أقلام فكرية

حيدر عبد السادة جودة: أركيولوجيا السلطة عند ميشيل فوكو

كشف التطور التكنلوجي في مجال العلم، بؤس المناهج الفلسفية والأنساق المعرفية التي كانت متاحة عند فلاسفة العصر الحديث، وهذه المفارقة قد أوجدها فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث أدركوا أن المناهج الفلسفية لم تعد تواكب ديناميكية العلوم وصيرورة الفكر العلمي، فضلاً عن النتائج اليقينية والقطعية التي ينتهي إليها العلم. والجانب الرئيسي والحاسم في مجال تبديل المنهج يكمن في عملية الانتقال من العلوم الميتافيزيقية إلى العلوم الفيزيقية. ومن أجل ذلك سعى فلاسفة ما بعد الحداثة إلى إعادة صياغة للمناهج المستعملة في مجال الفلسفة، فمنذ النقد النيتشوي لمسلمات العقل والدين والأخلاق، وهي المرحلة التأسيسية لفتح المجال لتيار ما بعد الحداثة، مروراً بفينومينولوجيا هوسرل، وحتى البنيوية وغيرها، بدأ المنهج يأخذ مجالاً آخراً عما سبق، ونتيجة لهذه الحاجة الماسة في المنهج، خرج صاحبنا فوكو بأهم افرازات الفكر الغربي في المنهج، وهو المنهج الأركيولوجي، فما هو المنهج الأركيولوجي؟.
من الناحية اللغوية يتكون المصطلح من شقين، (arche)، وهي مفردة يونانية تعني القديم، و(logy)، وتعني علم، ليصبح معناه اللغوي (علم الآثار)، وهو فرع علمي يعنى بدراسة آثار الحضارات القديمة، أو هي علم النقوش والآثار المندثرة، ظهر المصطلح لأول مرة في كتابات فوكو في (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وكتاب (مولد العيادة)، الذي ظهر بطبعته الأولى تحت عنوان (اركيولوجيا النظرة الطبية)، وكذلك جاء كتاب (الكلمات والأشياء) كان في طبعته الأولى بعنوان (اركيولوجيا العلوم الإنسانية). ومما تجدر الإشارة إلى عدم وجود أي علاقة بين الاركيولوجيا بوصفها علم يبحث في الآثار، وبين استخدام فوكو وتوظيفه لهذا المصطلح، ففوكو لا يبحث في الآثار في مجال المعرفة ليعيد بناء ماضي المعرفة الإنسانية، وإنما يبحث في جملة القواعد بعدّها شروطاً لإمكان ظهور المعارف في فترة تاريخية معينة.
وعن طريق الأركيولوجيا بحث فوكو في تاريخ الفلسفة، ففي إحدى محاولاته الحفرية، يؤكد فوكو على إن عصرنا كله، سواء من خلال المنطق أو من خلال الأبستيمولوجيا، وسواء من خلال ماركس أو من خلال نيتشه، عصر يحاول أن يفلت من هيغل، ولكن أن يفلت المرء فعلاً من هيغل، فهذا أمر يتطلب تقديراً مضبوطاً لما يكلفه الانفصال عن هيغل، وهذا يقتضي أن نعرف ما الذي ما يزال هيغلياً، ضمن ما يمكننا من التفكير ضد هيغل، وأن نقيس القدر الذي يحتمل فيه أن يكون سعينا إلى مناهضة خدعة ينصبها في وجهنا وهو ينتظرنا في نهاية المطاف هناك هادئاً.
وتمثل الأريكيولوجيا محوراً هاماً في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر، فقد كانت الانطلاقة من الفتوحات البنيوية في مجال الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي واللسانيات، إلا ان فوكو لم يبق رهين المنهج البنيوي، بل قام بتجاوز البنيوية وحتى انتقادها والتنكر لها، ليقدم مشروعاً أسماه بالمشروع الحفري النقدي. وهنا تثار مشكلة التصنيف لفوكو، فمن جهة هناك العديد من الدراسات تنسب فوكو صفة البنيوية، وينفي فوكو من جهة أخرى إلحاق هذه الصفة به. فيقول فوكو: لا أرى من يمكن أن يكون مضاداً للبنيوية أكثر مني، لكن ما هو مهم ألا نفعل بالحدث ما فعلناه بالبنية، إذ لا ينبغي أن نضع كل شيء في مستوى واحد هو مستوى الحدث، بل ينبغي أن نعتبر أن هناك سلماً من أنماط الأحداث المختلفة التي ليست لها نفس الأهمية، ولا نفس الامتداد الزمني ولا نفس القدرة على إحداث تأثيرات.
وقد حاول فوكو من خلال اركيولوجيته أن يؤسس مشروعاً فلسفياً متكاملاً، ليست غايته البحث عن الحقيقة وتتبعها، بل إن الغاية الأساسية منه تتمحور في تقويض فكرة الحقيقة في مختلف مجالاتها، خصوصاً وإن التغيرات التي شهدها العالم في القرن الماضي، كانت ضرورة ملحة لتغيير النهج الفكري في مستوياته المختلفة.
وبالتالي، كانت اركيولوجيا فوكو منهج يهدف إلى الكشف عن القواعد التي تسهم في تشكيل الخطاب في حقبة تاريخية معينة وأشكال ظهوره وانبجاسه والكيفية التي يمارس بها دون الاهتمام بمضمون الخطاب، وإنما بما يشكله، فهو يسعى لرسم حركة التعاقب وانماطه وصيغه المختلفة التي يتخذها، والمستويات المختلفة للتحولات إنها تبحث عن القطائع والانشقاقات والتصدعات وتقوض منطلقات التاريخ بحلته التقليدية، فهي منهج يكرس للاختلاف، وممارسة تكشف وتميط اللثام عن أنماط تكون الخطابات وتعاقبها وتشابكها.
أما فيما يتعلق بمكانة السلطة في منهج الفيلسوف الفرنسي، ففي حوارٍ له مع جيل ديلوز عام 1972م، يقول فوكو: ربما كان السبب في عدم قدرتنا على بلورة خط للنضال المناسب في الأحوال الراهنة ناتجاً عن اننا لا نزال نجهل ماهية السلطة، إنك تعلم اننا قد انتظرنا مجيء القرن التاسع عشر لكي نفهم ما هو الاستغلال، ولكن ربما لا نعرف حتى الآن ماهية السلطة، وربما لا يكون ماركس وفرويد كافيين لمساعدتنا في معرفة هذا الشيء السري الغامض، المرئي وغير المرئي، الحاضر المخفي، الموظف والمستثمر في كل مكان والذي هو السلطة. وإن الشيء الذي يهم ميشيل فوكو كفيلسوف هو معرفة آلية السلطة وكيفية ممارستها لعملها، أكثر مما يهمه معرفة أسماء الأشخاص الذين يمارسونها.
ويشير فوكو إلى أن كلمة (سلطة)، يمكن أن يتمخض عنها سوء فهم كبير، سواء فيما يتعلق بتحديدها أو شكلها أو وحدتها، ولا يعني فوكو بالسلطة ما دأب على تسميته بهذا الاسم، أي مجموع المؤسسات والأجهزة التي تمكن من إخضاع المواطنين داخل دولة معينة. وبالتالي فهي ليست القمع، وحتى سلطة الجنس، فهي ليست سلطة صرامة ومنع، بل هي ضرورة تنظيم الجنس بواسطة خطابات نافعة وعمومية.
ويؤكد على إن ما يجعل السلطة تستوي في مكانها، ويجعل الناس يتقبلونها، وأنها لا تثقل عليهم كقوة تقول لا، ولأنها تخترق الأشياء وتنتجها، وتستخلص اللذة، وتصوغ المعرفة، وتنتج الخطاب؛ يجب اعتبار السلطة بمثابة شبكة منتجة تمر عبر الجسم الاجتماعي كله أكثر مما هي هيأة سلبية وظيفتها هي ممارسة القمع. وهذا ما يؤكده في كتابه جينالوجيا المعرفة حين يقول: أنا لا أقصد بالسلطة نوعاً من الإخضاع الذي قد يتخذ، في مقابل العنف، صورة قانون، ولست أقصد بها نظاماً من الهيمنة يمارسه عنصر على آخر، أو جماعة على أخرى، بحيث يسري مفعوله، بالتدريج في الجسم الاجتماعي بكامله.
ويشير فوكو إلى أن علاقة السلطة في مجتمع كمجتمعنا متعددة ومخترقة ومكونة للجسد الاجتماعي، ولا يمكن فصلها أو إقامتها أو توظيفها من دون إنتاج وتوزيع وتشغيل أو توظيف لخطاب الحقيقة، فليس هناك ممارسة للسلطة من دون نوع من اقتصاد لخطابات الحقيقة، فنحن خاضعون بواسطة السلطة لإنتاج الحقيقة، ولا يمكن لنا ممارسة السلطة إلا بواسطة إنتاج الحقيقة، وهذا ما ينطبق على كل المجتمعات، إلا أن فوكو يعتقد أن هذه العلاقات بين السلطة والقانون والحقيقة، تنتظم بصفة جد خاصة.
لذلك كان المعنى الذي ينشده فوكو من السلطة هو: أنها تعني، بادئ ذي بدء، علاقات القوى المتعددة التي تكون محايثة للمجال الذي تعمل فيه تلك القوى، مكونة لتنظيم تلك العلاقات، إنها الحركة التي تحول تلك القوى وتزيد من حدتها وتقلب موازينها بفعل الصراعات والمواجهات التي لا تنقطع، وهي السند الذي تجده تلك القوى عند بعضها البعض، بحيث تشكل تسلسلاً ومنظومة، أو على العكس من ذلك، تفاوتاً وتناقضاً يعزل بعضها عن بعض، وهي أخيراً الاستراتيجيات التي تفعل فيها تلك القوى فعلها، والتي يتجسد مرماها العام ويتبلور في مؤسسات أجهزة الدولة وصياغة القانون وأشكال الهيمنة الاجتماعية.
وحتى الحقيقة، من وجهة نظر فوكو، ليست خارج السلطة، وليست بدون سلطة، فالحقيقة من هذا العالم، فهي ناتجة فيه بفضل عدة إكراهات، وهي تمتلك فيه عدة تأثيرات منتظمة مرتبطة بالسلطة، لكل مجتمع نظامه الخاص المتعلق بالحقيقة، وسياسته العمة حول الحقيقة، أي أنماط الخطاب التي يستقبلها هذا المجتمع ويدفعها إلى تأدية وظيفتها كخطابات صحيحة؛ لكل مجتمع الآليات والهيئات التي تمكنه من التمييز بين المنطوقات الصحيحة والخاطئة.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

 

في المثقف اليوم