أقلام فكرية
سامي عبد العال: فلسفة النِعال (3)
تقف أشكال النعال كعلامةٍ مميزةٍ للعصر الذي تُوجد فيه. وكل علامة بمثابة نطاق من (المعنى الأوسع)، حيث يربط الأحذية بصورة العالم وتحولات السياسة والاقتصاد وتاريخ الأفكار. إننا كبشرٍ حريصون جميعاً على التواجُد داخل هذا النطاق الجذّاب لنشعر بمعنى حياتنا الإنسانية. يبدو ذلك واضحاً مع المودات والبرندات التجارية brands الناتجة عن التفاعل بين الحاجة والجماليات وأنماط العيش. لا يذهب الإنسان لشراء حذاء بسهولةٍ، فهناك عددٌ ليس بالقليل من رغبات الآخرين التي حطّت وستحط عليه. وعادةً نحن نسعى إلى الشيء المرغوب من آخرين سوانا، وإن كانت تحركنا الاحتياجات الخاصة إليه.
تنتصب الأحذية في هذا الاتجاه دالةً على تطورنا بدرجة واضحةٍ مثل كافة الصناعات الأخرى كالأسلحة والسيارات والأدوات الطبية وتكنولوجيا البناء ووسائل الاتصال. ستخبرنا الأحذية تاريخياً عن كيفية تعامل البشرية مع دائرة الأقدام والعقول. وعلى خط متواز من (الخريطة الجيو سياسية) للعالم، تركت تيارات الاقتصاد بصماتها الخفية على جلود الأحذية. فأجيال الأحذية تتوقف على تطور صناعة الجلود وجماليات التصميم وإدهاش الخيال، فشراء حذاء يحتاج إلى كم لابأس به من الإغواء وإثارة الرغبات بين الناس. حتى نوعية الجلود ذاتها كانت حصيلة موجات استكشاف القارات والاستعمار والحروب وانتهاك قدرات الطبيعة الحيوانية.
بالإمكان وجود حيوانات أفريقية تمَّ استعمال جلودها في أحذية أثرياء أمريكان أو أوروبيين، وبالإمكان وجود حيوانات بأحراش الأمازون في انتظار دورها لتُصبح براندات لأحدث أحذية نساء العولمة. وبالطبع تمر العمليات السابقة بشبكة معقدة من الأعمال والتصاميم والتخطيط والتداخل مع سياسات الدول الكبرى والشركات العابرة للقارات وتحولات الاقتصاد. لأنها شبكة عاكسة لتعقد بنية النظام العالمي وفاعلية القوى الكبرى الحاملة لموروثات الهيمنة والاستعمار.
لا تزول تلك الموروثات بجرة قلمٍ ولا تُمحى مع الزمن، لكنها تتحول إلى أساليب أخرى أكثر تعقيداً. و ليس أدل على ذلك من كون أرباح صناعة الأحذية وتجارة جلود الحيوانات النادرة تصب في جيوب العملاء واثرياء الدول الغربية والشرقية. وبالوقت نفسه تبدو الأقدام في قارات العالم لامعة تحت أشعة الشمس اختيالاً بما يلبس الأفراد من جلود ثمينة جاذبة للأنظار إلى أقصى مدى.
لم يكن ذلك أمراً مُتاحاً ولا مفهوماً للأحذية إلاَّ مع بنية عصر الحداثة، أجل كان يجب المرور به حتى نفسر هذا التحول. فإنَّ تلميع الأحذية وكونها معبرةً عن شخصية أصحابها ظاهرة حداثية بامتياز. المجال العام وحرية الإرادة والتفاعل الجمعي والتنظيم الجسدي للأفراد هي إفرازات للفضاء العام في المجتمعات الحديثة. بل هي أمور تستوجب نعالاً عملية وحرة الحركة لتعبر عن الأفكار العملية.
ولاسيما أن انتشار الأعمال والتوزيع الاقتصادي يتطلبان أحذية من نوع خاص مناسب لهما. وهو ما جعل صناعة الأحذية صناعة ذات تداعيات مهمة اجتماعية وسياسية وتستعمل باختلاف المهمام المنوطة بالأشخاص في المجال العام. لأنَّ النعال جزء من هوية الأفراد الحركية، سواء أكانت أحذية ذكورية أم نسائية. وهي دالة في الحالين على الشخصيات الاعتبارية التي تستعمل كيانها الجسدي في الممارسات السياسية والاقتصاية.
وهذا هو الباب الكبير الذي حول الأحذية – كما أشرت منذ قليل- إلى مودلات عالمية تستغل الشركات العابرة بعض الخامات الحيوانية المتاحة في قارات العالم لصناعتها. فالأحذية تعلقت بموجات التمدد السياسي واجتياح الدول والمجتمعات المهمشة على أساس خدمة الرجل الأبيض، وكانت علامة على نمط حياته الباحثة عن الثروات ومطاردة المجهول في قارات العالم طوال الوقت. فالكاوبوي caw boy في أمريكا كان يرتدي حذاءً مناسباً لركوب الخيول واصطياد السكان الأصليين، كذلك عمال المناجم الذين يخدمون مركزية الصناعة الأوربية أُرسل لهم أحذية عملية لسرعة الإيقاع وتوريد المعادن إلى دول القارة العجوز. وأخذ الأثرياء - أصحاب الأعمال - يجوبون قارة أفريقيا عائدين بكنوز طبيعية وحيوانية ثمينة.
هي" مافيا الأحذية" إذن التي نشطّت حركة تجارة قوية من هنا وهناك لخدمة العولمة وتصنيع الخامات في بلاد أوروبا والغرب مستغلة ضعف البيئات والمجتمعات المحلية وعدم قدرتها على الانتاج. وفي الوقت نفسه، فإن نمط الحياة الغربية والمابعد حداثي يحتاج إلى وفرة المواد الخام التي تلبي مطالب أزياء ورغباب العصر. وليست الأحذية إلاَّ مفردة مجسدة لهذه الأذواق العالمية التي قد يكون جلدها من أمريكا اللاتينية والايدي العاملة فيها من جنوب شرق أسيا والتصميم من بقايا هيمنة المركزية الغربية والعقول المروجه لها من ألمانيا أو انجلترا أو فرنسا. الأطراف الثلاثة يشكلون حالة تلبس في علامة الحذاء، وكيف يؤدي دوراً ضمن مزيج العولمة الذي تضخم مع الأزمنة الراهنة.
ومن جنس المجال الذي يحمل فيه الحذاء حداثة الأفكار، كانت تدرج معانيه للإعتراض كذلك والتوظيف السياسي، فعباس محمود العقاد ذات مرة وضع حذاءه على إحدى منصات البرلمان مشيراً إلى أنه سيضرب بالحذاء كل من يعتدي أو ينتهك الدستور المصري 1923، هذا المولود الجديد من رحم ثورة 1919. كان يقول ذلك الكلام في استعمال صريح لمعنى الحذاء اعتراضاً واستعمالاً عبر مضمار السياسة. وكذلك يدافع بالحذاء عن مفردةِ الدستور، وهي مفردة حداثية وليدة تطورات العصر الحديث. وفي هذا السياق كان العقاد يقصد سحق رأس الملك نفسه، لو اعتدى على سيادة الدستور وإلغاء بعض الحريات كحقوق أصيلة للشعب المصري. حيث كان الملك يريد تقليص الحقوق والحريات وحل مجلس الشعب وتعطيل القوانين والتشريعات. وفي هذه الأزمة آنذاك، وقف عباس محمود العقاد قائلاً: " إنّ الأزمة ليست أزمة مجلس الوزراء، ولكنها أزمة مجلس النواب والدستور المصري .. وليعلم الجميع أننا مستعدون لسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته".
ظهر مشهد حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي متسقاً مع عبارة العقاد السابقة. إذْ اطلق الزيدي (نعله) كقذيفة عابرة للرؤوس في4 ديسمبر 2008، كي تضرب هامة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن بجوار نوري المالكي رئيس وزراء العراق، نتيجة كونه – أي بوش الإبن- قد دمر العراق وأطلق أكاذيب السياسة التي دمرت المجتمع والدولة العراقية.
