قضايا
فاطمة الزهراء العسالي: "حدّهم".. اسمٌ مغربيٌّ يُربك الحداثة المزيفة

ويهزّ وهم الهوية المستوردة!
في زمنٍ صار فيه الاسم وسيلةً للتماهي مع ما هو وافد وغريب، بدل أن يكون إعلانًا عن الهوية وتجذرًا في الأرض والذاكرة، تبرز الحاجة إلى إعادة الاعتبار للأسماء الأصيلة التي تُحاكي الإنسان في عمقه الثقافي والنفسي والروحي. فالتسمية ليست مجرد إجراء شكلي، ولا عادة أسرية عابرة، بل هي خطاب صامت ينحت ملامح الانتماء، ويوشّح الفرد بميراث لا يُشترى.
لقد أصبحت مجتمعاتنا العربية عمومًا، والمغربية على وجه الخصوص، رهينةً لهوس التحديث السطحي الذي اقتحم حتى حميمية التسمية، فاختلطت الأسماء، وغاب المعنى، وابتُذلت الهوية. صار البعض يُطلق أسماء أجنبية على أبنائه دون معرفة خلفياتها اللغوية أو دلالاتها الثقافية، وربما دون وعي بجنسها، أهي لمذكر أم لمؤنث. في هذا المشهد، يبدو الرجوع إلى أسمائنا التراثية المحلية ليس نكوصًا، بل موقفًا واعيًا واستعادة لهوية أصيلة.
من هذه الأسماء، يبرز اسم "حدهم" بوصفه حالةً خاصة؛ نادرة، بسيطة، ولكنها مشحونة بالدلالة، وذات رمزية لسانية واجتماعية وروحية عميقة. يحمل هذا الاسم في طيّاته قصة، ويُلخّص واقعًا، ويُثير تساؤلات حول التسمية كفعل ثقافي، يزاوج بين الفردي والجماعي، وبين المحلي والإنساني.
- الأصل اللغوي والمعجمي والدلالي لاسم "حدهم":
يتألف اسم "حدهم" من مقطعين: "حدّ" و"هم". فـ"حدّ" في المعاجم العربية يعني المنع، أو الفصل، أو الحدّ الفاصل بين شيئين. يقول ابن منظور: "الحدّ ما يمنع الشيءَ أن يَتَعَدَّى غيرَه، وهو الفاصل بين الشيئين" (ابن منظور، 2005، ص. 135). أما "هم" فهي ضمير الجمع للغائبين، ويُستخدم في العربية الفصحى للإشارة إلى جماعة غير حاضرة.
وبناءً عليه، يُمكن فهم الاسم دلاليًا على نحوين:
- "أحدهم": أي شخص غير محدد من بين جماعة.
- "آخرهم": بمعنى ختام الجماعة أو نهايتهم، وهي دلالة أكثر التصاقًا بالسياق الشعبي المغربي.
في الاستعمال المغربي، وتحديدًا في الشرق ومناطق زعير وزمور، خاصة منطقة تيفلت، نجد الاسم متداولًا في سياقات خاصة، حيث تُطلق عبارة "هاذي حدهم" في وصف آخر بنات الأسرة، خاصة إن تتابعت ولادات الإناث دون فاصل ذكري. ثم حُذفت "هاذي" لتبقى "حدهم" اسمًا قائمًا بذاته، يُعبر عن أمنية ضمنية بأن تكون هذه آخر البنات، أي علامة على الاكتفاء و"ختم النسل"، أو "آخر من حدّهم"، أي آخر نسلهم أو طفلهم الأخير إن صح التعبير.
وقد أشار بعض كبار السن في منطقة زمور (مقابلات ميدانية، 2024) إلى أن التسمية كانت دعاءً ضمنيًا أو فألًا حسنًا بأن يُرزق بعد ذلك بولد، أو ألا تستمر الولادة لأسباب صحية أو اقتصادية.
