أقلام فكرية

عبد الاميرالركابي: عقلان بشريان "الارضي" و"المعجز" (1-2)

سيرا على العادة نتاج المصادرة التغلبية الاحادية الارضوية، فان العقل البشري هو "واحد"، اخر اشكاله وتجليه الاكثر سطوعا مايسمى بالعقل "العقلاني" و "العلمي"، النافي للحيز الماورائي الميتافيزيقي، لاباعتباره منفصلا عن الاول بل بماهو حالة عقلية لعقل واحد مكتوب له المرور بمحطات ومراحل، راها هيغل متسلسه في ثلاث كبرى متتالية (اسطورية/ دينيه/ فلسفية) ومثلما هو الحال اجمالا، فان الكائن البشري هو "واحد"، العقل احد اجزائة، ان لم يكن بموضع العضو من بين اعضائه، هذا على مستوى التبلور الادراكي، عدا عن الرؤية المباشرة اليومياتيه.

ولاشك اننا نجازف هنا بالتعرض لمسالة لاشبيه لها ولاسابق، متحسبين لمايترتب على انقلابيتها المفهومية المتاخرة كثيرا، بعد رسوخ نمطية التفكيرالاوربية الحداثوية المتسيده اليوم، ووقتها كان من المستحيل التلبث امام احتمالية ان يكون العقل عقلان، ومسارات الرؤية والادراكية للوجود والعالم رؤيتان مستقلتان داخل العقل نفسه بناء للخلفية النوعية المنطلق، الامر الذي يجد تفسيره ومحفزاته "الواقعية" في المصدرين والخلفيتين الواقعيتين بصيغتهما الاكمل والاعلى المتباينتين المغيبتين، كل بحسب منطلقه الوجودي النوعي، هما مجتمعيتي: الارضوية الاعلى الاوربية، تقابلها اللاارضويه السومرية مابين النهرينيه، بمعنى الاقرار ب"الازدواج" المجتمعي كما الذاتي البشري، كشرط مخالف كليا للاحادية كما هي شائعه ومعتمدة، وهكذا نكون امام انقلاب يصل من حيث دلالته وحضورة مستوى النوع البدئي التاريخي، بما يبيح القول بان تاريخ البشرية ومجتمعاتها وجد محكوما لبدئيتين اولى احادية ناقصة هي حصيلة انتكاس نموذجيتها الاولى حالة مصر ووادي النيل، تظل مستمرة وغالبةعلى مدى الطور اليدوي المديد، قبل ان تحل البدئية الفعلية المجتمعية الاخرى المغيبه واقعا وادراكا.

ولايحدث الانتقال الى الادراكية الازدواجيه بداهة وفورا، من دون تمخضات ضرورية يتعاظم تحت وطاتها ثقل الاحادية بقوة فعالية وتحفيز الانقلابية الالية، بما يتيح تكريس وتوطيد موقع الاحادية والمصادرة التاريخيه المعتادة الى الحد الاقصى، مولدا شروطا تتعداه وتذهب الى توفير الاسباب لانطلاق الادراكية الاخرى المؤجله، ما يجعل من الانقلابية الالية فعلا ابعد من نطاق الاحادية نحو مابعدها ومايقابلها، خارج التبسيطية الايهاميه التي تشيعها مع ما يتسنى لها من الظروف الالية المنطلق المؤاتية ساعتها، تلك التي تعزز موقعها ودرجه فعاليتها على مستوى المعمورة ابتداء، الى ان يحضر اخيرا الانتقال الضروري الاعلى المقابلز وبعد الوثبة الثانيه الحداثية الغربية الارضوية اللاحقة على الاغريقية اليونانيه، ومايتنامى بمقابلها من اسباب الانبعاثية الثانيه اللاارضوية المحجوبة، مكملة الانطلاقة الابراهيمة النبوية الحدسية الاولى، لنصبح على مشارف الازدواج الاصل مع حكم آلياته التي تضع اللاارضوية، على عكس مايظن ويتصور توهما، بموقع الصدارة كحقيقة وكموئل تحولية كبرىشامل، هي الغرض الاعلى الذي تنطوي عليه المجتمعية منذ ان وجدت وصارت واقعا معاشا، ووقتها يتعدل المنظور الاعقالي البشري الاحادي، وتتراجع القصورية الاعقالية الملازمه للعقل من بدايات التبلور المجتمعي.

