أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: هل يمكن للنماذج القياسية الاقتصادية ممارسة دور المختبر الاقتصادي؟

في العلوم الطبيعية، يمكن استخدام التجربة المختبرية لعزل المتغيرات، ومختلف الجسيمات وحركاتها. ونفس الشيء، استخدام النماذج الاقتصادية القياسية econometric model هي محاولة لإنتاج مختبر اقتصادي يتم فيه إجراء تجارب تحت السيطرة. فكرة استخدام مختبر كهذا هي مغرية جدا للاقتصاديين والسياسيين. حالما يتم بناء النموذج والقبول به كنسخة جيدة للاقتصاد، فان السياسيين يمكنهم تقييم مخرجات مختلف السياسات عبر هذا النموذج.
يُقال انه عبر استخدام النماذج القياسية الاقتصادية، يمكن للنخب عمل قرارات "علمية" قائمة على البحث ومرتكزة على الخبرة الاقتصادية. هذه النماذج، كما يقال، تعزز فاعلية سياسات الحكومة وتقود الى اقتصاد أفضل وأكثر ازدهارا. يُقترح ايضا ان النماذج القياسية يمكن ان تخدم كمرشد في تقييم صلاحية مختلف الافكار الاقتصادية. الهدف الآخر للنموذج القياسي هو إعطاء اشارة بشأن مستقبل حالة الاقتصاد. من خلال وسائل الطرق الرياضية والاحصائية، يؤسس مهندس النموذج علاقات بين مختلف المتغيرات الاقتصادية. فمثلا، الإنفاق الاستهلاكي الشخصي يتم ربطه بالدخل الشخصي المُتاح(الصافي) وأسعار الفائدة، بينما الإنفاق الرأسمالي يتم توضيحه عبر المخزون السابق لرأس المال وأسعار الفائدة والفعالية الاقتصادية. المعادلات او مجموعة هذه العلاقات المقيّمة تشكّل نموذجا قياسيا.
لكي نحكم على موثوقية النموذج، يُقارن ببيانات واقعية وبقوته التنبؤية. الاختبار النهائي للنموذج هو استجابته لتغيير متغير السياسة، مثل زيادة في الضرائب او زيادة في الانفاق الحكومي. عبر تقييم نوعي، يقرر مهندس النموذج ما اذا كانت الاستجابة معقولة ام لا. حالما يتم بناء النموذج بشكل ناجح، سيكون جاهزا للاستعمال. طبقا لهذا النموذج القياسي، نكوّن رؤية بشأن العالم الواقعي مرتكزة على مدى نجاح مختلف اجزاء المعلومات في الارتباط ببعضها البعض.
يجب ملاحظة ان تأسيس ارتباط بين انفاق المستهلك ومختلف اجزاء المعلومات الاخرى لا يوضح في الحقيقة طبيعة انفاق المستهلك، انه فقط يصف الاشياء. المراقب لايقول أي شيء حول طبيعة الاشياء عبر ملاحظة هذا الترابط في البيانات التاريخية. هذا النوع من المعلومات لايخبرنا كثيرا عن الاسباب الكامنة والتأثيرات. فمثلا، حقيقة ان ارتباطا قويا تأسس بين انفاق المستهلك والدخل المتاح لايعني ان انفاق المستهلك نتج بسبب الدخل المتاح. من الممكن جدا ان شخصا قد يجد ارتباطا قويا ببعض المتغيرات الاخرى. هل هذا يعني ان المتغير الآخر هو سبب انفاق المستهلك؟
لكي نفهم البيانات، يجب ان نفترض مسبقا نظرية تقف على قدميها ولا تبرز من البيانات. جوهر مثل هذه النظرية هو انها يجب ان تنبثق من مسلمات منسجمة وغير عشوائية ولا تقبل التفنيد و توضح ارتباطات سببية في الواقع التجريبي. نظرية اقتصادية تقوم على اساس ان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية، تتوافق مع هذا المطلب. هذه المسلمة لايمكن تفنيدها بدون تناقض آدائي.
لودفيج فون ميزس Ludwig Von Mises (1) هو صاحب هذا الاتجاه و اطلق عليه paraxeology البراكسولوجي (2). طبقا لإدراكه بان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية، كان ميزس قادرا على اشتقاق الهيكل الكامل للاقتصاد. وبالنتيجة، استنتج انه ، على عكس العلوم الطبيعية، حيث الاسباب الحقيقية غير معروفة لنا، في الاقتصاد، المعرفة بان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية يسمح لنا بتمحيص ماهية الاسباب الحقيقية. الاسباب تنبعث من البشر انفسهم.
هل الطريقة الرياضية صالحة في الاقتصاد؟
عبر تطبيق الرياضيات، الاقتصادات السائدة تحاول اتّباع خطى العلوم الطبيعية. في العلوم الطبيعية، استخدام الرياضيات يمكّن العلماء من صياغة الطبيعة الاساسية للاشياء. عن طريق الصيغة الرياضية، استجابة الشيء لمحفز معين في ظرف معين يتم التقاطها لاحقا ضمن هذه الظروف المعطاة، وان نفس الاستجابة يتم الحصول عليها مرة بعد اخرى.
نفس الاتجاه غير صالح في الاقتصاد. الاقتصاد يُفترض ان يتعامل مع فعل، اختيار كائن بشري وليس شيئا. طبقا لميزس التجربة التي يجب ان تتعامل فيها علوم الفعل البشري هي دائما تجربة لظاهرة معقدة. لا تجربة مختبرية يمكن ادائها بشأن الفعل البشري. الخاصية الرئيسية او طبيعة الكائن البشري هي انه كائن عقلاني. هو يستعمل عقله لتقييم واختيار وسائل لإنجاز الاهداف. مع ذلك، العقل غير مستعد لإتباع نوع من الإجراء الاوتوماتيكي وانما كل فرد يوظف عقله طبقا لظروفه الخاصة. هذا يجعل من المستحيل التقاط طبيعة الانسان عبر وسائل الصيغ الرياضية كما يحصل في العلوم الطبيعية.
السعي لتحليل كمي يعني امكانية تعيين أرقام يمكن ان تكون عرضة لكل عمليات الحساب. لإنجاز هذا، من الضروري تعريف وحدة ثابتة موضوعية. هذه الوحدة الموضوعية لا توجد في عالم التقييمات البشرية. حول هذا كتب مايزس: "لا وجود هناك في حقل الاقتصاد لعلاقات ثابتة، وبالنتيجة لا قياس ممكن". لا وجود هناك لمستوى ثابت لقياس الأذهان، القيم، وافكار الناس. الناس وكلاء يتصرفون، يختارون في ظروف تاريخية فريدة لا تتكرر. الافراد لديهم حرية اختيار تغيير عقولهم والسعي لأفعال تتناقض مع ما لوحظ في الماضي، خلافا للاجرام السماوية المُلاحظة في الفيزياء. التحليلات في الاقتصاد يمكن ان تكون فقط نوعية بسبب الطبيعة الفريدة للكائن البشري.
ان استعمال الرياضيات في الاقتصاد يثير مشكلة اخرى خطيرة. استخدام الدالات الرياضية يتضمن ان الافعال البشرية تتحرك بعوامل مختلفة. فمثلا، على عكس الطريقة الرياضية في التفكير، انفاق المستهلك على السلع لم "ينتج" عن الدخل. كل فرد في سياقه الخاص يقرر كم من الدخل سوف يستعمل للاستهلاك وكم للادخار. بينما صحيح ان الافراد يستجيبون للتغيير في دخولهم، لكن الاستجابة ليست اوتوماتيكية، ولايمكن التقاطها بصيغة رياضية. الزيادة في دخل الفرد لاتتضمن اوتوماتيكيا ان انفاقه الاستهلاكي سيتبع. كل فرد يقيّم الزيادة في الدخل مقابل الاهداف التي يريد تحقيقها. وهكذا، هو ربما يقرر بانه من المفيد كثيرا له زيادة التوفير بدلا من زيادة استهلاكه.
نظرا الى ان الكائن البشري محكوم بحرية الاختيار وظروفه المتفرده، فان مختلف تحليلات السياسة عبر وسائل النماذج، تُعرف "ماذا لو" او تحليلات المضاعف (3)، يُحتمل ان تخلق نتائج عرضة للتساؤل. في النهاية، افتراض ان التغيير في سياسة الحكومة سوف يترك هيكل المعادلات سليما يعني ان الافراد في الاقتصاد ليسوا أحياءً وانما هم في الحقيقة مجمدين.
مشكلة اخرى كبيرة في معظم نماذج الاقتصاد القياسي هي انها مصممة على طول خطوط التفكير الاقتصادي الكنزي. المتغير الرئيسي في هذه النماذج هو الناتج المحلي الاجمالي GDP، والذي يتم توضيحه ضمن اطار نموذج بواسطة التفاعلات بين مختلف البيانات التراكمية التي تُعرف كتراكمات. التفاعل بين مختلف التراكمات في اطار النموذج يعطي انطباعا بان الاقتصاد هو حول الناتج المحلي الاجمالي او حول ميزان المدفوعات، لكن ليس حول الكائن البشري او حياة الانسان. من الواضح، ان هذا يعمل بالضد من حقيقة ان كل شيء في عالم الانسان يُنتج بواسطة سلوك الانسان الهادف.
مختلف الإضافات التي اُدخلت على النموذج مثل نموذج ARMA (وهو نموذج احصائي يُستخدم في تحليلات السلسلة الزمنية للتنبؤ بقيم المستقبل) تعاني من نفس المشاكل المنهجية. يكتب مازس:
"الطريقة الرياضية يجب ان تُرفض ليس فقط بسبب عقمها. انها طريقة شريرة بالكامل، تبدأ من افتراضات زائفة وتقود الى استنتاجات مغلوطة. قياساتها ليست فقط عقيمة بل انها تحرف العقل عن دراسة المشاكل الواقعية وتشوّه العلاقات بين مختلف الظواهر.
استنتاج
الإعتماد على نماذج الاقتصاد القياسي كأساس لتكوين رؤية حول حالة الاقتصاد يولّد محصلات مشكوك فيها. انه نموذج خاطيء كليا لدراسة الاقتصاد الذي يرتكز على فعل الانسان واختياره وتقييمه الذاتي. النماذج الاقتصادية القياسية لا يمكن ان تنتج الكثير من المعلومات حول الأسباب. ما مطلوب لتمحيص الأسباب هو نظرية متطورة ومنسجمة منطقيا لا يتم اشتقاقها من البيانات. النظرية التي تلبّي هذا المطلب هي تلك التي طورها لودفيج فون ميزس .
***
حاتم حميد محسن
....................
الهوامش
(1) لودفيج فون ميزس (1881-1973) فيلسوف واقتصادي نمساوي/امريكي، كان من أبرز مفكري المدرسة الاقتصادية النمساوية. عُرف بعمله الباراكسولوجي وبنقده للاشتراكية ودعوته لحرية السوق والليبرالية الكلاسيكية.
(2) مصطلح باراكسولوجي يشير الى دراسة الفعل الانساني ويركز على أسباب وهدف الافعال بدلا من ملاحظتها فقط. هو اتجاه فلسفي يرى سلوك الانسان مندفع بعمل قرارات هادفة ومقصودة بدلا من مجرد كونه ردود أفعال. المصطلح صاغه لودفيج ميزس لتحليل السلوك الاقتصادي.
(3) مفهوم تأثير المضاعف multiplier effect هام جدا في الاقتصاد ويُستخدم لقياس نسبة التغيير في الدخل عندما يتم تغيير الانفاق. عندما تقوم شركة بانفاق مائة مليون دولار لتوسيع مصانعها، وبعد سنة من الانتاج في التسهيلات الجديدة يبلغ دخل الشركة مئتي مليون دولار هذا يعني ان تأثير المتعدد = 2 اي ان كل دولار اضافي مستثمر خلق دولارين اضافيين من الدخل. الزيادة في الدخل القومي (مائة مليون) سوف تخلق زيادة في دخل الفرد الصافي والذي بدوره يخلق زيادة محفزة في الانفاق الاستهلاكي. العمال الذين يحصلون على دخل جديد من بناء المصانع سوف ينفقون جزءا منه في شراء سلع استهلاكية وهذا يعني زيادة المخرجات وزيادة العمالة لمواجهة الطلب المتزايد، مما يعني دخول جديدة تظهر للعمال والشركات وسينفقون منها مرة اخرى وهكذا.