أقلام فكرية
مصطفى غَلمان: المقاتلة الاجتماعية.. وديناميات العنف البشري
"لم يتقاتل البشر؟"، إنه سؤال استشكالي، يتعالى مع واقع نظر السوسيولوجيا المعاصرة. بل إنه يكاد ينفضها من بٌعديها السلوكي الاجتماعي، والتوظيفي التاريخي ...
كان المفكر سينيشا مالشيفيتش قد أغار على سؤال التقاتل وارتداداته على بنية السلوك البشري، وأحاط بكل ما هو محاذر للغة التشخيص الآلي والتشبيك المفهومي "للتقاتل" كفضاء تأريخي للأحداث فقط، متوسلا حجم الفظاعات التي تتفكك بإزائها قيم الحرب وتداولياتها التاريخية والثقافية والأنثروبولوجية.
عالم الاجتماع الايرلندي مالشيفيتش، الذي انبرى في أبحاثه التي قارب معظمها موضوعات سوسيولوجيا الحرب والعنف، وتاريخية العنف، من أجل تأويل تعاظم العنف الحربي بين البشر، وتواصل تحطيم الأخلاق والقيم الاختلافية بين الأيديولوجيات والأنظمة السياسية المتعاركة، لا يخفي اجتراحه مفهوم "المقاتلة الاجتماعية"، الذي يتساوق و"القتال المباشر" المجاهر بالصفة العنفية والخرق الحربي المتنوع، مع ما يحملانه من استكشافات بنيوية للآليات العملية التي تساق ضمن المقاتلة الاجتماعية المذكورة.
ويرى مالشيفيتش، المبتكر لهذه النظرية المستحضرة لمجمل الديناميات المسببة للعنف الجسدي البشري، أن التأثيرات الصادمة والمركبة في آن واحد، وضمن سياقاتها المتغيرة زمكانيا وبالمرونة الواجدة للقتال الجسدي إياه، توفر حيزا تفكيريا واسعا لاستعراض مختلف السياقات والمرامي الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية لبنى القتال"، باعتباره ظاهرة اجتماعية تصوغها علاقات الإنسان، وتراكمات تلك العلاقات على مستوى التنظيم والتقاطع، ما ينتج عنه اختلافات وتشعبات، تناكفها "قابليات" ومنطقيات أخرى، منها ما هو إيديولوجي وآخر تنظميمي.
ويدلل المفكر هذه الظاهرة بما أسماه " ظواهر الحرب والعنف والصراعات الإثنية والقومية، بالانهيار القاسي والكبير الذي شهدته يوغسلافيا خلال تسعينيات القرن الـ20 الماضي"، مسجلا مأساوية الحقبة العنيفة التي كرست وشائج جديدة لوظائف وأدوار البيولوجيا والسيكولوجيا والاقتصاد والأيديولوجيا، في تبيين إشكالية لما وصفه ب "معايشة الفرد تجربة القتال"، بالنظر إلى "الاستجابة العلائقية" القائمة بين تلاقي بنى وفاعلين وأحداث مختلفة داخل باراديجم الحرب العنيفة، وهو بذلك يستند إلى أن العلاقات الإنسانية لا تنشأ وتتفاعل بوساطة خصائص بيولوجية أو سيكولوجية أو خصائص أخرى ثابتة ومستقرّة، بل إنّها "تنشأ وتتولد من التفاعلات المتحركة بين منظمات اجتماعية محددة، وأطر أيديولوجية وعمليات تفاعل جزئية متصاعدة، مما يؤكد أن القتل والقتال لا يعبّران عن ممارسات موحّدة وثابتة ومستقرة ومتجاوزة للتاريخ وعابرة للثقافات، كما أنّها لا تقوم على أنماط ثابتة ولا تعتمد على أطر معروفة مستقرة، بل هي ظاهرة متنوعة ومتغيّرة ومتحركة ومتبدلة وسياقية"(*).
إن اقتفاء أثر السلم والحرب كثنائية فلسفية مشاعة، يفرض ضبطا مفهوميا لقياسات محايثة ومنذورة للتأويل والتبدل، كما هو الشأن بالنسبة للتنظيرات الفلسفية المجاوزة للحدود العقلانية، التي تراكم التوتير في المعنى والتشارك المواضعاتي، كفعل الشر الموصوف الذي يبرر معاشرة الخير والعدل، بنفس المعنى الذي يتلمس خيط السلم طريقه باتجاه العنف (لا يتحقق السلم إلا بإقامة العنف إذا عدمت الوسائل السلمية)، وهو ما تنبه إليه القديس أوغسطين الذي أقام جدارا بلويرا لما أسماه بالحرب العادلة"، منشغلا بصيرورة الحروب وجدواها في السنن والكونيات والحتميات الإنسانية، وتعدد قواها وظروفها وأشكالها، وصولا إلى قطائف السلام وانثيالاته. وكثيرًا ما وجدت الفلسفة أنه ولتحقيق السلم لا بد من اندلاع الحرب، فأوكلت للعنف إنهاء العنف. هكذا ارتبطت، فلسفيًّا، الحرب بالسلم، والعكس بالعكس.
لكن الحقيقة المرة في كل هذه المغايرة اللامحسومة، هو الافتتان بالحروب قدرا مقدورا، وصناعته بالإرادة والدربة والاقتداء، حيث يجرف التاريخ البشرية إلى ما يشبه حوائم الطاحونة ومتلاشياتها. يستثمر طاقة الإنسان، لتجريفه خارج المتاهة، ويعاود تدويره على نحو يصير متمثلا للأنماط المشكلة بالقسر لا المبادرة، والتعثر والاصطدام عوض الإبداع والديمومة؟.
لقد ظلت رؤى الحكماء والفلاسفة حول الحرب والمقاتلة، تتقاطع ولا تنصرف البتة إلى مكامنها في الروح والوجدان البشري المنكوس. بين من يعقر ميزابها بقيامة "السلام الأبدي" وتفكيره المستميت، من أجل الخلاص. ومن يعتبرها وجها من أوجه كتابة الموت نفاذا للحياة، وتحضرني في هذا السياق، اجتهادات كانط، الذي اقترح وضع نظام أو ميثاق أو عقد يقوم على التضامن. وكان قد كرس نظريته قبل ذلك في كتابه "نحو السلام الدائم"، قبل أن يتراجع عنه، ويطالب بدولة عالمية ذات كيان سياسي تضامني مفصول عن السوبر لا تخضع للقوة المهيمنة، ولا تنزلق إلى هوة الظلم والقهر والاستعباد.
***
د. مصطفى غَلمان
......................
* "لم يتقاتل البشر؟" سينيشا مالسيفيتش، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط1 2024/ ص 127