قراءات نقدية
أكبر مدن: قراءة في رواية "قيامة الخفافيش"

تجليات الفردانية والهوية والإيمان في مرآة السرد
إن رواية "قيامة الخفافيش" هي عمل أدبي يغوص عميقًا في تعقيدات النفس البشرية والمجتمع. تنسج الرواية، عبر شخصية "سلمان" المحورية، صراعًا مريرًا بين الفردانية التواقة للتحرر من جانب، والانتماء الجمعي بضغوطه من جانب آخر. وهي تستكشف أزمة الهوية في عالم تتصارع فيه الموروثات مع العقلانية. وبجرأة لافتة، تطرح الرواية تساؤلات حول المسلمات الدينية، داعيةً إلى التسامح الفكري عبر تعدد الأصوات. ورغم نضج "سلمان" الثقافي، تكشف الرواية عن هشاشته النفسية والاجتماعية، تاركةً للقارئ مساحة للتأويل. كل ذلك ضمن بنية سردية محكمة، تستخدم الزمن الدائري لتعميق الرمزية، وتبلغ ذروتها في جدل مفتوح حول النسوية والذكورية، مُظهرةً قدرة الكاتب على إثارة الأسئلة الكبرى دون فرض إجابات نهائية، خاصةً حين يتعلق الأمر بتوازنات المجتمع وقضاياه الشائكة.
في هذا المقال، نتناول رواية "قيامة الخفافيش" من بعض الزوايا المهمة، وخصوصا تلك المرتبطة بالأفكار المطروحة في الرواية:
الغلاف:
يُعدّ غلاف الكتاب بمثابة العتبة البصرية الأولى التي يلج منها القارئ إلى عالم النص، بل إنه قد يختزل في رمزيته أعمق رؤى العمل. وفي رواية "قيامة الخفافيش"، يبدو الغلاف الحالي -في رأيي- بعيدًا كل البعد عن عمقها الفكري، كما أن العنوان ذاته قد لا يُسعف القارئ في استكشاف المكنونات العميقة والمقاصد التي تسعى الرواية لإيصالها.
جدلية الفردانية والانتماء: صراع الذات في مواجهة القطيع:
تغوص الرواية في فصولها لاستكشاف الصراع الأزلي بين تطلعات الفرد وآصرة الانتماء الاجتماعي، أو ما يُصطلح عليه حديثًا بجدلية "الفردانية" و"الجمعانية". يتجسد هذا الصراع في سعي الفرد لتأصيل حريته في الحياة والتعبير والاعتقاد، مقابل غريزة الانتماء وما تفرضه من تنازلات لضمان الأمن والتآزر.
يُعدّ اشمئزاز "سلمان" من قريته، وما يعتريها من زهوٍ مُصطنعٍ بالقيم -بينما يُدرك هو زيفها-، تجسيدًا لهذا الصراع الذي لا يهدأ، إلا حين تبقى الفردانية ضمن حدودها المقبولة، حفظًا لتماسك النسيج المجتمعي.
وعبر المقارنة بين القرية والمدينة، يكشف الكاتب عن التباينات الثقافية والاجتماعية التي تُسهم في تشكيل الفروقات الفردية والامتيازات الاقتصادية والعلمية، حيث تمثل القرية عالم القيم المنغلقة، بينما ترمز المدينة إلى المجتمع المفتوح بدلالاته الثقافية المتعددة.
الهوية وتجلياتها: بحث "سلمان" عن الذات في عالم متناقض:
يُطلّ موضوع الهوية برأسه بقوة في نسيج الرواية؛ فالهوية الإنسانية تتشكل من منظومة الأفكار والقيم والمبادئ الأخلاقية، وما ينبثق عنها من سلوكيات، ويُصبح تجسيدُ هذه الهوية ضرورةً حياتيةً للفرد.
نجد شخصية "سلمان"، ببنيتها الثقافية، تسعى للتحرر من قيود مجتمعها، وربما -حتى لا نُجحف بحق الكاتب- أُريدَ لـ"سلمان" أن يبقى خارج نطاق "الكياسة الاجتماعية" التقليدية، تلك التي تفرض على الفرد المختلف موازنة دقيقة بين إعلان هويته والتصالح مع الذات، وبين إخفائها لكسب ود الآخرين. تتجلى صراعات الهوية لدى "سلمان" في تلك التخيلات الذهنية التي تتنازعه بين شخصيات مُقدسة يرفضها عقله العلمي، وكأنه يعيش صراعًا داخليًا بين الموروث والواقع، صراعًا قديمًا يتجدد في خلايا دماغه.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نجح الكاتب في تضمين الرواية هويات متعددة ومتنوعة عبر شخصيات متضادة ومتباينة مع الشخصية المحورية، مما يُثري النص معرفيًا ويجذب القارئ إلى حوارات دينية وفلسفية، حيث يقف كلٌّ عند حدود هويته. هذا التعدد يُتيح للكاتب أيضًا استعراض مخزونه المعرفي والثقافي والفلسفي، دون إلزام بالانتصار لرأي بعينه، وإن كان من المقبول أن يميل إلى وجهة نظر يراها جديرة بالاهتمام.
