أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هيرقليطس وأفكار التغيير

الشيء المشترك لدى كل من قرأ أعمال هيرقليطس، هو ان هناك فقط مقاطع او عبارات. لسوء الحظ، لم يبق الا القليل من كتاباته التي يصعب تجميعها لوصف حياة وافكار هذا الفيلسوف المثير. هذا يجعل دراسته سهلة من جهة وصعبة من جهة اخرى: انت تستطيع قراءة كل المقاطع المتبقية في ساعة واحدة، لكنك ستبقى في حيرة طوال حياتك. ربما لا نستطيع فهم فلسفة هيرقليطس بالتفاصيل، لكننا نأمل هنا  تعريف القارئ بالموضوعات التي وصلت الينا وماذا قال عنها الفلاسفة المعاصرون وماذا يمكن ان نتعلم منها اليوم.

حياته

معظم ما نعرفه عن حياة هيرقليطس يأتي من كاتب سيرة الفلاسفة دايوجين لايرتيوس Diogenes Laertius (يجب عدم الخلط بينه وبين دايوجين الساخر) الذي كتب حوالي 225م، بعد هيرقليطس بـ  أكثر من سبعمائة سنة. دايوجين كان معروفا باعتماده على المصادر السابقة دون تفكير نقدي، بدءا من القصائد الهزلية الى السير الذاتية السابقة "حسبما يرى البعض".

ولد هيرقليطس في ولاية أفسس Ephesus اليونانية على الساحل الذي هو الان في تركيا الحديثة، وترعرع حوالي سنة 500 ق.م، أي حوالي 30 سنة قبل ولادة سقراط. الحكايات التي وصلت الينا عن حياته تتميز دائما بالغرابة: الصورة التي تُركت لنا عنه كمتكبر وغريب الاطوار يكره الحكمة الشائعة والسلطات في زمانه الى درجة الانعزال الذاتي. وبالرغم من ولادته في أفسس، هو بدا ناقدا حادا للمدينة. بعد نفي صديقه هيرمودوروس منها، ادّعى ان مواطني أفسس كانوا يستحقون الموت لأجل الرجل، وكانوا يجب ان يتركوا المدينة له.

حكاية اخرى تدور حول مناسبة طُلب اليه فيها عمل قوانين للمدينة. ونظرا لإحتقاره لدستورهم، هو بدلا من ذلك غادر الى معبد أرتميس، حيث لعب لعبة النرد مع الاطفال وعندما سُئل عن هذا السلوك، اجاب بانه من الافضل ان يلعب مع الاطفال بدلا من اللعب بالسياسة مع حكام المدينة. معبد ارتميس عُرف لاحقا كأحد عجائب الدنيا السبعة في العالم القديم، وهو ايضا المكان الذي أودع فيه عمله الوحيد (حول الطبيعة). الكتاب كُتب بألغاز لكي لا يكون مفهوما من جانب غير متعلم او الغير ذكي. وفي الايام الاخيرة من حياته غادر افسس لفترة في الجبال يعتاش على النباتات. وبعد اصابته بالاستسقاء، المرض الشديد، عاد للبحث عن علاج طبي. وبعبارة يلفها الغموض هو سأل الأطباء ان كانوا يستطيعون "تحويل العاصفة المطرية الى جفاف". هم لم يفهموا ما يقصده في كلامه؟ لذا حاول علاج نفسه – عبر دفن جسده بسماد حيواني لكي يدفئ جسده، حيث توفي هناك .

الأضداد

معظم معاصري هيرقليطس نظروا الى مساهماته كشيء رائع ولكن نوعا ما هي غير مفهومة  ويصعب على القرّاء قرائتها. لذا فان منْ لا يفهمه يشترك مع عدد كبير من الناس.

احدى الموضوعات تظهر مرة بعد اخرى في ما وصل الينا من أعماله هي "وحدة الأضداد". الشكل الشائع في بعض مقاطع كتابات هيرقليطس ينطوي على مفهومين متضادين ويدّعي انهما ذات الشيء. فمثلا: "البحر هو في الغالب ماء نقي وملوث في أحيان اخرى: بالنسبة للاسماك هو ماء ملائم للشرب ولإستمرارية الحياة، ولكن بالنسبة للانسان لا يمكن شربه وقد يسبب الموت "(جميع الاقتباسات اُخذت من الفلسفة اليونانية القديمة، جواناثن بارنيس،2001). وعليه طبقا لمختلف وجهات النظر، البحر هو نقي وملوث في آن واحد. ونفس الشيء: "المسار الى الأعلى او الى الأسفل هو ذاته"، ومن المقاطع الأكثر تجريدا، "التراكيب – كليات وليست كليات، متزامنة مختلفة، متناغمة متعارضة، من كل شيء واحد وكل الاشياء من واحد". تجدر ملاحظة ان ليس كل الفلاسفة قرأوا هذه المقاطع بنفس الطريقة. وان الطريقة التي تكون بها هذه الأضداد ذات الشيء هي ايضا موضوع للنقاش. بالنسبة للبحر والمسار، تبدو الفكرة متشابهة: من مختلف المنظورات، نفس الشيء يمكن ان تكون له مختلف الصفات. السائر في أسفل الجبل، يكون لديه المسار على الجبل هو صعود. بالنسبة للسائر عند القمة، يكون المسار نزولا. ماء البحر لذيذ للسمك ولكن ليس لنا. ولكن ماذا يعني بـ "من كل الاشياء واحد ومن واحد كل الاشياء"؟ هذا يمكن رؤيته كوحدة: الكون ككل، هو شيء واحد. لكن نفس الكون الواحد هو أشياء متعددة مختلفة، في جميع أجزاء مكوناته (كواكب، ثقوب سوداء، قهوة، انت). هرقليطس ربما يقول ان خصائص الشيء تعتمد على الكيفية التي ينظر بها المرء له، تكون واحدة ومتعددة، او يمكن شربه ولا يمكن . هذا النوع من الأقوال هو الذي جعل كل من افلاطون وارسطو يعتبران فلسفة هيرقليطس متناقضة ذاتيا.

التدفق

فكرة اخرى لهيرقليطس نوقشت كثيرا هي مبدأ التدفق (التدفق يعني التغيير)، لكن "مبدأ التغيير" يبدو أقل تميزاً، لذا نستعمل التدفق بدلا من ذلك. هيرقليطس ذكر "كل شيء يتحرك".

في الحقيقة، معظم آراء الناس حول هيرقليطس تأتي من الاقتباس المتعلق بالنهر. "انت لا تستطيع النزول في نفس النهر مرتين". هذه كانت لهيرقليطس او على الأقل ربما كانت له لأن مصدرا آخر يقتبس قوله "اولئك الذين ينزلون في نفس الأنهار، تتدفق فيها مختلف المياه" وهو ما يراه البعض له مضمون مختلف جدا عن العبارة الاولى.

مهما اختلفت الصيغة التي كتب بها هيرقليطس، ماذا كان يعني بها؟ تقريبا كل واحد، بمن فيهم افلاطون يفترض انها استعارة. الفكرة هي انه متى ما نزلت مرة اخرى في نفس النهر، سيكون الماء الان مختلفا، لذا فانت حقا لا تنزل في نفس النهر، ولذا فهو كما في أي شيء آخر: الناس يتغيرون، ويتقدمون في العمر، العالم يتحول، كل شيء يتميز بالتغيير المستمر. ايضا من المهم ملاحظة التشابه مع مفهوم البوذية في anicca التي عبّر عنها بوذا في نفس الفترة والتي يمكن تلخيصها "لا شيء يدوم". لكن هل هذا المبدأ ينطبق على كل شيء، في كل الأزمان، وفي كل المجالات؟ عندما أسرق البنك، سأقول، "لكنك لا تستطيع اتهامي، انا كنت شخصا مختلفا في ذلك الوقت"،لكن من غير المحتمل ان انجو من السجن.

بعض الفلاسفة مثل دانيال غراهام، يجادل لتأييد عقيدة "تدفق محدود". على المستوى الأساسي نعم، كل الاشياء تتغير، لكن من خلال التغيير المستمر ستبرز الاشياء الواقعية والدائمة. لهذا فان غراهام يثق بالنسخة الثانية من مقطع النهر: "في نفس الانهار، مختلف المياه تتدفق" – النهر يبقى ذاته، رغم وجود مياه مختلفة في أي زمنين. في الحقيقة، النهر يحتاج مختلف المياه ليبقى نفس النهر: اذا بقي الماء راكدا، سوف لن يكون نهرا، وانما بحيرة. وهكذا تغير الأشياء مثل الناس والاشياء وغيرها يمكن ان يوجد حتى على المستوى الأساسي، مكوناته دائما تتغير. في غضون عشر سنوات، تقريبا كل خلية في أجسامنا تُستبدل، لكننا لانزال نحن. بالطبع، بالنسبة لاولئك الذين يفضلون قراءة صارمة للنسخة الاولى من مقطع النهر(من المستحيل النزول في نفس النهر مرتين)، لا وجود هناك لشيء مثل "نفس النهر". لا وجود هناك لشخص يستمر عبر الزمن ايضا. في الحقيقة، لا وجود للدوام. في النهاية، الرؤية التي تتخذها تعتمد على أي صيغة من مقطع النهر تراها أكثر مقبولية.

ماذا يمكن ان نتعلم من هذا الفيلسوف الغامض والمتناقض؟ ربما هناك القليل. الحياة اليوم هي كما كانت أيام هيرقليطس مليئة بالتناقضات. نحن هنا عبارة عن حزمة من الخلايا المتغيرة والسوائل المتدفقة، نكبر ونتغير، لكن دائما بدرجة ما نبقى نفس الشخص. مشاعرنا تتغير ايضا: السياسي او القانوني قد يبدو صائبا اخلاقيا لنا في يوم ما، وشرير ومؤسف في يوم آخر. الشريك يبدو لنا بلا عيوب في يوم ما، ومحزن في يوم آخر. بالنسبة لهيرقليطس ربما كلاهما.

هيرقليطس يريدنا ان نتحرك وراء الأبيض والأسود - الصدق المجرد والزيف المجرد – لنحتضن التغيير والطبيعة المتناقضة للتجربة الانسانية. لأن هيرقليطس يقول " من الحكمة ان نتفق بان كل الأشياء هي واحد".

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم