أقلام فكرية
حبيب مرگة: الإرادة الحرة والحتمية في ضوء سبينوزا

تحليل ظاهرة الاغتراب في ظل هيمنة الاقتصاد الرأسمالي
سنكون قد ارتكبنا خطأ فادحا إذا أفدنا بأن معضلة الإرادة الحرة والحتمية قد ولى عليها الزمن أو أصبحت بالية. في الواقع، فهي تتجدد مع كل إصلاح اجتماعي وكل طفرة تطور في وضعنا البشري. بعض القضايا في تاريخ الفلسفة تبدو وكأنها لا تُحل بشكل نهائي، بل إنها تتطور، ويعاد اختراع السؤال تحت أشكال جديدة.
وهذا هو الحال بالضبط مع هذه المسألة. القوى المعاصرة التي تحكم عالمنا أصبحت تتخفى خلف الكواليس، هذه القوى كاليدين الغير المرئية التي تحرك الدمى فوق الركح، تسيّر النظام بشكل مستمر، هدفها الوحيد هو استمراريتها الذاتية.
هذا النظام الذي يعزز الاغتراب ويبعد الفرد من فهم صيرورة الأمور بشفافية واضحة في العوض من خلق جسر حيث يمكن أن توجد علاقة صحية بين الفرد والمجتمع والسلطة، على العكس، فالرأسمالية خلقت هوة عميقة، شرخًا بيننا وبين صناعة العالم الحديث. ويبدو كذلك أن التصرفات النابعة من الرغبات البشرية مشروطة بهذه النمطية الجديدة التي تخفي تجليات الحقائق وتستبدلها بحقائق مبتدعة وسطحية لا علاقة لها بالواقع، فتصبح واقعا جديدا يتم من خلاله خلق وهم الإرادة الحرة، ولكن في الواقع ما يفعلونه إعادة تعريف الإرادة الحرة وتحديدها حسب قيود خاصة. ليس هذا هو معنى الحتمية التقليدية كما كانت الفلسفة تعتبرها، بل هذا نظام جديد من الشبكات والتركيبات البنيوية المعقدة، وغالبًا ما يشارك الفرد بنشاط ما في بناء تلك التركيبات في هذا التحديد بطريقة اوتوماتيكية ومن غير وعي بما سيتمر عليه ذلك النشاط، فيصبح الفرد مثل شريك غير طوعي في اغترابه الخاص. وهكذا، تظل الرؤية السبينوزية ملائمة في هذا النحو: نحن نتصرف تحت تأثير أسباب غالبًا ما نكون غير واعين بها. يميز سبينوزا بوضوح بين نوعين من الأسباب: الأسباب الخارجية، غير المرئية وغالبًا ما تكون مخفية بواسطة النظام (مثل تلك التي في الرأسمالية)، والأسباب الداخلية، التي تنبع من طبيعتنا ومن تجربتنا الشخصية.
لكن هذا التحليل يكتسي طابعا متضاربا بين الرغبة الحرة والرغبة في البقاء عند سبينوزا ورؤية العالم الرأسمالي للإنسان كوسيلة مستعملة وليس شيء حر في ذاته، في هذا العالم الجديد حيث تفاقمت التقنيات الحديثة وسهولة الاستهلاك أصبح من الصعب تحديد الحر من الخاضع بشكل مطلق لأنه ما يبدو كحرية في العمل فهو نموذج يتلاعب برغبات الفرد ولا يسعى إلا لاستغلالها من أجل زيادة الاستهلاك والأرباح وبالتالي تعزيز قبضة النظام الذي كما أشرت في السابق يقاوم من أجل البقاء
تعمل هذه الطريقة في السيطرة على شكل "تغييب لمفاهيم الواقع"، كما وصفها الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، وهو واقع يتم فيه تحديد الرغبات والتفاعلات وحتى المكانة الاجتماعية بواسطة ثقافة الاستهلاك
على سبيل المثال، إذا دخل شخص إلى مقهى ما ليحتسي الشاي، ووجد شخصًا لا يحبه فانزعج عند رؤيته. هنا من منظور سبينوزا، ردة فعله ليست اختيارا حرا. بل على العكس، هي متأثرة بعدد كبير من العوامل: تاريخه الشخصي مع ذلك الشخص، مشاعره في تلك اللحظة (التعب، الضغط، الإحباط)، وعوامل خارجية مثل جو المقهى وسلوكيات الشخص الآخر. وفقًا لسبينوزا، لا يتصرف هذا الشخص بحرية؛ بل يتفاعل استنادًا إلى الأسباب التي قادته إلى هذه اللحظة من وجوده. إذا كان بإمكانه فهم الأسباب التي تحكم مشاعره بشكل أفضل في تلك اللحظة، لكان بإمكانه اختيار ردا مختلفا. لكن في الوضع الحالي، سلوكه متأثر إلى حد كبير بعوامل لا يتحكم فيها
ومع ذلك، في سياق اجتماعي أوسع، لا تتأثر هذه الاستجابة فقط بالعوامل الشخصية، بل أيضًا بالضغوط الاجتماعية والثقافية. لنتخيل أيضا أن هذا الشخص، في سياق الاغتراب الرأسمالي، يشعر أنه مدفوع للتصرف بطريقة تتوافق مع التوقعات الاجتماعية: إظهار أنه "قوي"، "مسيطر"، أو أن له الحق في التعبير عن رأيه. تعزز ثقافة الاستهلاك صورة للذات قائمة على الاستجابة، والإصرار، والهيمنة، وهي قيم معززة من قبل وسائل الإعلام والثقافة الشعبية. هذه الاستجابة ليست فقط رد فعل شخصي، بل هي أيضًا منتج للبيئة التجارية التي تحث كل فرد على تبني سلوك يتوافق مع توقعات هذا النظام. بل وأكثر من ذلك، فإن مكان كالمقهى، الذي يُنظر إليه غالبًا كمساحة للاسترخاء، هو أيضًا منتوج لهذا النظام. تم تصميم المقاهي لتوفير تجربة ممتعة وفقًا لقواعد السوق. إذا دخل هذا الشخص إلى المقهى بحثًا عن الراحة، فإن أي اضطراب في هذه التجربة مثل وجود شخص لا يحبه يمكن أن يثير رد فعل عاطفي قوي، يتم تضخيمه من خلال ثقافة الاستهلاك التي تؤكد على فكرة أنه يجب الحصول على تجربة مثالية مقابل المال المدفوع لذا النادل.
ما كان من المفترض أن يكون لحظة استرخاء يصبح إذًا ساحة للتلاعب المشاعر والرغبات. يظهر هذا المثال أن أفعالنا وردود أفعالنا ليست فقط محددة بسبب أسبابنا الداخلية، بل هي أيضًا متأثرة بمجموعة معقدة من القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل توقعاتنا ورغباتنا وحتى إدراكنا للواقع. ليست المسألة مجرد إرادة فردية، بل هي أيضًا عملية تلاعب جماعي، منسقة من قبل نظام اقتصادي يعيد تعريف احتياجاتنا ورغباتنا. أنهي هذا الفصل باستخدام هذا التأمل حول الاغتراب، لأنه هنا تكمن تعقيدات الحتمية في المجتمع المعاصر وإعادة تقييم الوعي الجديد: نحن محددون بشكل مزدوج، ليس فقط من قبل الطبيعة كما يقترح سبينوزا، بل أيضًا من قبل نظام رأسمالي يشكل رغباتنا، وعواطفنا، وسلوكياتنا. هذه الحتمية المزدوجة لا يمكن فصلها عن المجتمع ولا يمكن للفرد الذي يختار التحرر منها إلا أن يتصور نفسه في طريق الجنون في نظر العموم.
لكن هذا التحرر، رغم أنه ممكن، غالبًا ما يتم تهميشه وتجريمه، لأن النظام ذاته يعيد تعريف المنظومة الفكرية بشكل عميق بتحديد وتخصيص مجالات وسياسة انتقاء النخبة حسب معايير خاصة وغير واضحة للعامة، مما يفرض حدودا خاصة لكل اللاوعي الجماعي. كما يذكر سلافوي جيجيك بشكل دقيق: من السهل تصور نهاية العالم، لكن من الصعب تصور نهاية الرأسمالية، لأن هذا النظام يسيطر حتى على الفئات الفكرية. إنه يشكل رغباتنا، وعواطفنا، ورؤيتنا للعالم، بطريقة عميقة لدرجة أن اختفائه نفسه يصبح شبه مستحيل
وهكذا، ما يبدو وكأنه حرية في الفعل ليس إلا آلية تحكم، والحرية الحقيقية تكمن في القدرة على التحرر الفردي من هذا النظام بخيارات شخصية منفردة حتى في اختيار ما نحسه وحتى في تساؤلاتنا اليومية. الحياة، في جوهرها، تنتمي إلى الفرد، لا إلى أي نظام. الحياة، في قوتها الأصلية، لا يمكن تقليصها إلى أي بنية كانت، مهما كانت قوتها. إنها تتجلى في احترام الأخلاق الوضعية واتخاذ القرارات الصادرة من المنطق والغير الخاضعة لمحاكم السلطة الاجتماعية، حكمة تمكننا من الرؤية ما وراء الحدود المفروضة. لأن العالم ينتمي إلى الطبيعة، ويجب أن نتذكر أنه مكون من خشب، وحديد، ماء وبحر وهواء في تحولات مستمرة وفي حركية غير متناهية وفي ولادة وموت واندثار والأهم من ذلك، الحياة الفردية الحرة ثورة وولادة متجددة. والعالم الجديد إذا أصبح بلاستيكيًا، فذلك قد يكون على حساب وعينا، وهو أمر سيكون مأساويًا
***
حبيب مرگة من المغرب