ما يميز اسم "حدهم" أيضًا هو أنه اسم لا يُنسى. فندرته، وغرابته النسبية، وسياقه العاطفي، تجعله يحمل أثرًا في الذاكرة السمعية للمجتمع. وتمنحه فرادة وتجعله سهل التذّكر، بل يلفت الانتباه إلى حامله، ويمنحه هوية لسانية مميزة، ويُشار إليه باسم له حكاية وجذور تاريخية أصيلة، لا كتسمية نمطية عابرة.
- البعد الديني والثقافي والاجتماعي:
في السياق الإسلامي، تحمل كلمة "حدّ" شحنة دلالية قوية، إذ تُذكر في القرآن الكريم ضمن ما يُعرف بـ "حدود الله"، وهي الأحكام التي شرّعها الله لتنظيم السلوك وحفظ التوازن الأخلاقي والاجتماعي، كما في قوله تعالى: ﴿تلك حدود الله فلا تعتدوها﴾ (البقرة: 229)، وقوله: ﴿ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه﴾ (الطلاق: 1). هذه الحمولة القيمية تمنح الاسم عمقًا رمزيًا، وإن لم يكن الاشتقاق مباشرًا، لكنه يحيل إلى معاني الضبط والمنع والحسم (الشوكاني، 2001، ص. 22).
كما أن حضور الاسم في الثقافة الشعبية المغربية يعكس تفاعله مع الوجدان الجمعي، خصوصًا في المجتمعات القروية، حيث التسمية ليست فقط اختيارًا لغويًا بل تعبير عن أمل أو رسالة غير منطوقة. اسم "حدهم" في هذه البيئة لا يُطلق عبثًا، بل يأتي محمّلًا بتجربة عائلية أو رغبة في نهاية مرحلة معينة من الإنجاب أو بداية مرحلة جديدة. فالتسمية هنا تُصبح أشبه بدعاء غير مباشر، فيه رجاءٌ واستسلام للقدر.
لهذا الاسم طابع اجتماعي يضفي على حامله فرادة لافتة. فهو لا يُشبه الأسماء المتداولة، بل يتفرد بها، فيُصبح لسان حال الجماعة حين يُذكر. والفرادة في الاسم تعني غالبًا فرادة في الهوية. فالطفل الذي يُقال له "أنت حدهم" يُنشّأ على وعي ضمني بأنه مختلف، وربما مميز، وهذا يسهم في بناء تصوره الذاتي وإحساسه بقيمته داخل الجماعة.
من جهة أخرى، يحمل الاسم في بنيته الصوتية قوة واضحة. لا ليونة في النطق، بل حدة، وصلابة، وجديّة. وهذه النغمة تُساهم في إضفاء معانٍ إضافية على الاسم كرمز للقوة والشجاعة والقدرة على التميّز. وهذا الأثر الصوتي يُرافق الشخص في حياته، ويؤثر في طريقة تفاعله مع العالم من حوله (بنيس، 1999، ص. 87).
وبينما تحاول بعض الأسر مسايرة موجة "الحداثة الشكلية" بتسمية أبنائها بأسماء أجنبية قد تُفقدهم الاتصال بهويتهم الأصلية، وتزرع فيهم شعورًا بالغربة اللغوية أو القيمية، فإن الرجوع إلى أسماء محلية مثل: حدهم، عائشة، رحمة، ضاوية، نجمة، يطو، فاطنة، الجيلالي، عباس، الخياطي، مبارك، مسعود… هو استعادة لفعل ناتج عن ثقافة التسمية المرتبطة بالحظ والأقدار أو التفاؤل والانتماء، وهو احتفاء بالثراء المغربي في تعدده العربي والأمازيغي والحساني والصوفي والإسلامي (المجلس الأعلى للتربية والتكوين، 2019).
- رؤية حضارية ومعالجة معرفية:
ليست التسمية إلا لبنة أولى في مشروع تربية شاملة. فالاسم يرافق الإنسان في بطاقة هويته، وصوته، وسجّلات المدرسة، ومراسلات العمل، وحتى في ذكريات من يحبّونه. وحين يُحمل اسم مثل "حدهم"، يصبح جزءًا من خطاب غير منطوق: خطاب يروي حكاية المكان والأسرة والزمان.
