أقلام فكرية
مصطَفَى غَلْمَان: حول هوية "الكائن التكنولوجي الرقمي" الجديد؟
- (هناك تجاوزات رقمية سريعة التأثير في بنى المجتمع الهش. وهناك آثار خطيرة على وحدة قيم هذا المجتمع. لكن الأجدر بالتفكير الآن، هو كيف نجتاز عصر الرقمنة، في بؤر متفسخة من الأدلجة والمثاقفات المستغربة وتنويعاتها اللا أخلاقية الشاذة؟).
ما يطلق عليه حديثا ب"علم الاجتماع الرقمي"، لا يبحث فقط في الاتصالات والإعلام والدراسات الثقافية، بل يتجاوز ذلك، إلى تقنيات الكمبيوتر واستخداماته الشعبية المنتشرة.
أدارت تكنولوجيا الرقمنة، عالما مدهشا، وحقلا غير مسبوق في السوسيولوجيا الإعلامية، وهو ما سيؤثر لا محالة في متاهات التعامل مع المنصات عبر الإنترنت، وتجاوراتها وتقاطعاتها أيضا مع المجتمع والثقافة والسلوك البشري. وأضحى مفهوم المجتمعات الرقمية، والتفاعلات الاجتماعية عبر الإنترنت، وتأثير التكنولوجيا على الهياكل الاجتماعية، وآثار الوسائط الرقمية على الهوية والعلاقات الاجتماعية، الأكثر حضورا في علم الاجتماع الرقمي المذكور. الشيء الذي سيفرز قيما في النقاش العام لهذا التوجه، في السنوات القليلة القادمة، خصوصا وأن العديد من منظري هذا السياق الأكاديمي والبحثي، سيضعون ضمن تناولاتهم الأساسية مسألة "عدم المساواة وديناميكيات القوة التي تنشأ في العالم الرقمي"، وواجهات النشر السريع ضمن وحدات التواصل الاجتماعي المختلفة، وآفاقها وانتظاراتها في دراسات الاتصال والأنثروبولوجيا ودراسات التكنولوجيا.
لقد أثار الأمريكي فاريل وبيترسن، مصطلحا جديدا، يواكب هذا الرصد المستقى مما أسماه "عالم الاجتماع المتردد" ، ويقابل هذا التوجه التقائية البيانات للدراسات البحثية الاجتماعية، التي يتكأ عليها، مع ما يحتمله التحول الطفيف، في مجال الدراسات الثقافية متعدد التخصصات (الذي غالبًا ما يكون مرتبطًا بالدراسات الإعلامية) والذي ظهر في السبعينيات، وكذا الأبحاث والتنظيرات المتعلقة بوسائل الإعلام.
وتذهب دراسات غربية، إلى أن مختصي الدراسات الثقافية كانوا يهتمون بشكل خاص بالثقافة السيبرانية بدلاً عن مصطلح "مجتمع المعلومات" أو "علم اجتماع تكنولوجيات المعلومات" الذي يميل إلى استخدامه في علم الاجتماع. إلا أن التركيز "السيبراني" على الدراسات الثقافية ضمن باراديجم الأبعاد المستقبلية والخيال العلمي للتكنولوجيات المحوسبة، ضيقت واسعا، وأضحت "تكنولوجيا المعلومات" موجهة بالضرورة للاستخدام المبني والواقعي والنفعي لهذه الأجهزة للوصول إلى المعلومات.
والحقيقة أن وحدة الهدف السوسيولوجي، في هذا المضمار الجديد والمتجدد، ظل يمايز في الجوهر بين الثقافة الإلكترونية والجوانب الموازية التي تؤطرها وسائل الإعلام والثقافة الشعبية.
واستبق علماء الاجتماع البريطانيون هذا الاحتدام، ليطرحوا تيمات أكثر وعيا وأوسع نطاقا، فقاربوا الجريمة والاغتصاب والقتل والطبقية الاجتماعية. فكان لذلك وقع فاعل في عقول الناس وثقافتهم واجتماعهم، وهو ما سرع بطرح إشكالات القيم المجتمعية، كالقيود المفروضة على الحريات التي تفرضها الهياكل الاجتماعية مثل الطبقة الاجتماعية والجنس والعرق، والآثار الناجمة عن تداخلات السياسة بالدين، والحقوق الإنسية في المجتمعات الإثنية ..إلخ.
من خلال قراءاتي البحثية، لبدايات هذا العلم، ودوره في حلحلة السياقات التي شهدت مؤخرا بزوغ أسئلة جديدة في وسائل الإعلام الجماهيرية والرقمية، اكتشفت أن أول بحث نُشر لاستخدام مصطلح “علم الاجتماع الرقمي” كان لعالم اجتماع أمريكي في مجلة أمريكية وين سنة 2009، وأن جمعية علم الاجتماع البريطانية قد وافقت رسميا على مجموعة دراسية جديدة في علم الاجتماع الرقمي عام 2013. كما قدمت جامعة جولدسميث، جامعة لندن، أول درجة ماجستير في علم الاجتماع الرقمي، وتم نشر أول كتاب بهذا العنوان في عام 2013 (Orton-.
يقول كيب اورتون "لا يقتصر علم الاجتماع الرقمي على قيام علماء الاجتماع بالبحث والتنظير حول كيفية استخدام الآخرين للتقنيات الرقمية أو التركيز على البيانات الرقمية المنتجة عبر هذا الاستخدام".
ووفق هذا المنطلق، فإن لعلم الاجتماع الرقمي مضامين أوسع بكثير من مجرد دراسة التقنيات الرقمية، مما يثير تساؤلات حول ممارسة علم الاجتماع والبحث الاجتماعي نفسه.
ويواجه هذا التخصص رهانا آخر حول كيفية استخدام علماء الاجتماع أنفسهم للوسائط الاجتماعية وغيرها من الوسائط الرقمية كجزء من عملهم. كما تميل نفس أنواع الاهتمامات والمناهج النظرية إلى المشاركة من قبل علماء الاجتماع الذين يكتبون على وسائل الإعلام الرقمية وآخرون يعلقون على القضايا ذات الصلة مثل مستقبل علم الاجتماع كنظام، وأنواع أساليب البحث التي ينبغي استخدامها، وكيف ينبغي تصورها، والطرق التي أصبحت بها قضايا القياس والقيمة بارزة في المجتمعات المعاصرة، وظهور اقتصاد المعرفة والتشكيلات السياسية الجديدة وعلاقات القوة الواضحة. في حين أنه لا يمكن لجميع هؤلاء العلماء تصنيف أنفسهم على أنهم علماء اجتماع رقمي على وجه التحديد، إلا أن عملهم ساهم بشكل كبير في الاتجاه المميز للتخصص الفرعي كما ظهر مؤخرًا.
السؤال المطروح بإزاء هذا القول، كيف ننخرط نحن كإعلاميون وباحثون في حقول الاتصال والثقافة والفكر، في بنية مفاهيمية لا تتمظهر ضمن تفاعلاتنا المجالية. وليس لها أي صدى في اختياراتنا وتمثلاتنا؟.
ما هي العلامات التي تتقاطع فيها معارف العلم التأويلي الجديد "علم الاجتماع الرقمي"، وقياساته الأفقية، التي أضحت فاعلا استراتيجيا في كل اكتشافات العصر التكنولوجي المتغول، بكل جغرافياته اللامحدودة وفواعله المترامية وأدواته الخطيرة؟
كيف سنتمكن من تجاوز الفوارق الشاسعة بين عالمين متناقضين متصارعين، يتفاوتان في تحديد عناصر الفهم والتلقي، ويتناظران في أسباب الوجود والسيرورة؟
هل ننجح في توسيع هذه الحدود المصطنعة، ليصير الكائن التكنولوجي الرقمي، جزءا من الفهومات السياسية والثقافية والهوياتية، المأمولة أن تنتقل بنا من عالم الخوف والشك والاستقواء وتردي القيم الكونية، إلى فضاء مشترك مسالم متسامح، يعدل في توزيع الثروة العلمية والمادية، وينصف في توحيد رؤى التحضر والعيش بكرامة، ويناصر مواثيق الأمن والائتمان، بكل خلفياته المجالية والبيئية والتنموية ..إلخ.
***
د. مصطَفَى غَلْمَان