ورئاسة الابن بوش قصة مكتملة الأركان في سياسات الصهيونية المسيحية، وكانت هامته تستجلب شعبياً رشقات الأحذية العربية من كل حدب وصوب. لأنَّ الهامة التي لا تقبل رؤية الواقع ولا تحترم خصوصية المجتمعات الأخرى، تقترب من قطافها بأقرب حذاء ممكن. وكلما كانت السياسات الأمريكية متعسفة ومدمرة في المنطقة العربية، فالهامات التي ترتفع معبرة عنها تحتاج إلى أحذية مناسبة. ليس من باب الإهانة.. فلا توجد في السياسة إهانة بالمعنى المعروف، ولكن من باب أنه "لكل مقام مقال".
ومن ثمَّ كان مشهد حذاء الزيدي أكبر مشهد يصور انتقال النعال من جعبة الحداثة الغربية إلى أحد استعمالاته ما بعد الحداثية. لأن الصورة جرت كطقسٍ سياسي أثناء إلقاء جورج بوش لكلمته خلال المؤتمر الصحفي، وكذلك كان المشهد منقولاً عبر وسائط تقنية عالية الدقة والجودة وسط ترقب عالمي لما يجري. والحذاء جعل السيايسة مجالاً رمزياً مختلفاً ونقل التحليل السياسي من التراشق بالكلمات إلى نوع آخر من الردود. وربما كانت أحذية العرب قد وجدت في حذاء الزيدي حينئذ ضالتها التي لم تستطع الوصول إليها.
إن حذاءً طائراً يلخص ما جرى في العراق طوال عقود من التدهور السياسي وتدخل القوى الدولية في شؤونها حتى اللحظة. لقد جاء حذاء لائقاً بأكبر رأس عولمي (رأس الرئيس الأمريكي)، رأس البوارج والأسلحة العابرة للقارات وتجارة الدماء وغسيل الأدمغة وانتشار المرتزقة ونهب المجتمعات. رأس شارك في أغراق العالم العربي بفوضى الجماعات الإرهابية وتبنتها وضمنت تواجدها في المشاهد والصرارعات المسلحة حتى الرمق الأخير.
وعليه فقد جرت استعارة رأس الأفعي على ألسنة بعض الكتاب والمثقفين المؤدلجين للإشارة إلى كيان أمريكا. ورغم أن بوش الإبن كان رئيساً غير مرحب به في المجتمع الأمريكي وقالت والدته زوجة بوش الأب: " لقد تولى السلطة أغبى أولادي بعد فوزه بانتخابات الرئاسة"، إلاَّ أن المشهد أعطى بوش خلوداً من باب رجم الرأس الماكر. رأس محشوة بالأضاليل والأكاذيب السياسية التي مازالت الأدارات الأمريكية تعيد استعمالها في منطقة الشرق الأوسط.
كان حذاء الزيدي سارياً كالطائرات ما بعد الحداثية المسيّرة. ودخل بالمؤتمرات الصحفية إلى دائرة المحظور، وحبس الأنفاس على إيقاع التململ من النعال والحذر منها. حتى ود رجال السياسة إصدار أوامر للصحفيين ولكل الحضور بصدد المؤتمرات واللقاءات العامة " اخلعو نعالكم أنتم في اودية المدنس". والعبارة عكس الآية القرآنية وتشتغل على قلبها دلالياً لصالح تعرية مشاهد أهل الحكم على الحقيقة، وتشف قدرتنا نحن البشر على اعتبار الدنس، النجاسة، القذارة، جزءاً من وجودنا الثقافي.
وردت أشعار العراقي أحمد مطر في هذا الصدد ترياقاً سردياً كان هو عقدته الدرامية، حيث جعلت من النعال إعلانات سياسية إزاء كل هامات ماكرة. وليتها صيغت ككل الاعلانات المعروفة، بل غدت قطع من السخرية اللائقة بالرؤوس المترنحة سياسياً بين شرق وغرب.
" فوق نعلي كل أصحاب المعالي،
قيل لي عيبٌ، فكررت مقالي،
ثم لما قيل لي عيبٌ، تنبهت إلى سوء عباراتي،
وخففت انفعالي، ثم قدمت اعتذاري لنعالي" ..