فالالة توفر اشتراطات الانقلابيه المزدوجه عكس ماتقوله الاحادية، وهو الجانب الاهم والاخطرالذي يستمر غائبا عن رؤية الاحادية الحداثية اليوم كما في الماضي، فلا ترى كما ينبغي احتمالية التقابلية، (ابراهيم، مقابل ارسطو)، بما هما منظوران رئيسيان لاارضوي شرق متوسطي نتاج الاصطراعية المجتمعية الارضوية اللاارضوية، سماوي مقرون بالعبقرية الحدسية النبوية، وفلسفي هو حصيلة الاصطراعية الطبقية الاوربية، حيث الاليات الاعلى ضمن نمطية الارضوية على مستوى المعمورة، ولاعلاقة من حيث التشكل واشتراطات التبلور النشوئي بين المظهرين والتعبيرين، بينما يظل يحكمهما كل من جهته وعالمه، مؤثر وفعالية اليدوية الانتاجوية ابتداء، ثم الالية المتاخرة، فيحدث وقتها الذهاب الى الطور الثاني من التعبيرية اوربيا اولا، وشرق متوسطيا رافدينيا لاحقا.

لا يسير الوعي البشري من الاسطورة الى الدين الى الفلسفة، بل يسير واقعا في عالم اللاارضوية من الاسطورة الى الصيغة الدينيه التوحيدية الاكمل الابراهيمية الحدسية، بانتظار الصيغه الثانيه العليا اللاارضوية العليّة السببيه كطور نهائي، وهو مايوافق وينجم عن اثر وفعل الاله المتاخر، ومايتبع ويلحق بانتقالية اوربا الطبقية الى الدورة الثانيه من الادراكية هناك فلسفيا علمويا عقلانيا طاغيا، لاقترانه باسباب القوة والهيمنه الاكراهية، في الوقت الذي يتعاظم فيه النفي الالغائي للمنظور الكوني اللاارضوي الاصل، والمنطوي على الحقيقة الكبرى المجتمعية الموافقه للغرض الكامن في الظاهرة المجتمعية.

يبدا العقل البشري لا ارضوي مرهونا لاشتراطات بيئية طبيعية استثنائية، اقصى مايتوفر له من ممكنات هي التعبيرية الاولى الحدسية العبقرية النبوية، وقت لاتكون كافة الاسباب الضرورية للتحقق والانتقال، وبالاخص المادية منها حاضرة كي يتم الانتقال من الجسدية الى العقلية ماينجم عنه انتكاس ارضوي طويل، من ابرز مظاهره الطرد الكلي للتعبيرية اللاارضوية خارج النمطية المجتمعية قصورا وعجزا ادراكيا، بما يزيل من الحسبان اي اعتقاد بخصوص احتمالات، لابل موجبات التطور التعبيري على الطرف اللاارضوي نتاج الاشتراطات البيئية المعاكسة، التي تضع الكائن البشري على حافة الفناء بمقدمها النهران المدمران العاتيان المخالفان للدورة الزراعية مع انفتاح الحدود شرقا وغربا وشمالا على الانصبابات البشرية باتجاه ارض الخصب من الصحاري والجبال الجرداء، بخلاف حالة مصر تماما، وبالذات احتمالية الانتقال من شروط اللاتحقق البدائية الاولى، الى توفر اسباب الانتقالية التحولية مع الاله وتحولاتها التي تبدأ اولا بالمصنعية، قبل الذهاب الى التكنولوجية العليا العقلية، المتطابقة فعالية مع اللاارضوية، بينما تخرج الاارضوية الطبقية الاوربية وقتها من مجال التفاعلية الاليه التي بدات بين ظهرانيها.

ينتقل العقل اللاارضوي وقتها من التعبيرية الحدسية النبوية الى العليّة السببية، (الابراهيميه الثانيه التحققية العليا)، وقد اكتملت ساعتها عناصر الرؤية الكونية الضرورية المطابقة لاشتراطات التحولية التاريخيه كما مقررة حتما للظاهرة والوجود البشري المجتمعي منذ الابتداء.

ومع الانتكاس الطويل اليدوي الاول، واليدوي الالي التوهمي الاخير، فان العقل الارضوي يجد موضعا هو الاعلى آليات اصطراعية، وان تكن "طبقية" دون "مجتمعية"/ الاصطراعيه/، مركزها اوربا التي تعود مع انقضاء الطور اليدوي لتصبح لعلو الديناميات والاليات منطلق وبوابة الانتقال الجديد الفاصل، ما يمنحها، وان مؤقتا موقعا مضافا لتاريخها الانتكاسي القصوري الاول، حين كانت بمثابة مركز التاريخ المجتمعي، ومنطقة تحققه التاريخي الابتدائي الانتهائي، توهما وقصورا ادراكيا.