يتحول الاسم في هذا السياق إلى وثيقة ثقافية تصف علاقة الإنسان بجذوره. في التسمية اعتراف ضمني بأن الطفل ليس بداية من لا شيء، بل هو استمرار لسياق عائلي واجتماعي وإنساني. واسم "حدهم"، بما له من فرادة وارتباط بالذاكرة، يزرع في الطفل نوعًا من الفخر الخفي والانتماء العميق إلى قصة أكبر منه.
من الجانب النفسي، تساعد هذه الأسماء على بناء شخصية مستقلة، ترفض الانصهار فيما يُملى من الخارج. فاسمٌ مثل "حدهم" يحيل مباشرة إلى سردية خاصة، ويُغذي خيال الطفل حول مكانته في العائلة، كما قد يفتح أمامه بابًا للتساؤل حول المعنى، والسياق، والذاكرة.
إن التسمية تُصبح وسيلة للمقاومة الرمزية، وخصوصًا حين تتخذ الأسر موقفًا ضد الاستلاب الثقافي عبر أسماء مستوردة تُفرَغ من أي دلالة هوياتية. فاختيار "حدهم" هو إعلان عن التمسك بالحق في تسمية الذات من داخل الثقافة، لا من خارجها (المعجم العربي الأساسي، 1989، ص. 42).
ولا تعني العودة إلى الأسماء التراثية رفضًا للحداثة، بل دعوة إلى الانفتاح الواعي والاختيار النقدي. فأن نحمل أسماء لها جذور، لا يعني أننا نرفض العالم، بل أننا ندخله ونحن نعرف من نحن. بهذا المعنى، يُصبح الاسم "حدهم" جسرًا بين المحلي والعالمي، بين الأصالة والانفتاح، بين الذاكرة والطموح.
خاتمة
إن الاسم ليس مجرد دالّ لغوي، بل هو حاضنٌ للمعنى، ومُعبّر عن انتماءٍ متجذر في الزمان والمكان. واسم "حدهم" لا يُمثل فقط حالة لسانية نادرة، بل يُمثل اختزالًا لثقافةٍ تعي جيدًا أن الهوية ليست ترفًا، بل هي حاجة وجودية تُمارَس حتى في أدق تفاصيل الحياة، ومنها التسمية.
في عالمٍ يزداد فيه التشابه، وتُعاد فيه الأسماء وكأنها سلعة قابلة للتكرار، يأتي "حدهم" ليربك هذا النسق ويعلن عن فرادة الإنسان المغربي، في لغته، ووجدانه، وتاريخه. فالاسم هنا لا يُعرّف فقط صاحبه، بل يُعرّف من اختاره، ويُعلن عن موقف لغوي وقيمي وثقافي.
لذلك، فإن إعادة الاعتبار لهذا النوع من الأسماء ليس فقط فعل وفاء للموروث، بل هو فعل بناء للذات في عالم يمحو الحدود ويُميع الاختلافات. اسم "حدهم" ليس فقط نداءً شخصيًا، بل بيانٌ ثقافيٌّ صغير في مواجهة العولمة الرمزية التي تبدأ أحيانًا من الاسم.
***
د. فاطمة الزهراء العسالي - المغرب
....................
المراجع
- ابن منظور. (2005). لسان العرب (ج2، ص. 135). بيروت: دار صادر.
- الشوكاني، محمد بن علي. (2001). نيل الأوطار في أحكام الحدود (ص. 22). بيروت: دار المعرفة.
- بنيس، عبد السلام. (1999). الهوية والسيمياء في الثقافة المغربية (ص. 87). الدار البيضاء: دار النشر المغربية.
- المجلس الأعلى للتربية والتكوين. (2019). تقرير حول الهوية الثقافية في المدرسة المغربية. الرباط.
- المعجم العربي الأساسي. (1989). تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
- مقابلات ميدانية مع سكان زمور وتيفلت، شهري مارس وأبريل، 2024.