الخروج من صندوق الإيمان: جرأة الطرح وعمق المعالجة:
تتناول الرواية، بجرأة لافتة، قضيةً محوريةً قلّما تُطرق في فضائنا الأدبي، وهي اهتزاز اليقين الديني لدى "الشخصية الرئيسية". فالدين، الذي يُعدّ من المسلمات في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، يُصبح موضع تساؤل. إن تقديم شخصية محورية "لا دينية" هو خيار عميق وجريء، قد يُصنّف العمل ضمن "الأدب المثير للجدل"، ويُدخل الكاتب في مواجهة مع المجتمع، بعد أن كانت مسودة الرواية حبيسة قراره. وهذا يعني ترقّب عواقب قد تكون وخيمة. ومع ذلك، يبدو أن الكاتب قد نجح في طرح أفكار دينية متنوعة ومتضادة، بهدف تنبيه القارئ إلى طبيعة الاختلاف في وجهات النظر، ودعوة المجتمعات للابتعاد عن التعصب الأعمى. فلا غضاضة في أن تحمل الرواية رسائل أخلاقية ومعرفية، سواء بطريقة مباشرة أو رمزية، كما فعل الكاتب هنا.
البنية النفسية والاجتماعية للشخصية المحورية: تناقضات وانعكاسات:
تُترك البنية النفسية والاجتماعية للشخصية الرئيسية لتتشكل في وعي القارئ أكثر مما يُقررها الكاتب بشكل مُسبق؛ فالقارئ ذو الوعي والفهم العميق قد يرى في شخصية "سلمان" وعيًا متدنيًا وثقة مهزوزة، وافتقارًا لآليات التوازن النفسي. بينما قارئ آخر، ربما يجد في هذه البنية انعكاسًا لتجربته الخاصة، فيتعاطف معها ويُبرر انفعالاتها.
ومن جهة أخرى، يكشف النص عن تناقض لافت في شخصية "سلمان": فبينما تُظهر حواراته حول الثقافة والكتب نضجًا فكريًا يتطلب وعيًا واتزانًا، تكشف تفاعلاته الاجتماعية عن بنية غير ناضجة، متسرعة في ردود أفعالها، تفتقر إلى فهم دقيق لمن حولها، ولا تعكس ثقافتها المزعومة. هذا يشير إلى اضطراب بنيوي في الشخصية، إما أن الكاتب لم يلتفت إليه، أو أنه تعمّد عكس جانب من شخصيته الحقيقية. ويُستشف من ذلك أن نضجه الثقافي قد سبق نضجه النفسي والاجتماعي، مما انعكس على سلوكياته.
نسيج النص السردي: بين الزمن الدائري وذروة الجدل:
تتألق الرواية بهيكل سردي متوازن، حيث تأتي البدايات جاذبة، مُفعمة بأحداث مثيرة وغامضة تستدعي التفكيك. ويلعب مفهوم "الخفافيش" دورًا محوريًا في هذا، بما يحمله من تأويلات متعددة. ومع تصاعد الأحداث، يزداد المفهوم غموضًا، فيتصاعد معه التشويق، الذي يُقدمه الكاتب بجرعات محسوبة عبر توظيف تقنية "الاسترجاع" (فلاش باك) أو الزمن الدائري، حيث لا يسير الزمن خطيًا من ماضٍ إلى حاضر ومستقبل، بل في حركة دائرية تُعيد الشخصيات والأحداث، وكأن الواقع كتاب يُمكننا تصفح صفحاته السابقة.
هذه البنية الزمنية الدائرية تُضفي رمزية على الأحداث التي تتكرر دون تغييرات جذرية، فالواقع يُعيد إنتاج نفسه، والشخصيات حبيسة دائرة سببية مُحكمة، مما يمنح النص تماسكه وتناسقه، فالأحداث التي تبدو عرضية سرعان ما يتكشّف موقعها وأهميتها. وفي ذروة السرد، تنفجر الأحداث كبركان ثائر، مُفجرةً جدلًا عميقًا حول قضايا النسوية والذكورية، بين مجتمعات رسّخت الذكورية كأيديولوجية دينية واجتماعية، وتيار مُضاد يسعى لإعادة التوازن الطبيعي بين الجنسين، لكنه، في نظر الكاتب ربما، أخطأ في وسائله وأساليبه، فبدا كخفاش ليل مُخيف، يُهدد بتخريب الواقع الاجتماعي بدلاً من إرساء العدل. ويبدو أن الكاتب تعمّد عدم حسم هذه القضية الجدلية، تاركًا نهاياتها مفتوحة.
***
أكبر مدن
14 مايو 2025