***

عبد الاميرالركابي


عقلان بشريان"الارضي" و"المعجز"(2/2)

عبد الاميرالركابي

يبدأ الاعقال البشري الوجودي، لاارضوي، وجهته ومقاصده لاارضوية كونية سماوية محكومة لشروط الابتداء غير القابل للتحقق، يمنعه من ذلك عاملان، القصورية العقلية، وافتقاد الوسيلة المادية الضرورية، ففي المنطلق وعند بداية التبلور المجتمعي بصيغته الاستثناء اللاارضوية السومرية الرافدينيه، يكون العقل مازال وقتها مرتهنا ادراكا لممكنات الوثبة الاولى بعد الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، الانقلابيه النوعية الافتتاح بعد مليارات السنين من الغلبة الكاسحة شبه المطلقة الحيوانيه، قبل ان تتسنى الشروط الضرورية لمغادرة الهيمنه الجسدية في انتقالة اولى، يصير معها العقل حاضرا ليدخل طورا اخر من اطوار تصيره وارتقائه الذي هو الجوهر ضمن عملية الارتقاء الناظمه للوجود الحي، على عكس تصورات النشوئية الارتقائية الارضية الدارونيه التي تجعل الانسان متحققا مكتملابصورة نهائية، لحظة انبلاج وحضور العقل الاول بعد طول رضوخه المديد.

ومن يومه تبدا عملية التصير والارتقاء الثانيه بعد الاولى حصيلة وحدة وتفاعلية البيئة/ الكائن الحي وتحولاته، ذهابا الى الصيغة "المجتمعية"، المحطة الاخيرة المفضية الى مابعد جسدية، وقت ينتهي دور ولزوم الجسد، ويصير ممكنا تجاوزه وتحرر العقل واستقلاله عنه، قبل انتقاله الى عالمه ومملكته الكونية الاخرى، مابعد الارضوية المؤقته الانتقالية. هذا المسار نحو ( الانسان/ العقل)، محل ( الانسايوان العقل/ جسد)، ذلك الذي يصير قائما مع الوثبة العقلية الاولى، غير المهياة، ولا القادرة على ادراك المنطوى التصيري المجتمعي وحقيقته، وما هو ذاهب اليه، فتظل القصورية لهذه الجهه تنتظر التفاعلية المجتمعية على مدى الطور اليدوي من تاريخ المجتمعية، بينما تستمر الرؤية الارضوية الحاجاتية وقتها هي الغالبة المتسيدة لدرجه الحلول بموقع البداهة.

يذهب تاريخ التعبيرية الوجودية الكونية المتوافق مع كينونة المجتمعية والوجود البشري الحي ومآلاته بين محطتين، اولى محكومة لاشتراطات اللاتحقق والقصور، وثانيه عليا هي محطة الانتقال الى "الانسان/ العقل" التحولية العقلية، تحضر بينهما وتتغلب الى حد، رؤية وتعبيرية اخرى هي الارضوية الاحادية المرتكزة الى القصورية ونقص اسباب تحقق اللاارضوية، كانتكاس طويل الامد، موافق لاجمالي الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي على طوله، محوره واساسه المفاعيل الارضوية الحاجاتيه الجسدية، يظل يسبغ على المجتمعات وتاريخها، واجمالي الوجود والنظرة له ولدينامياته ووجهتها، مايتماشى منها مع الحدود والمتاح المنظور ارضويا، والعائد للعيانيه المعتبرة "علمية"، اي الملموساتيه المحسوسة، باغفال كلي وتام للاليات الفعليه المجتمعية ولقانون حركتها، والهدف الناظم لدينامياتها، علما بان الامر لهذه الجهة يشمل مفهوم "العلم" نفسه و "العقلانيه" المجتزاة والمحدوده ارضويا، بما يجعل هذين التوصيفين ومايدلان عليه منقسمين الى ارضويين ولا ارضويين، هما ايضا.

يصر العقل الارضوي قاطعا جازما بحكم طبيعته، على انه هو"العقل"، متجاهلا بنكران كون العقل الحالي له سابق هو الخفي غير المعلن المحتجب داخل الكينونه الحيوانيه الازدواجية، ايام كان الكائن الحي حيوانا، فهل يمكن ياترى اعتماد "العقل الحيواني" على اعتباره هو العقل النهائي ولاغيره؟ مثل هذه الرؤية مصدرها الاساس الاعتقاد بجمودية العقل، ورفض ديناميات تصيره وترقيه التصيري، وصولا لوثبته الحالية المتزامنه مع الانتصاب واستعمال اليدين على انه المنتهى والمأمول الذي لابعد له، والحال وبالمقارنه فان مانشير اليه هو نظير المفهوم العقلي الحيواني لو وجد، حين لم يكن بالمطلق التفكير باحتمالية الوثبة العقلية الراهنه واردا.

العقل بالاحرى وقطعا، ليس الذي نعيش في غمرته وتحت مفعوله الحالي، وهو سائر حكما الى مابعد، والى وثبة اخرى لايعود معها العقل الراهن الا بمستوى ومن عينة العقل ابان فترة التسيد الحيواني، مع الاختلافات التي تفرضها لحظة التصير وشروطها، ليس العلم الراهن " علما"، ولا العقلانيه " عقلانيه الا بمنطق ومفهوم الارضوية والعقلية الانسايوانيه، اما "العلم" و " الاعقال" فمايزالان واقعين تحت وطاة واشتراطات ماقبل، الى ان تاتي الوثبة الثانيه العقلية، ونصير امام مفاهيم اخرى، وطريقة نظر للاشياء لاعلاقة لها بالمعروف اليوم وماهوسائد.

وليس الامر على هذا الصعيد معزولا عن التفاعلية الواقعية، فنهضة الغرب الحديثة تلك التي حركها الانقلاب الالي، لم تكن مجرد انقلاب على مستوى الارضوية وممكنات الجسدية كما ذهب الغرب بتوهميته العائدة الى رسوخ خضوعه لمتبقيات الوعي والادراكية اليدوية، فالالة المصنعية ليست نهاية الاله شكلا ومفعولا، وهي تظل بعد ظهورها سائرة بالاصطراعية مع المجتمعية التاريخيه اليدوية، الى التكنولوجية، والتكنولوجية العليا المتجاوزة مفعولا لعالم اليدوية ومتبقياته، وبالذات ايهاميته التي تتكرس على يد الغرب ابتداء، الى ان يصير عالم الكيانيه والدول، وكل اشكال ومتبقيات الطور اليدوي وتطويراته الكيانوية القوموية والوطنيه، واشكال تنظيم الدول الداخلي، ومنها المستجده الايهامية الليبرالية والمدنيه، خارج الفعل وامكانيه الاستمرار، بينما تتعدى المتغيرات التكنولوجية ومايرافقها، ممكنات استمرار الدول الحالية، لتشيع من يومها الاضطرابيه القصوى، والفوضى التدميرية الاحترابيه الحالية، ويحل زمن "وحدة البشرية"، مع الاقرار الابتدائي بالانتقال من الارضي الى الكوني، حيث الاداة الالية العليا وسيلة تفاعلية عقلية لاجسدية، وحيث مجمل التنظيم والجهد البشري من هنا فصاعدا، ذاهب الى بناء عالم "مابعد كوكب الارض" ولزومية "مابعد جسد".

يدخل العالم والكائن البشري اليوم مرحلة عظمى من التاريخ، ينتهي معها فعل وجدوى عالم الارضوية وعيا وتنظيما، واشكال وصيغ حياتيه على المستويات المختلفة، ويبقى الاخطر متبقيات التوهمية الغربية وماتصر على التمسك به من اسباب الاعقال المتجاوزة، وسبل التعامل مع الشان المتعلق بالكائن البشري ووجوده، واحتمالية استمراره، فضلا عن عبوره مترقيا الى الطور الاخر الترقوي العقلي المنفصل عن الجسدية،مع مايتطلبه كل ذلك من مواجهة غير مسبوقة وصعبه التخيل، ناهيك عن مقتضيات التعامل الاستثنائي غير المتاحة مقاربته ماتزال.

اليوم وفي مثل هذا الحال الفريد، والمقارب لاشكالية البدئية من دون ماتقتضيه وتتطلبه من وسائل من طبيعتها، لايبقى من مدخر انقاذي امام الكائن البشري، الا الرؤية الاعقالية الاخرى الكونيه اللاارضوية، بصيغتها الثانية المكتملة العناصرالتحولية، بافتراض توفر الاسباب لها كي تتحقق بعد ان زال النقص التحولي المادي العقلي مع الاله المتحولة الى التكنولوجيا العقلية العليا، وبعدما مر العقل بالاسباب والموجبات الضرورية، بعد تفاعلية وخبرة التاريخ الفاصل بين الوثبة العقلية الاولى، والوثبة المنتظرة اليوم، تلك الثانيه الانقلابيه الانتقالية العظمى الى خارج الكوكب الارضي بعد انفصال العقل عن الجسد وتحرره من متبقيات الحيوانيه العالقة به.

انتهت الابراهيمه النبوية الحدسية، كما انتهت التوهمية الغربية الارضوية، ليغدو العالم والجنس البشري على موعد صعب وعسير غير مسبوق مع الرؤية اللاارضوية العلّية السببية المنطلقة من ارضها الاولى، ارض مابين النهرين.

...

في المثقف اليوم