالب المسعودي
.....................
المراجع
beigemoth. blog. Aesthetics and Evil - The Beige Moth
cambridge.org. Gratuitous evil and divine providence | Religious Studies | Cambridge Core
fount.aucegypt.edu. “The Principles of Islamic Moral Philosophy and the Possibility of Re-C” by Muhammad Feteha - AUC Knowledge Fountain - The American University in Cairo
iep.utm.edu. Kant, Immanuel: Radical Evil | Internet Encyclopedia of Philosophy
orca.cardiff.ac.uk. “The poison in the snake's fang”: Schopenhauer on malice
peped.org. Absolute Evil - Philosophical Investigations - PEPED
trendsettercase.wordpress.com. God, Gratuitous Evil, and The Murderous Goose - Parker's Pensées