عبارات الشاعر أحمد مطر قطعٌ من شظايا التاريخ مغموسةً بكم من الألم والجرأة والسخرية. إنها البلاغة الشعرية للوقاحة التي تناسب رؤوس أينعت بالفساد والتخلف فحان قطافها بالنعال على طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي. وتقوم اللغة بدورتها الثقافية ناقلة لنظام الشفرات الذي تبثه السلطة. وعبارات مطر تفك تلك الشفرات في لمح البصر، لأنَّ كل مستبد وكل صاحب معال متغطرس يظن كونه ساكناً منطقة الخفاء من وعينا الجمعي. ولكن يخرجه الشاعر مطر فوق حذائه مباشرة. إن المباشرة في هذا القول أبرز رمزية يمكنها التعبير عن المواقف، وهي ما يستحقه أصحاب الرؤوس الفارغة.
إن العلاقة بين أصحاب المعالي ونعل الشاعر أو النعل إجمالاً لم تكن واضحة. وليس هناك من مبرر مبدئي بإمكانه أن يقول ذلك. ولكن عندما وضع الشاعر كل أصحاب المعالي فوق النعال بلا مقدمات، فقد ظهر في ذهنية المتلقي السبب. أي جعل المتلقي يخمن ويبحث عن أسباب ذلك، وبخاصة أنَّ كل متلق لديه حزمة معتبرة من أصحاب المعالي. وكانت الدهشة من العقل هي أصل المفاجأة والتي جعلت المباشرة قوة في متن الأبيات والواقع معاً. لأنه لا يوجد أحد يستطيع مادياً وضع أصحاب المعالي على الحذاء، ولكن شعرياً كان الأمر سهلاً لدرجة الفعل. وهو ما قزَّم الواقع ولم يحل دون إيقاع المعنى على أي نحو من الأنحاء.
والتكرار في قول القائل (فكررت مقالي)، هو تكرار نتيجة الممانعة الصلبة التي يحيط بها المستبدون أنفسهم. لعلهم يحيطون أنفسهم بجدار من الصولجان والحماية دون النيل من ذواتهم. وهذا ما يجعل الشعوب تملأ الفراغ في الغالب بحشو من الأوهام والمخاوف تجاه السلطة، فالقوة التي يقفون عليها قوة مفتعلة ومصطنعة من ألسنة الناس ومن فائض خيال المجتمعات. وليس أدل على ذلك من اتيان كلمة"العيب" في متن الشعر، وهي رباط يشبه رباط الأحذية، العيب رباط توثق الثقافة به وعي الأفراد حائلة دون التمرد والرفض. وبه تحولت السياسة إلى أخلاقيات فارغة المضمون، ولكنها قوية التأثير نتيجة هذا المكر الذي تصطنعه الرؤوس.
ولذلك كانت النهاية مفاجأة بالمثل أن قدم الشاعر الاعتذار لحذائه على أساس وجود احتمالات عدة:
أولاً: أن يشجب المتلقي الفعل الذي حدث من صاحب النعل تجاه أصحاب المعالي.
ثانياً: أن يكون الحذاء رمزاً للنقد والاعتراض على أمرٍ ما، وليس على كلِّ ما يحدث من أصحاب المعالي.
ثالثاً: أنَّ الاعتذار للنعال كان قفزة خيالية مثل قفزات ما بعد الحداثة المهولة تجاه العالم والأشياء. فالنعل لا يليق به أن يتورط هذا التورط.
رابعاً: أن يغير الشاعر قناعات المتلقي في كون الأحذية أرقى من كل الأشياء، ولو كانت إشارة إلى أشخاص سقطوا إلى مرتبة أدنى منه.
صادف أنَّ الشاعر مطر مع القفزة الخيالية لمعنى النعال قد غيّر قناعات المتلقي إزاء ذاته. فالإبتسامة الحفيفة مع صورة التعبير الشعري ضمن البيت الأخير جاءت مغلفة بالسخرية والعلو وإطلاق سراح الحرية إلى الذروة. ولعل الحذاء قد وصل إلى غاية ما بعدها غاية. لم يعد مجرد وسيلة، ولكنه كتاب مفتوح يحتاج إلى التسطير المتواصل... إنه بات أرشيفاً شاهداً على أحداثٍ جسام.
***
د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة