أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: كيف نظر الفلاسفة الى مفهوم العاطفة؟

فلاسفة أمثال افلاطون وارسطو وسبينوزا وهيوم وكانط ونيتشة استطلعوا العاطفة كعنصر أساسي في تشكيل الأخلاق والطبيعة الانسانية. يمكن تعريف العاطفة كـ تقدير او مشاعر يحملها الانسان تجاه الآخر او الأشياء. انها موضوع شغل الفلاسفة منذ الاف السنين كونها تخاطب السلوك وجوهر التجربة الانسانية. لفهم الكيفية التي تنظر بها الفلسفة للعاطفة، سنحتاج للنظر الى نظرياتها حول المشاعر بشكل عام ودورها في حياة الانسان. هذا المقال يستطلع ما قاله ستة من أبرز الفلاسفة حول العاطفة، ذلك يتضمن تعريفهم لها ومكانها ضمن أنظمتهم الفلسفية الواسعة.

نظرة افلاطون للعاطفة

ترتبط رؤية افلاطون بإحكام بنظريته في الأشكال، التي ترى ان العالم المادي ما هو الا نسخة من الواقع اللامتغير. طبقا لإفلاطون، المعرفة الحقيقية والجمال يوجدان في ذلك العالم المتعالي، وان عواطفنا ما هي الاّ انعكاس لشغف أرواحنا نحو تلك المُثل التامة. ضمن نموذج افلاطون للروح الثلاثية (العاقلة، والروحانية والشهوانية)، جميع المظاهر الثلاثة لها دور تلعبه في حياتنا العاطفية. الجزء العقلاني يرغب باشياء مثل الحكمة والحقيقة، الجزء الروحاني يغطي المشاعر مثل الغضب والشجاعة. اما الجزء الشهواني يرغب بالمتع المادية.

لذا فان العاطفة يمكن النظر اليها كتفاعل بين هذه الأجزاء الثلاثة المختلفة للروح. شخص ما ربما يعشق التعلّم ذاته (العقل) وفي نفس الوقت يتحفز عاطفيا لشغف الانجاز (الروح)، في حين ان حاجته المادية (الشهوة) تعمل كقوة دافعة وراء السعي لما هو جيد وجميل. العاطفة لا يمكن هزيمتها. عندما نشعر بالعاطفة نحو شخص ما، فليس فقط بسبب ما يبدو عليه من جمال ينسجم مع صفاتنا وانما ايضا كإعجاب بصفاته الأخلاقية والفكرية، والتي تشير لشيء أعمق وهو الرغبة نحو الخير ذاته.

في حوار فايدروس لإفلاطون هو يتحدث عن الكيفية التي ينتقل بها الناس الى ما وراء الرغبة المجردة بالجنس او العلاقة مع شخص ما جميل المنظر، هم قد يبدأون الرغبة بالاتصال بالإله ايضا. العاطفة لها قوة تغيير لكل شيء. انها تستطيع السمو بنا بحيث تصبح أرواحنا أقرب مما في أي وقت مضى لكل من الحقيقة (التي تعني بالنسبة لافلاطون الله) والخير النهائي.

رؤية ارسطو للعاطفة

يعتقد ارسطو ان العواطف والافعال تأتي تحت مظلة المودة. عندما يتحدث عن العاطفة هو يقسمها الى نوعين: pathons (المشاعر) و praxis (الافعال). المشاعر هي حول كل  ما نشعر به سواء كنا سعداء، او في حالة غضب او في اي شيء اخر . الأفعال هي ما نقوم به اثناء تلك المشاعر. في اطار ارسطو الاخلاقي الاوسع، العاطفة تلعب جزءا كبيرا في تكوين كل من الفضيلة والحياة الجيدة eudaimonia. هو يقترح باننا لو نجحنا بادارة مشاعرنا بشكل صحيح، فهي ستكون مفيدة في ارشادنا للفعل الصحيح أخلاقيا.

مثال على ذلك الشعور بالغضب عند مواجهة اللاعدالة. ارسطو يقول ان الغضب المستعمل جيدا قد يحفزنا للاستجابة بإنصاف. فكرة "الإعتدال" او الوسط الذهبي هامة في أخلاق ارسطو حتى في موضوع المشاعر. طبقا لارسطو، هناك نقطة وسط بين امتلاك الكثير من الفضيلة وعدم امتلاك أي شيء منها. وهذا ينطبق على العاطفة ايضا. فمثلا، الشجاعة تعني ايجاد معنى بين التهور والجبن. ونفس الشيء بالنسبة للكرم، عندما يكون الانسان رقيقا جدا ويعطي كل ما يمتلكه، سينتهي به الامر بالفقر وبعدم الفائدة للآخرين. وبالعكس عندما لا يعطي شيئا ابدا فهو لايساهم بأي شيء ذو قيمة للمجتمع.

الكرم يكمن في الشعور بالمقدار الصحيح من العاطفة تجاه حاجات الآخرين والتصرف في ضوء ذلك. باختصار، طبقا لارسطو المشاعر المتوازنة اداة ضرورية من خلالها نطور صفات جيدة. كذلك، هو يعتقد ان غرس هذه العادات تجعل حياتنا أكثر متعة .

تصوّر سبينوزا للعاطفة

ادراك سبينوزا للعاطفة يُعد اساسيا لأطاره الميتافيزيقي الذي ينظر لكل شيء كجزء من جوهر واحد، عادة يساوي الطبيعة او الله. ضمن هذا المنظور الشمولي، تشير العاطفة الى كل من حالات الوجود والتحولات في ما بينها التي تحدث بالجسم والذهن اثناء تفاعلها مع القوى الخارجية. سبينوزا يميز بين العواطف النشطة والسلبية. الاولى تنبثق من طبيعتنا ومن العقلانية، بما يقودنا للشعور بالطاقة والرضا.

المشاعر السلبية، بالمقابل، هي تلك التي نمارسها لأنها مفروضة علينا من الخارج وهي عادة تسبب لنا المعاناة او التشويش. الشعور بالدنو بعد نكسة غير متوقعة ستُعد عاطفة سلبية طالما ان حالتنا العاطفية تُملى بعوامل خارجة عن ذاتها. فهم وتغيير هذه المشاعر هو هام لنصبح احرارا وعقلانيين. يعتقد سبينوزا اننا عبر تعلّم الاسباب المؤدية لمشاعرنا والكيفية التي يعمل بها العالم، نحن نستطيع الانتقال من امتلاك مشاعر سلبية الى امتلاك مشاعر نشطة. فمثلا، عندما نعرف ان الغضب يأتي من الشعور بالأذى، نحن يمكننا التفكير حول الموقف بشكل مختلف ولا نخضع لفورة الغضب  وربما نستجيب بعقلانية اكثر.

هذا التغيير يجعلنا أكثر استقلالية ونفكر بشكل افضل وهو ما يقود لما يسميه سبينوزا (الحرية الحقيقية). ومن خلال التمكن من ادارة عواطفنا، فاننا نتوافق مع الطريقة التي تفعل بها الطبيعة الاشياء. طريقتنا بالوجود تصبح اكثر حرية واقل تنافرا – تشبه تناغم ذات المرء مع كل شيء آخر.

اتجاه هيوم التجريبي في العاطفة

رؤية ديفد هيوم الى العاطفة، كتجريبي، هي انها تكمن في جوهر طبيعة الانسان والمعرفة. العواطف ليست افكارا ثانوية وانما هي تجارب أساسية تؤثر في الكيفية التي نرى بها ونتفاعل مع العالم، طبقا لهيوم، الحب، الكراهية، الفرح، الحزن هي أمثلة على المشاعر التي تقود تصرفاتنا. هيوم ايضا يفحص الطريقة التي تتصل بها العاطفة بالعقل. في نفس الوقت، العقل يغمرنا بالمعلومات حول العالم ويساعدنا على فهم نماذج السبب والنتيجة ، بما يمكننا من التنبؤ على سبيل المثال بان النار تحرق .

"العقل كان ويجب ان يكون فقط، عبدا للعواطف". هذا الادّعاء الشهير من جانب هيوم يعني ان العواطف تحركنا بدلا من ان تكون الافكار العقلانية وحدها المحفز لسلوكنا. نعم العقل يدخل الى اللعبة بمساعدتنا لفهم أحسن طريقة لإنجاز شيء ما نرغب به عاطفيا. هو لا يوفر بذاته تحفيزا بالطريقة التي تؤجج بها المشاعر السلوك. في فلسفة هيوم، العاطفة تشكل حجر الاساس لكل من الأحكام الاخلاقية والوحدة الاجتماعية. وبدلا من ان تتجذر العاطفة في العقل، هو يجادل اننا نعمل فروقات أخلاقية مرتكزة على كيفية شعورنا نتيجة للسلوكيات والافعال.

أحد هذه المشاعر هي التعاطف الذي يمكّننا من الارتباط بتجارب الآخرين وبناء اتصالات معهم. فمثلا، عندما نرى شخصا ما في محنة ونشعر بالتعاطف معه، نرى من الاخلاق مساعدته. هذا الفهم العاطفي المشترك يساعد في شد الجماعات الى بعضها، في النهاية الناس يتجهون بطبيعتهم نحو الاشياء التي تعزز رفاهية كل الاشخاص. يبيّن هيوم مدى عمق عواطفنا في الاخلاق والمجتمع عبر وضع العاطفة في صدارة ومركز طبيعة الانسان. هي ليست فقط عوامل هامة تستحق الدراسة، بل انها تضع اساسا لكل من الاطر الاخلاقية والتفاعلات الاجتماعية ذاتها.

تفسير كانط العقلاني للعاطفة

طريقة كانط في فهم العاطفة تتأثر بافكاره العقلانية. في فلسفة كانط الاخلاقية، العاطفة لها دور هام تلعبه مع انه ثانوي بالنسبة للعقل. يطرح كانط فرقا جوهريا بين الميول (الرغبات الطبيعية) والواجبات الاخلاقية (الافعال التي نقوم بها لاننا نرى انها صحيحة). طبقا لكانط، التصرف وفق الميول يكون في تضاد مع ما هو صحيح أخلاقيا لأن الميول هي مصلحة ذاتية واعتمادية (قد لا نحصل دائما على ما نريد). مساعدة صديق لأنه يجعلنا نشعر بالخير (ميول) ليس لها نفس القيمة الاخلاقية كمساعدته بسبب وجود شيء في داخلنا يقول " واجبك هو مساعدة اولئك الذين في محنة"، حتى عندما لا تحصل على أي فائدة من عمل كهذا.

الواجبات الاخلاقية تبرز من الاخلاق المطلقة التي هي قانون أخلاقي شامل ينطبق على كل شخص. في أخلاق كانط، الاحترام نوع خاص من العاطفة الاخلاقية التي تفيد كجسر بين رغباتنا والتزاماتنا. خلافا للمشاعر الاخرى، انه لاينشأ من الميول الشخصية وانما من الاعتراف بالقانون الاخلاقي في داخلنا، وانه يحفزنا للتصرف بناءً على التقديس لتلك المبادئ. رؤية شخص ما يتصرف بصدق ربما يولد احتراما داخلنا، وايضا يدفعنا لإنجاز واجباتنا. بهذه الطريقة، يدمج كانط العاطفة في نظامه الاخلاقي بينما يحافظ على سيادة العقلانية. كشعور عاطفي، الاحترام يؤكد ان ما نقوم به يتفق مع الواجب. ولهذا فهو يعزز الدور الذي تلعبه المبادئ العقلانية في ارشاد كيفية التصرف اخلاقيا.

نقد نيتشة للعاطفة

نيتشه له رؤية مختلفة للعاطفة عند مقارنتها بالرؤى التقليدية للاخلاق، خاصة تلك المرتكزة على المبادئ المسيحية. نيتشة استجوب المشاعر الاخلاقية الشائعة مثل الشفقة والعطف  لأنه اعتبرها تعبيرات عن الضعف الذي ينكر الحياة. هذه المشاعر كما يرى تحافظ على الاخلاق التي تحبط الازدهار والمتانة للكائن البشري. فمثلا، بدلا من ان تساعد الشفقة في تمكين الناس من التغلب على الصعوبات والنمو باستقلالية، فهي تعزز الاعتمادية.

في فلسفة نيتشة، يجد المرء فهما للعاطفة من منظور ارادة القوة التي وُصفت كقوة دافعة اساسية خلف كل افعال الانسان. انها ليست فقط نوع قديم من الدوافع وانما تنطوي على التأكيد وانتصار الذات. عواطف مثل الفخر والطموح وبعض انواع الحب يُعتقد انها تجليات للرغبة بالسلطة. هي تدفع الناس للبحث عن العظمة وادّعاء ذواتهم وايجاد هدف.

لو نظرنا الى عاطفة الفيلسوف في الحكمة، نجد انها تدفعه للبحث عن المعرفة وتحدّي الوضع القائم وإثبات فكره في كل مرة. نفس هذه الفكرة تنطبق على كيفية خلق القيم وهو مفهوم يراه نيتشة ذاتي ويحتاج الى إعادة تعريف مستمرة. هو يرى لو اننا لدينا عواطف قوية تؤكد الحياة، نستطيع الذهاب الى ما وراء الافكار التقليدية للصحيح والخطأ، ونصنع أخلاقنا الخاصة. نيتشه يقترح التفكير حول العواطف بطريقة جديدة. انها ليست شيئا ما نشعر به بقوة وانما ايضا مصدر لطاقة فعالة. هي تدعم الأصالة والثقة الذاتية والابتكارية وتساعدنا في إعادة التفكير بماهية القيم كلها.

اذاً ما هي العاطفة في الفلسفة؟

العاطفة هي فكرة معقدة نظر اليها الفلاسفة بطرق مختلفة. افلاطون يعتقد ان العاطفة تدفعنا نحو الاشياء الجيدة. ارسطو يرى ان المشاعر والتوازن بينها يخلق سلوكا جيدا. سبينوزا يفصل بين العواطف المفيدة وتلك المؤذية. هيوم يقول ان العاطفة هي الاساس في الحكم على الصحيح من الخطأ وفي الشعور بالارتباطات الاجتماعية مع الآخرين. كانط يضع الواجب العقلاني فوق اتّباع المشاعر لكنه لايزال يعتقد ان هناك شيء يسمى مشاعر أخلاقية او احترام نشعر به من الناحية الاخلاقية. نيتشه له وجهة نظر مختلفة تماما. هو ينتقد المعيار الأخلاقي للعواطف لكنه ايضا لديه أشياء ايجابية في تأكيده على وجود انواع معينة من المشاعر القوية لأنها يمكنها ان تقود النمو الشخصي وتخلق قيمة. بالنهاية، عندما يتحدث الفلاسفة حول العاطفة، هم يقصدون أكثر من مجرد شخص محبوب. هم يهتمون بالكيفية التي تشكل بها عواطفنا فهمنا واخلاقنا والوجود ذاته.

***

حاتم حميد محسن

..........................

المصدر:

The collector,Jan 10,2025

 

في المثقف اليوم