أقلام فكرية

انيا ستانبوير: مانحتاجه قبل قراءة النصوص الكانطية

بقلم: انيا ستانبوير

ترجمة أ. م. د ليث أثير يوسف

***

What You Need to Read Before You Read Kant

22nd April 2024 is the 300th birthday of Immanuel Kant. Anja Steinbauer introduces the man and gets you ready for his three Critiques.

مقالة بمناسبة الذكرة السنوية (300 سنة) لوفاة الفيلسوف ايمانويل كانط، بقلم الاستاذة انيا ستانبوير استاذة الفلسفة واحد منقحي موقع الفلسفة الان  Philosohy Now الشهير

***

تمر علينا الذكرى السنوية لوفاة الفيلسوف ايمانويل كانط وقد تعودنا في مرحلة الدراسات الأولية، وعندما يطلب أحد الطلبة المبتدئين نصيحة منك حول احد الكتب الممهدة لفهم الفلسفة سيجيبه أستاذي القديم كتاب (نقد العقل الخالص) وللوهلة الأولى يبدو للبعض إن هذا الأمر سخيفاً فنصوص كانط ولاسيما أعماله المتأخرة عسيرة الفهم، وربما الكثير من القراء يتحاشاها بل حتى صديق كانط موسى مندلسون وهو أحد أعظم مفكري القرن الثامن عشر أعلن صراحة ان نقد العقل الخالص نفسه ب" كتاب يرهق الأعصاب" ومع ذلك أعتقد إن أستاذي القديم كان على حق فبمجرد ان تستهل تلك النصوص بقراءتها تجدها نصوصا مفيدة لتعلم المنهجية الصحيحة للتفلسف، وتحفزك على التصارع معها والاختلاف معها فهي نصوص منهجية ونقدية على نحو مرض، إذاً كيف تبدأ ؟ أرى من المفيد قبل القراءة إن تعرف القليل عن خلفية ذلك الفيلسوف واهتماماته وطريقة تفكيره بالإضافة إلى المفاهيم التي كان يستخدمها في نصوصه .

من الشائع إن أغلب مفكري وفلاسفة عصر التنوير كانوا أثرياء على عكس ايمانويل كانط الذي نشأ بين تسعة أطفال لاب فقير كان يصنع اللجام وكان اقتصاديا وزاهدا بل كانت عائلته تمتاز بالتقوى، وهي جزء من حركة دينية إصلاحية ظهرت في القرن السابع عشر، وكانت تهدف إلى إحياء الشعائر البروتستانتية وإحداث إصلاح في الكنيسة، لم يكن كانط متدينا حين بلغ أشده، وهذا ماأثار السخط تجاه سلوكه هذا، وكانت أصابع الاتهام دائما موجهة إليه، ولكنه كان يقابلها بسلوكه الهادئ والعقلاني الإيجابي يرافقه سلوك مليء بالتقوى والزهد، وهو يذكرنا ب" الحكيم الرواقي" وقد اعترف نفسه بأن هذا السلوك اقتبسه، وتعلمه من والدته التي اتسمت بفضائلها الأخلاقية العالية، وبدعم من الأصدقاء والمقربون الذين اكتشفوا موهبة كانط تم دفع الرسوم الدراسية من قبلهم وارسلوه الى مدارس جديدة نموذجية كانت تتميز بالصرامة ومناهجها وطريقة تدريسها كان جافاً بل لاتلبي حاجات المبتدئين في طرح الاسئلة الفلسفية ولاتكترث لمثل هذه التساؤلات ولكن مع ذلك بقي كانط فضويا ومفكراً وتم تسجيله كطالب في الجامعة وأستطاع الانفاق على نفسه من خلال العمل كمحاضر وايضا الكسب من خلال المراهنات في لعبة البليارد فقد كان بارعا فيها وهذه مكنته وأعانته في فترة حياته المبكرة وفي سن السادسة والاربعين حصل أخيرا على درجة الاستاذية في تخصص المنطق والميتافيزيقا التي كان يتوق اليها وهي ماأنعشت حياته الاقتصادية .

عاش كانط طوال حياته في كونجسبرغ .التي كانت في ذلك الوقت مركزا تجاريا صاخبا في منطقة بروسيا وكان لديه اصدقاء متنوعين وأفضلهم كان تاجرا انجليزيا مهاجرا يُدعى جرين، أما بالنسبة لطلابه فهم متنوعون ايضا كانوا يقدمون من بروسيا والولايات الالمانية داخلها وخارجها وحتى من روسيا ودول البلطيق وبولندا، وعلى الرغم من كانط قد كرس جل وقته للعمل الاكاديمي لكنه لم يغفل حياته وتواصله الاجتماعي فقد كان يتناول غدائه من اصدقاءه ويمارس لعبة البليارد ولعبة الورق ويتابع المسرحيات وهذا الجو الممتع بالطبع حدث نتيجة لتغير الحياة الثقافية اثناء الاحتلال الروسي لكونجسبرغ (1758-1762) وجعلها اكثر ليبرالية واقل صرامة للحياة الاجتماعية وأكثر رفاهية وانفتاحا على الحياة العصرية.

نشر كانط في وقت مبكر من عام 1755 كتاباً اسماه (The General Natural History and Theory of the Heavens) (التاريخ الطبيعي العام ونظرية السموات)، طرح فيه تفسيرا ميكانيكياً لبداية الكون وكان في وقته مثيرا للنقاشات العلمية الفلكية، أما كتبه حول الدين فقد واجه فيها مشكلة مع السلطة كون النظام السياسي القديم الذي كان يشجع على نقد الدين بزعامة الحكام التنويريين مثل فريدريش فيلهلم الأول وفريدريك الكبير قد انتهى وبدأ عصر جديد مع عهد فريدريش فيلهلم الثاني الذي كان متشدداً ولفترة طويلة من الزمن كانت هناك شائعات بأن فيلسوفنا قد تم نفيه أو تكميم فاه وفقدان حقه في النشر ولكن هذا الامر لم يحدث حقيقة ولكن الذي حدث فعلا هو في تلقي كانط تحذيراً شديد اللهجة من الملك شخصيا والذي اتهمه بإساءه استخدام منصبه كمربي للعقول الشابة وتحريضهم على الاساءة لتعاليم الكنيسة وقد أنكر كانط جميع هذه الاتهامات ولكنه في الوقت نفسه وعد بعدم نشر اي كتابات اخرى حول الدين طوال فترة حكم الملك وبعد وفاة الملك نشر كانط افكاراً اكثر انتقادا للدين وفي عام 1796 وعن عمر ناهز ال 73 عاما القى كانط محاضرته الاخيرة .

كتب كانط النقدية الثلاثة

بعد عقود من الانغماس في العلوم والفلسفة والموضوعات الاخرى بدأ كانط مشروعه النقدي (Critical) فبمجرد ان بدأ بمشروعه الاول (نقد العقل الخالص) تغير اسلوب حياته وتحول من مثقف شجاع اجتماعي الى استاذ منعزل يتبع حياة صارمة يسودها الدقة والانضباط الذاتي المتصاعد، ويًشار الى فلسفة كانط بـ (المتعالية) (transcendental) وهذا المصطلح بحد ذاته لا يعني (ما وراء) أو بطريقة ما عالم اخر بل الكلمة هنا لها معنى تقني، فهي تشير الى البحث في (الشروط اللازمة لإمكانية حدوث ذلك) وبمعنى اخر في كتاب نقد العقل الخالص يتساءل كانط قائلا :مالذي نحتاجه في بحثنا لكي نصل الى معرفة ممكنة ؟"، هنالك فلاسفة اخرون طرحوا تساؤلات حول :ما هو محتوى معارفنا ؟وماذا يمكننا أن نعرف ؟لكن على النقيض من ذلك يتساءل كانط هنا حول الشروط المسبقة للمعرفة الانسانية وبنفس الوقت كرر الامر ذاته في كتابه نقد العقل العملي فيسال كانط عن شروط الاخلاق وفي نقد الحكم في شروط الجمال وغيرها في تطبيقات الحكم (judgment) .

السؤال هنا لماذا تحمل الكتب الكانطية الثلاثة اسم (نقد) فماذا كانت تلك الكتب الثلاثة تنتقد ولماذا ؟ .انها انعكاس نقدي لحدود امكانية العقل وهذا بالطبع المذهب العقلي الذي استقاه كانط من المدرسة العقلية التي ترأسها لايبنز ونقحها كريستيان وولف .فالفلاسفة العقليون يعتقدون بأن المعرفة تنبع من العقل وقد بدأت عند كانط الشكوك حول دقة هذا الاعتقاد قبل سنوات من فترة الانقلاب النقدي لديه وبالتحديد عندما قرأ كتب ديفيد هيوم التي أيقظته تماما من سباته الدوغمائي . وأصبحت العقلانية أو المذهب العقلاني ضربا من ضروب الدوغمائية بينما كان يشير الى هيوم وتعاليمه بأنها (تجريبية شكية) فالفلاسفة التجريبيون على النقيض من الفلاسفة العقلانيون يعتقدون المعرفة تنبع من التجربة وحدها ومن المفيد هنا التمييز بين العقل والفهم فالعقل هو قابلية البشر على التفكير المنطقي وهذا الامر لايرتبط بالذكاء كون الفرد متعلما أو غير ذلك وهناك طرق تتيح تحسين مهاراتك في التفكير ويعتقد كانط ان هذه القدرة يمتلكها كل البشر لذلك لايوجد استثناء فالكل قادر على التفكير بعقلانية ويعني بالقدرة هنا استنتاج النتائج من الاسباب وتجنب الوقوع في المغالطات مثل قلب ونقض النتائج لذا فالعقل هو ما نستخدمه بالتفكير بشكل جيد بمعزل عن التجربة على عكس الفهم الذي يرتبط بالواقع وفهمه وتفسيره الذي يرتبط بالتجربة فالأول يرتبط بالطور الفطري أو القبلي (apriori) والاخر اي الفهم يرتبط بالطور البعدي (aposteriori) اي بعد التجربة والغريب هنا ان كانط يقول بأن العقل ليس شرطاً كافيا للمعرفة فهي يعتقد بأننا بحاجة الى مدخلات من العالم لامتلاك المعرفة لذا فأن الفهم والطرق المعقدة التي يعمل بها العقل ويتفاعل مع الحواس والعالم الخارجي هي التي تمنحنا المعرفة فالمعرفة امر لاحق وأي محاولة للحصول على المعرفة عن طريق العقل وحده ستودي بنا الى الغرق بالظلام والتناقضات وفي مجال الاخلاق في كتابه نقد العقل العملي يعتقد كانط اننا نستخدم العقل لنكون احراراً في تفكيرنا حول المباديء الاخلاقية (القبلية) .

السؤال هنا لماذا عمد كانط الى وضع ثلاث كتب نقدية بدلا من اثنين؟ من السهل هنا ملاحظة الفرق بين نقد العقل النظري والعقل العملي ففي الكتاب الاول استكشف كانط كل مانحتاجه لاكتساب المعرفة وبنفس الطريقة طبق ذلك على الاخلاق في كتابه نقد العقل العملي الذي يعمل بطريقة مختلفة فمالذي سيفعله بالكتاب الثالث نقد ملكة الحكم؟ انه موجود للتوسط بين عوالم النقدين الاخرين فعند قراءتها يبدو عالم الخبرة الحسية والعالم الاخلاقي، الطبيعة والحرية منفصلين فالحكم هنا قدرة انسانية تجمع بين الاثنين والحكم هنا قدرة انسانية تدمجهما معا فالحكم الجمالي يختلف عن الحكم المعرفي مثل قولنا ان الوردة حمراء وقولنا ان الوردة جميلة وبنفس الوقت يختلف الحكم في وضع البيان الاخلاقي فالأحكام الجمالية تتطلب منا الاهتمام بالطبيعة والخبرة الحسية واستخدام الحرية الانسانية والخيال الذاتي .

السؤال هنا لماذا الكتب النقدية الثلاثة مهمة وستظل كذلك ؟ ولماذا اعتقد شوبنهاور ان نقد العقل الخالص هو اهم كتاب في اوربا على الاطلاق ؟ ولماذا شعر كوليريدج، عند قراءته، بأنه "مكتوب بإحكام " ؟هل لأن كانط كان على حق في كل ما ذكره في كتبه الثلاثة ؟ بالطبع لا.  فالبحث الفلسفي لا يقر بأن هناك فلسفة مانعة جامعة فالكثير من الفلاسفة اعترضوا على النتائج التي توصل اليها كانط في حقل الاخلاق وقوله انها مبنية على قواعد يجب على كل شخص ان يختارها بنفسه وبحرية وأنه يجب ان يطيعها بشكل قاطع، إن ما يسمى بالضرورات أو الاوامر القاطعة (categorical imperatives) هي ملزمة سلفاً بغض النظر عن احوالها ومع ذلك يحق للبعض الاعتراض حول طبيعة الاخلاق والتفكير الاخلاقي عند كان فمن خلال المناقشات الفلسفية حول هذ الامر تبين لنا ان هذا النظام الاخلاقي الكانطي من الصعب إتباعه في حياتنا اليومية وبنفس الوقت لا نستطيع تجاهله في موضوع الاخلاق الفلسفية وينطبق نفس الشيء على نقد العقل الخالص والاطروحات التي ذُكرت في هذا الكتاب وغيرت افكارنا تجاه الميتافيزيقا ونظرية المعرفة، وأخيرا يُعد كتاب نقد ملكة الحكم عملا رائداً ومتميزاً في وضع الاسس الجمالية الفلسفية والتي لاتزال صحيحة حتى اليوم وربما نحن لا نتوقع ان يقدم لنا اي كتاب فلسفي اجابات نهائية حول تساؤلاتنا ولكن من المفيد قراءته كونه يفتح وجهات نظر جديدة تجعل الكثير من تلك التساؤلات ممكنة .

الان هل أنت جاهز !

الان لديك فكرة اساسية حول فلسفة كانت ومشاريعه لذا فأنت في مكان جيد للبدء في قراءته، وحتى انتقاداته الصعبة فكل شيء ستحتاجه سيتعين عليك احضاره الى الحفلة بنفسك .إن قراءه الفلسفة هي عملية بطيئة ويجب ان تكون كذلك لذا فالصبر هو احد الاشياء التي لا تستطيع الاستغناء عنها، يدعونا كانط مثل العديد من الفلاسفة العظماء الى الانخراط بشكل نقدي في افكاره لذا كن مستعداً للتفكير وبكامل نشاطك وأخيرا اتخذ قرارك بشأن قيمة مساهمة كانط الفلسفية في زماننا .أفعل ذلك بطريقة مستنيرة ومعقولة وقم بعملك مثلما فعل كانط.

***

الجامعة المستنصرية - قسم الفلسفة

22-4-2024

في المثقف اليوم