قراءات نقدية
إبراهيم أبو عواد: الخيال التاريخي في الرواية الأدبية

الخَيَالُ التاريخيُّ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ تَجْري أحداثُه في بيئةٍ مَا تَقَعُ في المَاضِي ضِمْن ظُروفِها الاجتماعية، وخَصائصِها الحقيقية، مَعَ الحِرْصِ عَلى بِناء عَالَمٍ تاريخيٍّ يُمْكِن تَصديقُه، والاهتمامِ بالسِّيَاقاتِ الثقافية، وكَيفيةِ تَفَاعُلِ الشَّخصياتِ مَعَ عَناصرِ الزَّمَانِ والمكان، ومُرَاعَاةِ العاداتِ والتقاليدِ والبُنى الاجتماعية والمَلابس وطبيعة الكلام المَوجودة في ذلك الزمنِ البعيد.
والأعمالُ الأدبية ذات الصِّبْغَة التاريخية يَنْبغي أنَّ تَعتمد عَلى التَّحليلِ النَّفْسِيِّ لِكَينونةِ الإنسانِ ومَشاعرِه، وَتَقْدِيمِ التاريخِ مِنْ مَنظور الناسِ العاديين الذينَ يَتَحَرَّكُون في الواقع ضِمْن سِياقِ الأحداثِ اليومية، مَعَ ضَرورةِ اختيارِ العالميَّة والإنسانيَّة المُشْتَرَكَة.
والرِّوايةُ التاريخيةُ لَيْسَتْ تاريخًا، وإنَّما هِيَ مَنظومة مِنَ الأفكارِ والمَشاعرِ بأُسلوبٍ فَنِّي وجَمَاليٍّ تَتناول جوانبَ الحَيَاةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ في المَاضِي، مِنْ أجْلِ رَبْطِ القُرَّاءِ المُعَاصِرِين بالتَّجَارِبِ المُعَاشَةِ في تِلْك الفَترةِ الزَّمنيةِ التي مَضَتْ وانقَضَتْ، وَمَرَّتْ عَلَيها سَنَوَات طويلة.
والرِّوائيُّ لَيْسَ مُؤرِّخًا، وإنَّما هُوَ صانعٌ للأحداثِ المُتَصَوَّرَةِ وَالوَقائعِ المُتَخَيَّلَةِ ضِمْن نَسَقٍ أدبيٍّ يُعيدُ تَكوينَ الزَّمَانِ وَبِنَاءَ المَكَانِ، وَيُفَسِّرُ العَلاقاتِ الإنسانية بَيْنَ الشَّخصيات، ولا شَكَّ أنَّ هَذه العَلاقاتِ تَتَأثَّر بالأحداثِ التاريخية، ولكنْ يَنْبغي التَّركيز عَلى المَشاعر الإنسانية المُشْتَرَكَة العابرةِ للحُدُودِ التاريخيةِ والجُغرافية، والكاسرةِ لِكُلِّ القوالب الجاهزة.
إنَّ الخَيَالَ التاريخيَّ هُوَ أدَبٌ مُسْتَوْحى مِنَ التاريخِ، وَلَيْسَ إعادةَ سَرْدٍ للأحداثِ التاريخية، والهَدَفُ لَيْسَ نَقْلَ التفاصيلِ بشكلٍ مُتَسَلْسِل، وإنَّما ابتكارُ شَخصياتٍ تَأثَّرَتْ بالتاريخِ، والعملُ على تَحليلِ أفكارِها، واستنباطِ مَشاعرِها، وإظهارِ أحلامِها، وتَفْكِيكِ ذِكرياتِها، وتَفْسيرِ صِرَاعَاتِها. والتاريخُ لَيْسَ إلا إطارًا جامعًا لِكُلِّ هَذه العَناصرِ والتَّراكيبِ. وَمَهْمَا كانَ التاريخُ مُثيرًا للاهتمامِ، وَمُغْرِيًا بالبَحْثِ، فإنَّ الرِّواية التاريخية هي قِصَّة تَدُور أحداثُها في التاريخ، وَلَيْسَتْ قِصَّةً عَن التاريخ.
والبَحْثُ المُستمر عَن العَوالمِ الغامضةِ والمُشَوِّقَة، يَقُود أحداثَ الرِّوايةِ التاريخية إلى تَحديدِ الفَترةِ الزمنية التي تَتَنَاولها، لأنَّ طبيعة الأفكار تُحدِّد إطارَها الزَّمنيَّ، وطبيعة الشَّخصيات تُحدِّد إطارَها المَكَانيَّ. وهُنا تَبْرُزُ أدواتُ الخَيَالِ التاريخيِّ الذي يَقُوم على ضَبْطِ التفاصيلِ، والسَّيطرةِ عَلَيْهَا، مِنْ أجْلِ جَعْلِ السَّرْدِ الرِّوائيِّ سَلِسًا وَحَيَوِيًّا وقابلًا للتَّصديقِ. وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بتصميمِ مَشَاهِد رِوائية مُتماسِكة تَشتمل عَلى حِوَارات مُؤثِّرة، وصِرَاعات بَيْنَ الأضداد، وُصولًا إلى ذِرْوَةِ العملِ.
وَالمَشْهَدُ هُوَ حَجَرُ الأساسِ في الرِّواية، لأنَّه عَالَمٌ مُصَغَّر، يُلخِّص التناقضاتِ الحياتية، وَيَخْتزِل المَشاعرَ الإنسانية المُخْتَلِطَة، مِمَّا يَجْعَل أحداثَ الرِّوايةِ أكثرَ ارتباطًا بالواقعِ، وَتَبْدُو الشَّخصياتُ كأشخاصٍ حقيقيين مِنْ لَحْمٍ وَدَم، يَتَشَابَهُون مَعَ القارئِ، مَهْمَا كانت الاختلافات الثقافية.
إنَّ رِوائيَّ الخَيَالِ التاريخيِّ والمُؤرِّخَ يَعْمَلان عَلى إيصالِ الحقيقةِ، ولكنَّ الفَرْقَ بَيْنَهما هُوَ أنَّ الرِّوائيَّ يَعْتمد عَلى الحُرِّيةِ الإبداعية الفَنِّيةِ التي تَقُومُ عَلى حَرَكَةِ الشَّخصياتِ ومَشاعرِها وصِرَاعاتِها، أمَّا المُؤرِّخ فَيَعْتَمِد عَلى البَحْثِ المَنهجيِّ المُتواصِل للأحداثِ الماضيةِ المُتَعَلِّقَةِ بالبشرية عَبْرَ الزمن. والرِّوائيُّ يُحلِّل الأحلامَ والذكرياتِ والتأمُّلات، والمُؤرِّخُ يُحَلِّل المَصادرَ التاريخية، وَيُفَسِّر الأحداثَ كَمَا وَقَعَتْ عَلى الأرضِ، وَلَيْسَ كَمَا يَتَخَيَّلها أوْ يَتَمَنَّاها. والرِّوائيُّ يَخترع تاريخًا جديدًا، لأنَّ الأدبَ انقلابٌ عَلى الواقعِ، وَصِناعةٌ لواقعٍ جديد، والمُؤرِّخُ يُحلِّل الأحداثَ التاريخية القائمة المُستمرة، لأنَّ التاريخَ دِراسة المَاضِي كَمَا هُوَ مَوصوف في الوثائقِ المَكتوبة.
يُعْتَبَرُ الأديب الإسكتلندي والتر سكوت (1771 - 1832) مُؤسِّسَ الرِّوايةِ التاريخية. في عام 1814، وَضَعَ رِوايته الأُولَى " ويفرلي "، وعالجتْ مَرحلةَ مِنْ مراحل التَّمَرُّد اليعقوبي عام 1745 في التاريخ الإسكتلندي، ولاقتْ نجاحًا فَوْرِيًّا كبيرًا. وَقَدْ نَشَرَها تَحْتَ اسْمٍ مُستعار، وَهُوَ مَا دَأبَ عليه بعد ذلك، فَعُرِفَ بـِ " المجهول العظيم " إلى أن اضْطَرَّهُ إفلاسُه للكشف عَنْ هُوِيَّته عام 1827.
ظَلَّ سكوت في السَّنَوَاتِ الخَمْسِ عَشْرَة التالية، يُصْدِرُ رِوايةً إثرَ أُخْرَى، تَتناول الحَياةَ في إسكتلندا في القَرْنَيْن السابع عَشَر والثامن عَشَر.ثُمَّ مَا لَبِثَ أنْ وَسَّعَ مَسْرَحَ رِواياته زمانًا ومكانًا،فكتب " إيفانهو " (1819)، وهي أشهر رواياته على الإطلاق. وقد اشْتُهِرَ وعُرِفَ بفضل هذه الرِّواية التاريخية الحديثة، وأُطْلِق عليه " أبو الرِّواية الحديثة ". وفي نَفْسِ العام مُنِحَ سكوت لقب سير. وفي عام 1822، حِينَ زارَ المَلِكُ جورج الرابع إسكتلندا، كان سكوت عُضْوًا في لجنة الاستقبال، وحِينَ تَعَرَّفَ إلَيْهِ المَلِكُ أُعْجِبَ بِه كثيرًا.
يُعَدُّ سكوت واحدًا مِنْ أَهَمِّ مُبْدِعي الرِّواية التاريخية في الأدب الإنجليزي. وَمُعْظَمُ الذين خاضوا كِتابةَ الرِّواية التاريخية بَعْدَه، إنَّمَا اهْتَدَوْا بأساليبه، وساروا على خُطاه. وبذلك، يَكُون أحدَ كِبار الرِّوائيين في العَالَمِ في هذا المَجالِ. ويَعْتبره الكثيرون أَحَدَ أهَم أدباء الحركة الإبداعية الرُّومانسية في الأدب الأوروبيِّ.
وَقَدْ عَاصَرَ سكوت حُروبَ نابليون، واهتمَّ بالبحث في شؤون الآثارِ والتُّرَاثِ. وَشُغِفَ مُنذ طُفولته بالقصصِ والتُّرَاثِ الشَّفَهِيِّ الذي يَرْويه الكِبَارُ في عائلته حول إسكتلندا، مِمَّا أمَدَّه بالكثير مِنَ المادة التاريخية التي استخدمها في كِتاباته فِيما بَعْد.
***
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن