أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: أهمية الفلسفة في عصر الذكاء الاصطناعي

كان الفهم العلمي الجديد ومعه التقنيات الهندسية دائما مثيرا ومخيفا، ولاشك انه سيستمر. شركة open AI المتخصصة ببحوث الذكاء الصناعي أعلنت مؤخرا انها تتوقع "ذكاءّ خارقا" – للذكاء الصناعي يتجاوز قدرات الانسان خلال هذا العقد. وبناءً على ذلك قامت الشركة ببناء فريق جديد وخصصت 20% من مواردها الحوسبية لضمان الانسجام بين سلوك أنظمة الذكاء الصناعي من جهة والقيم الانسانية من جهة اخرى. انها لا تريد من الذكاء الصناعي ان يشن حربا على الانسانية.

ولذلك دعت الشركة المهندسين وكبار الباحثين في مجال التعليم الآلي لمساعدتها في حل المشكلة.

لكن ماذا عن الفلاسفة؟ هل لدى الفلاسفة ما يمكنهم المساهمة فيه؟ ماذا يمكن ان نتوقع من الفلسفة في عصر التكنلوجيا المتقدمة حاليا؟

للإجابة على ذلك، يجدر التأكيد على ان الفلسفة كانت فعّالة ومؤثرة في الذكاء الصناعي منذ أيامه الاولى. كانت اولى القصص الناجحة للذكاء الصناعي عام 1956 في برنامج كومبيوتر اُطلق عليه نظريات المنطق، اسّسه كل من الن نيويل Allen Newell وهربرت سيمون Herbert Simon. وظيفة البرنامج كانت إثبات نظريات باستعمال افتراضات من مبادئ الرياضيات. وهناك عمل من ثلاثة أجزاء في عام 1910 للفيلسوفين الفريد نورث وايتهد و برتراند رسل سعيا فيه لإعادة بناء كل الرياضيات على أساس منطقي واحد.

في الحقيقة، كان التركيز المبكر على المنطق في الذكاء الصناعي مدينا بالكثير للنقاشات التأسيسية التي سلكها الرياضيون والفلاسفة. احدى الخطوات الهامة كانت تطوير الفيلسوف الألماني جوتلب فريج Gottlob Frege للمنطق الحديث في أواخر القرن التاسع عشر. أدخل فريج في المنطق استعمال متغيرات قابلة للقياس الكمي - بدلا من أشياء مثل ناس - هذا الاتجاه جعل من الممكن القول ليس فقط، على سبيل المثال، "جو بايدن رئيسا" وانما ايضا التعبير منهجيا عن افكار عامة  مثل "هناك يوجد X كما في ان X هو رئيس"،حيث ان "هناك يوجد" هي محدد للكمية، و "X" هو متغير.

مساهمات اخرى هامة في الثلاثينات كانت للمنطقي النمساوي المولد كورت جودل Kurt Godel، الذي كانت نظرياته في الإكتمال وعدم الإكتمال حول حدود ما يمكن ان يثبته المرء، وكذلك المنطقي البولندي الفريد تارسكي في "برهان في عدم تحديدية الحقيقة". الأخير بيّن ان "الحقيقة" هي أي نظام صوري معياري لا يمكن تعريفها ضمن ذلك النظام المعين، حيث ان الحقيقة الرياضية على سبيل المثال، لا يمكن تعريفها ضمن نظام الرياضيات.

أخيرا، في عام 1936 جاءت الفكرة المجردة لماكنة حاسبة من جانب البريطاني الن تورنك معتمدا على مثل هذا التطور وكان لها تأثيرا هائلا على الذكاء الصناعي المبكر.

ربما يقال،حتى لو كان الذكاء الصناعي بنسخته القديمة مدينا للفلسفة والمنطق، فان "الموجة الثانية" من الذكاء الصناعي المرتكز على التعليم العميق، يعتمد على الكثير من مآثر الهندسة المرتبطة بمعالجة كميات هائلة من البيانات. مع ذلك، لاتزال الفلسفة تلعب دورا هاما ايضا. لو أخذنا نماذج اللغة الكبيرة، مثل تلك التي تدير دردشة ذكاء صناعي Chat GPT التي تنتج نص محادثة. هي نماذج هائلة، لها بلايين او ترليولنات العوامل، مدربة على مجموعات كبيرة (تؤلف الكثير من الانترنيت). ولكن في جوهرها، هي تتعقب وتستخدم نماذج احصائية من استعمال اللغة. شيء يشبه كثيرا هذه الفكرة جرى توضيحه بالتفصيل من جانب الفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين في أواسط القرن العشرين: "معنى الكلمة هو استعمالها في اللغة" حسب قوله.

لكن الفلسفة المعاصرة، وليس فقط تاريخها، ملائمة للذكاء الصناعي وتطوراته. هل بامكان LLM (برنامج الذكاء الصناعي الذي يستطيع تمييز وانتاج النص) ان يفهم حقا اللغة التي يعالجها؟ وهل يمكنه ان ينجز وعيا؟ هذه اسئلة فلسفية عميقة.

العلم حتى الان غير قادر على ان يوضح بشكل كامل كيفية بروز الوعي من خلايا الدماغ البشري. بعض الفلاسفة اعتقدوا ان هذه "مشكلة صعبة"، تتعدى نطاق العلم وقد تتطلب مساعدة من الفلسفة. وفي رؤية مشابهة، نحن نستطيع ان نسأل ما اذا كانت الصورة او الايميج التي تخلق ذكاءً صناعيا هي حقا مبدعة. مارغريت بودن Margaret Boden عالمة الإدراك البريطانية والفيلسوفة في الذكاء الصناعي، تجادل اذا كان الذكاء الصناعي قادرا على انتاج افكار جديدة، فهو سوف يصارع لتقييمها مثلما يفعل الناس المبدعون.

هي ايضا تتوقع ان هندسة الرموز العصبية الهجينة – التي تستعمل كل من التقنيات المنطقية والتعليم العميق من البيانات – وحدها سوف تنجز ذكاءً صناعيا عاما.

القيم الانسانية

لكي نعود الى إعلان الذكاء الصناعي الذي تقدّم ذكره،وسؤالنا عن دور الفلسفة في عصر الذكاء الصناعي، اقترحت دردشة الذكاء الصناعي بان (من بين اشياء اخرى) انها "تساعد في التأكد من ان تطوير واستعمال الذكاء الصناعي يتماشى مع القيم الانسانية".

في هذه الروحية، ربما نستطيع الافتراض، اذا كانت موائمة الذكاء الاصطناعي هي القضية الخطيرة التي تعتقد بها شركة الذكاء الصناعي المفتوح، فهي ليست فقط مشكلة تقنية تتطلب الحل من قبل المهندسين او شركات التقنية، وانما ايضا مشكلة اجتماعية. ذلك سوف يتطلب مدخلات من الفلاسفة وايضا من علماء الاجتماع والمحامين وصناع السياسة والمواطنين المستخدمين وغيرهم.

في الحقيقة، العديد من الناس قلقون حول القوة الصاعدة وتأثير شركات التكنلوجيا على الديمقراطية. البعض يرى اننا نحتاج الى طريقة جديدة بالكامل في التفكير حول الذكاء الصناعي آخذين بالاعتبار الانظمة الاساسية الداعمة للصناعة. المحامي البريطاني والمؤلف جيمي سوسكند Jamie Susskind جادل بانه حان الوقت لبناء "جمهورية رقمية" –  ترفض بالنهاية  النظام السياسي والاقتصادي الذي أعطى لشركات التكنلوجيا المزيد من النفوذ.

اخيرا، لنسأل، كيف سيؤثر الذكاء الصناعي على الفلسفة؟ المنطق الصوري في الفلسفة  يعود تاريخيا الى ارسطو. وفي القرن السابع عشر اقترح الفيلسوف الالماني جوتفريد ليبنز اننا في يوم ما سنمتلك آلات حاسبة تساعدنا في اشتقاق أجوبة للأسئلة الفلسفية والعلمية بشكل يشبه الوحي .  نحن الان بدأنا ببلوغ تلك الرؤية، مع بعض المؤلفين الذين يدعون الى "فلسفة حوسبية" – تشفّر افتراضات وتشتق نتائج منها. هذا حتما يسمح بتقييمات واقعية او موجهة قيميا للمخرجات.

فمثلا، مشروع الرسوم البيانية يحاكي تأثيرات معلومات المشاركة على التواصل الاجتماعي. هذا يمكن ان يُستعمل لمعالجة حسابية لأسئلة حول الكيفية التي يجب ان نشكل بها افكارنا.

بالتأكيد، التقدم في الذكاء الصناعي أعطى الفلاسفة الكثير مما يُفكر به، وهو ربما بدأ في توفير بعض الأجوبة.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم