قراءات نقدية

إبراهيم أبو عواد: أليس مونرو أعظم كاتبة قصة قصيرة في التاريخ

تُعْتَبَر الكاتبة الكندية أليس مونرو (1931 _ 2024) سَيِّدَةَ القِصَّةِ القَصيرة بِلا مُنَازِعٍ، وأوَّلَ مُؤلِّفة للقِصَصِ القصيرة تَحْصُل على جائزة نوبل للآداب (2013)، وأوَّلَ كندية تَفُوز بِهَا، كَمَا أنَّها فازتْ بجائزة البوكر (2009). تُلَقَّبُ بـِ " تشيخوف الغرب " نِسْبَةً إلى الكاتبِ الروسي أنطون تشيخوف (1860 _ 1904) أعظم كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ، وَنَظَرًا لِمَا تَتَّسِمُ بِهِ كِتاباتُها مِنْ حِسٍّ إنسانيٍّ، وَنَظْرَةٍ إلى أعماقِ النَّفْسِ، فَهِيَ تُوَثِّقُ التَّجْرِبَةَ البشرية بكثيرٍ مِنَ التسامحِ في تَصويرِها لِتَعقيداتِ الحياةِ والعَلاقاتِ، وأيضًا بسبب قُدرتها على استعراضِ مُكَوِّنَاتِ الحَياةِ في المَناطقِ الريفية، عَلى صَفَحَاتٍ مَحدودة، لِتَخْتَزِلَ فِيها كثيرًا مِنَ المَعَاني والأفكارِ والصُّوَرِ عَن الحَياةِ والناسِ، وَتَدْمُجُهَا جَميعًا بِأُسلوبٍ أنيق، في قِصَّة قصيرة مَليئة بتفاصيل مُتناغِمة.

تَتَحَدَّثُ مُعْظَمُ قِصَصِها عَن الحُبِّ والصِّراعِ والحَياةِ في الريفِ، وَتَتَضَمَّنُ نُصُوصُها وَصْفًا مُتَدَاخِلًا لأحداثٍ يَومية، لكنَّها تُبْرِزُ القَضَايا الوُجودية. وَتُوصَفُ مونرو بأنَّها بارعةٌ في التَّعبيرِ في بِضْع صَفَحَاتٍ قصيرة عَنْ كُلِّ التَّعقيدِ المَلْحَمِيِّ للرِّواية. وَتَتَمَيَّزُ كِتاباتُها ببساطةِ الأُسلوبِ وَعُمْقِ المَضمونِ، والكَشْفِ عَن تناقضاتِ الحَيَاةِ، والجَمْعِ بَيْنَ السُّخريةِ والجِدِّيةِ في آنٍ مَعًا.

وقالت الأكاديميَّةُ السويدية: " مونرو تَتَمَيَّزُ بِمَهارة في صِياغة الأُقْصُوصَةِ التي تُطَعِّمُها بأُسلوبٍ واضح وواقعيَّةٍ نَفْسِيَّة ". وتابعتْ تَقُول: " إنَّ قِصَصَها بِمُعظمها تَدُور في مُدُنٍ صغيرة، حَيْثُ غالبًا مَا يُؤَدِّي نِضَالُ الناسِ مِنْ أجْلِ حَياةٍ كَريمة إلى مَشَاكِل في العَلاقاتِ، وَحُدُوثِ نِزَاعاتٍ أخلاقية، وَهِيَ مَسألة تَعُود جُذورُها إلى الاختلافاتِ بَيْنَ الأجيال، أو التناقضِ الذي يَعْتَري مَشاريعَ الحَيَاةِ ".

ظَلَّتْ مونرو عَلى يَقينٍ مِنْ أنَّ القِصَّة القصيرة لَيْسَتْ أقَلَّ شأنًا مِنَ الرِّوايةِ، لَذلك حَرَصَتْ عَلى كِتابةِ القِصَصِ بعاطفةٍ مُفْعَمَةٍ بالصِّدْقِ والتَّحْليلِ النَّفْسِيِّ، معَ الاعتمادِ عَلى الحَبْكَةِ الجَيِّدةِ، وَعُمْقِ التفاصيل. والأبطالُ في قِصَصِ مونرو فَتَيَاتٌ وَسَيِّدَاتٌ يَعِشْنَ حَيَاةً تَبْدُو عاديَّةً، لَكِنَّهُنَّ يُصَارِعْنَ مِحَنًا مُؤلمة، كالتَّحَرُّشِ، أو الزَّوَاجِ المَأسَاوِيِّ، أو مَشاعرِ الحُبِّ المَقموعة، أوْ مَتَاعِبِ الشَّيْخُوخة.

كانتْ مونرو مِنْ أوائلِ مَن ابتكرَ تِقْنيةَ السَّرْدِ غَيْرِ الخَطِّي، والذي يَقْفِز فيه الساردُ بَيْنَ الحاضرِ والماضي والمُستقبَلِ. وهَذا الأُسلوبُ الأدبي لا يَعْتَمِد على التَّسَلْسُلِ الزَّمَنِيِّ للأحداثِ، بَلْ يَعْتَمِد عَلى الاسترجاعاتِ الزَّمنية، أو الوَمَضَاتِ المُستقبلية، أوْ سَرْدِ قِصَص مُتَعَدِّدَة في وَقْتٍ واحد.

تَدُورُ أحداثُ العَدِيدِ مِنْ قِصَصِ مونرو في مُقاطعة هورون، أونتاريو. وَيُعَدُّ التركيزُ الإقليميُّ القويُّ أحدَ سِمَات أدبِها. وعِندما سُئِلَتْ بَعْدَ فَوْزِها بجائزة نوبل: " ما الذي يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُثِيرًا للاهتمامِ في وَصْفِ الحَيَاةِ في بَلْدة كَندية صغيرة ؟ "، أجابتْ: " يَكْفِي أنْ تَكُونَ هُناك ". وَيُقَارِنُ الكثيرون بيئات بَلْدتها الصغيرة بِمَناطقِ جَنُوبِ أمريكا الرِّيفيِّ، غالبًا مَا تُوَاجِهُ شخصياتُها عاداتٍ وتقاليد راسخة.

نُشِرَتْ أوَّلُ أُطروحة دُكتوراة حَوْلَ أعمالِ مونرو عام 1972. وفي عام 1984، نُشِرَ مُجَلَّد ضَخْم يَجْمَع الأوراقَ البحثية المُقَدَّمَة في أوَّلِ مُؤتمر لجامعة واترلو حَوْلَ أعمالِها، بِعُنوان: " فَن أليس مونرو: قَوْل مَا لا يُقَال ". وَفي عَامَي 2003 و2004، نَشَرَتْ مجلةُ " الرِّسالة المَفتوحة" الكندية، وَهِيَ مُرَاجَعَة فَصْلِيَّة للكتابةِ والمَصَادِرِ، أرْبَعَ عَشْرَة مُسَاهَمَة حَوْلَ أعمالِ مونرو.

أحدثتْ أعمالُ مونرو ثَورةً في عَالَمِ القِصَّة القصيرة، لا سِيَّمَا في مَيْلِها إلى التَّقَدُّمِ والتراجعِ في الزَّمَن، وَدَمْجِها لِدَوراتٍ قصصية قصيرة، أظهرتْ فِيها بَرَاعَةً سَرْدِيَّةً. وقِيل: " إنَّ قِصَصَها تُجسِّد أكثرَ مِمَّا تُعْلِن، وَتَكْشِف أكثرَ مِمَّا تَسْتَعْرِض ".

رَغْمَ النجاحِ الذي حَقَّقَتْهُ مونرو، وَحَصْدِها مَجموعة مِنَ الجوائز الأدبية العالميَّة خِلال أكثر مِنْ أربعة عُقود، لَمْ يَكُنْ حُضُورُها صَاخِبًا، بَلْ آثَرَتْ حَيَاةَ الكِتمانِ، والبُعْدَ عَن الأضواءِ، عَلى غِرَارِ شخصياتِ قِصَصِها، وَمُعْظَمُها مِنَ النِّسَاءِ اللواتي لَمْ تَكُنْ في نُصُوصِها تُركِّز عَلى جَمَالِهِنَّ الجَسَدِيِّ إطلاقًا.

وَقَدْ رَوَتْ في حَديثٍ صَحَفِيٍّ أنَّها كانتْ تَحْلُمُ مُنْذُ أنْ كانتْ مُرَاهِقَةً في مُنْتَصَفِ أربعينياتِ القَرْنِ العِشرين بأنْ تُصْبح كاتبةً، " لكنَّ الإعلان عَن هَذا النَّوع مِنَ الأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا في ذلك الزمن. لَمْ يَكُنْ مِنَ المُسْتَحَبِّ أنْ يَلْفِتَ المَرْءُ الانتباهَ. رُبَّما كانَ للأمر عَلاقة بِكَوْني كندية، أوْ بِكَوْني امرأة، وَرُبَّمَا بِكِلَيْهِمَا ".

في عَالَمِ مونرو، تتألَّقُ شخصياتٌ لا تَعْكِسُ أيَّةَ حِنْكَة. تَظْهَرُ أمامَ أعْيُنِنا وكأنَّنا الْتَقَيْنَا بِها صُدفةً في السُّوقِ. أفرادٌ عَادِيُّون يأخذون بأسبابِ حَياةٍ مَحدودة مُهَمَّشَة، لِتَمثيلِ البشرية بِأسْرِهَا بِلُغَةٍ تَتَرَاوَحُ بَيْنَ المَكْبُوحِ والصَّرِيحِ.

وَقَدْ تَمَيَّزَتْ الكاتبةُ بِقُدرتها على نَسْجِ قِصَص مُعَقَّدَة ذات عُمْق فِكري وعاطفي، باستخدامِ لُغَة بسيطة وواقعية، والتركيزِ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ اليوميةِ في المُجتمعاتِ الصغيرة، والكَشْفِ مِنْ خِلالِها عَنْ جوانب عميقة مِنَ الطبيعةِ البشريةِ والعَلاقاتِ الإنسانية. وَقِصَصُها تَتْرُكُ أثَرًا عميقًا في نُفُوسِ القُرَّاءِ، وتَدْعُوهُم إلى التأمُّلِ في قَضايا الحَيَاةِ والوُجودِ بطريقةٍ جديدة ومُختلفة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في المثقف اليوم