قضايا

مراد غريبي: الاستدمار الثقافي بوصفه العقل المستعمَر؟!

مفتتح: هناك مفارقة عميقة تطبع تاريخ المجتمعات المستعمَرة:، حيث تحتفل هذه المجتمعات برفع رايات الاستقلال وخروج آخر جندي أجنبي من أراضيها، يبقى استعمار أعمق وأخطر قائماً في العقول والأرواح. هذا الاستعمار الخفي الذي لا يحتاج إلى دبابات ولا جنود، بل يتغلغل في البنية الثقافية والنفسية للمجتمع، هو ما يُعرف بـ الاستدمار الثقافي كما اسماه المفكر الجزائري الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم- ذلك المصطلح الذي يتجاوز مفهوم الغزو الثقافي إلى عملية ممنهجة من المسخ والفسخ والنسخ تستهدف تدمير الهوية الأصلية وإحلال هوية المستعمِر محلها.

 الاستدمار ليس مفردة نظرية في قاموس الدراسات الثقافية، بل هو واقع معيش نختبره حين نجد أجيالاً من المتعلمين أصبحوا غرباء عن ثقافتهم، ينظرون إلى لغتهم الأم كعائق أمام التقدم، ويتبنون قيم المستعمِر كأنها الحقيقة الوحيدة في التاريخ. إنها حالة من الاغتراب الحضاري تتطلب فهماً عميقاً لآلياتها وأهدافها، وبناء استراتيجيات واعية لمواجهتها.

1- تأصيل المفهوم وتحديد المعالم:

الاستعمار التقليدي ظاهرة خارجية، يحتل الأرض بالقوة العسكرية ويستنزف الثروات بالآلة الاقتصادية، لكنه يبقى قابلاً للمقاومة المادية والطرد النهائي. أما الاستدمار الثقافي فهو عملية جوانية أعمق أثراً وأبعد مدى، تستهدف البنية العقلية والنفسية للإنسان، وتحوله من كائن مقاوم إلى أداة طوعية للهيمنة دون أن يشعر بذلك.

المفهوم يقوم على ثلاث مراحل متتالية تشكل في مجموعها منظومة التدمير الحضاري:

م1: هي المسخ، حيث تُشوَّه الهوية الأصلية وتُصوَّر كمتخلفة ورجعية وعائق أمام التحضر. فاللغة العربية تصبح "لغة الماضي"، والقيم الإسلامية تصبح "عوائق أمام الحداثة"، والتاريخ الوطني يُكتب كسلسلة من الظلمات تقطعها "نور الاستعمار".

م2: هي الفسخ، وتعني تفكيك الروابط التاريخية بين الأجيال، وقطع الصلة بين الحاضر والجذور الثقافية والروحية. فالجيل الجديد يُعزل عن تراثه، ويُقدَّم له على أن ما قبل الاستعمار كان "عصراً مظلماً" لا يستحق الاهتمام أو الدراسة.

م3: فهي النسخ، وهي الأخطر: استبدال شامل للقيم والمعايير الثقافية والمرجعيات الفكرية. هنا لا يكتفي الاستدمار بتشويه الهوية الأصلية أو فصل الأجيال عنها، بل يحل محلها منظومة كاملة من القيم والأفكار والمعايير المستوردة تصبح هي المرجعية الوحيدة في الحكم على الأشياء.

هذه المراحل الثلاث لم تأت بعشوائية أو عفوية، بل كانت استراتيجية مخططة بدقة، خصوصا لدى فرنسا العجوز وما ارتكبته من جرائم مادبة وغير مادبة في مستدمراتها وخاصة بالجزائر،حيث الاستراتيجية استهدفت كل مكونات الهوية: اللغة التي حوربت وهُمشت، الدين الذي صُوّر كعدو للتقدم، التاريخ الذي أُعيدت كتابته من منظور المستعمِر، القيم التي قُدمت كعوائق اجتماعية، وحتى طريقة التفكير نفسها التي أُعيد تشكيلها وفق قوالب غربية.

2- التعليم الاستدماري كأداة للهيمنة:

إذا كان الاستدمار الثقافي منظومة متكاملة، فإن التعليم كان محركها الأساسي وأداتها الأكثر فاعلية. السياسة التعليمية الاستعمارية لم تكن تهدف إلى نشر المعرفة - كما يُروَّج لها - بل كانت تهدف إلى تدجين العقول وترويضها لخدمة المشروع الاستعماري.

المنهجية كانت واضحة: فصل النخبة المتعلمة عن ثقافتها الأصلية، وإشباعها بثقافة دخيلة تجعلها أداة طيّعة في يد الاستعمار. الطالب الذي يدخل الجامعة متمسكاً بهويته العربية والإسلامية، يخرج منها بعد سنوات وقد أصبح غريباً عن ثقافته، ينظر إليها بعين الاحتقار، معتبراً اللغة الفرنسية لغة العلم والحضارة واللغة العربية مجرد رمز للماضي هذه النتيجة لم تكن صدفة، بل كانت الهدف المقصود من العملية التعليمية برمتها.

والأخطر من ذلك أن السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر اعتبرت تدريس القرآن والدين الإسلامي نوعاً من "المقاومة الثقافية" التي يجب محاربتها بكل الوسائل. فقد كانت الحياة الثقافية قبل الاستعمار مزدهرة، وكان أغلب المواطنين متمكنين من القراءة والكتابة بالعربية، لكن الاستعمار عمل بمنهجية على محو هذا الموروث الثقافي وزرع الأمية الحضارية محله.

الدرس الذي تعلمه الاستعمار مبكراً هو أن السيطرة على التعليم تعني السيطرة على المستقبل. فالجيل الذي يُصنع في مدارس الاستعمار وجامعاته سيكون هو الجيل الذي يقود المجتمع بعد الاستقلال، وإذا كان هذا الجيل مقطوع الصلة بثقافته الأصلية، متشبعاً بثقافة المستعمِر، فإن الاستعمار يكون قد حقق هدفه الأسمى: استعمار دائم لا يحتاج إلى جنود.

3- استلابات الاستدمار الثقافي:

الاستدمار الثقافي ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق هدف أعمق: صناعة إنسان مسلوب الهوية يتبنى قيم المستعمِر ويدافع عنها، ويصبح امتداداً للمشروع الاستعماري حتى بعد الاستقلال السياسي.

هذا الإنسان المسلوب يؤدي وظيفة خطيرة في المعادلة الاستعمارية: فهو يحمل جنسية وطنية لكنه يفكر بعقلية استعمارية، يتكلم لغة المستعمِر ويتبنى رؤيته للعالم، بل ويصبح - في كثير من الأحيان - أكثر حماساً في الدفاع عن ثقافة المستعمِر من المستعمِر نفسه.

أما عن الاستلابات الاستراتيجية فإنها تتمحور حول ثلاثة محاور جوهرية:

- تفكيك الوعي الجماعي عبر تشويه التاريخ الوطني وتقديمه كسلسلة من الهزائم والانحطاط، مقابل تمجيد التاريخ الاستعماري كمسيرة من التقدم والحضارة.

- تحطيم الروابط الاجتماعية التقليدية التي تمثل مناعة ثقافية للمجتمع، واستبدالها بروابط فردانية تجعل الإنسان معزولاً وسهل الاختراق.

- خلق تبعية دائمة تجعل النخب المحلية في حالة احتياج مستمر للمرجعية الغربية في كل شيء: في التعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد بل وحتى في تعريف الذات.

هذه الاستلابات تتكامل لتنتج حالة من التبعية الحضارية، لا تحتاج إلى قوة خارجية لفرضها، لأنها تصبح نابعة من الداخل، من قناعات النخب المتعلمة التي أصبحت تؤمن بأن التقدم يعني الذوبان في الآخر، وأن الأصالة تعني التخلف.

4- إدارة الأزمة ومواجهة الاستدمار

مواجهة الاستدمار الثقافي تتطلب:

 أولاً، وعياً عميقاً بحقيقة المشكلة وأبعادها. فالكثيرون يعانون من آثار الاستدمار دون أن يدركوا أنهم ضحايا له، بل قد يدافعون عنه باعتباره "حداثة" أو "انفتاحاً" على العالم. لذلك، فإن المرحلة الأولى من إدارة الأزمة هي التشخيص الدقيق لمظاهر الاستدمار في واقعنا المعاش: من اللغة المستخدمة في الإدارة والتعليم، إلى القيم المتبناة في السلوك الاجتماعي، إلى المرجعيات الفكرية التي تحكم نظرتنا للعالم.

ثانيا، المقاومة الثقافية الفاعلة لا تعني الانغلاق على الذات أو رفض كل ما هو أجنبي - فهذا موقف ساذج وغير واقعي - بل تعني الانتقاء الواعي الناقد القائم على معايير واضحة تحمي الهوية وتعززها دون انغلاق. والتجربة التاريخية أثبتت أن المقاومة الثقافية نجحت حين اندمجت مع المجتمع ولم تنعزل عنه، وحين قدمت بديلاً حضارياً واضحاً وليس مجرد خطاب دفاعي رافض.

ثالثا، الاستراتيجية الفاعلة تعمل على ثلاثة مستويات متكاملة:

1. المستوى الفردي عبر بناء وعي نقدي يميز بين الاقتباس الحضاري المثمر والتبعية المدمرة.

2. المستوى المؤسسي عبر إصلاح شامل للمنظومة التعليمية يحررها من التبعية الثقافية ويجعلها أداة لتحرير العقل لا لتدجينه.

3. المستوى الوطني عبر سياسات ثقافية واضحة تعيد الاعتبار للغة العربية والثقافة الأصيلة كمنطلق للإبداع الحضاري.

 5- الخطاب التنويري والمبادرة الحضارية

الخطاب المطلوب في مواجهة الاستدمار الثقافي يجب أن يتجاوز الموقف الدفاعي إلى موقف المبادرة الحضارية، فالخطاب الذي يكتفي برفض الغزو الثقافي دون تقديم بديل حضاري مقنع يبقى خطاباً ضعيفاً غير فاعل، لأنه يُفهم كنوع من النكوص الخائف على الذات. المطلوب هو خطاب يؤسس لسؤال النهضة الفكرية، خطاب يقدم رؤية حضارية متماسكة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.

الأصالة هنا لا تعني التقوقع في الماضي أو رفض الحاضر، بل تعني الارتباط الواعي بالجذور الثقافية والروحية كمنطلق للإبداع الحضاري. والمعاصرة لا تعني التبعية العمياء للغرب أو الذوبان فيه، بل تعني الاستفادة النقدية من المنجزات الإنسانية وفق رؤية تحفظ الخصوصية الحضارية

و بالتالي المشروع النهضوي يقوم على مبدأ واضح: ثورة العقل هي الثورة الحاسمة في زمننا، فالأمة التي تملك عقولاً متحررة واعية تستطيع أن تواجه كل التحديات، أما الأمة التي عقولها مستدمرة فهي - حتى لو امتلكت كل الثروات - أمة ضعيفة قابلة للاختراق. ومعادلة النهضة تكتمل بتحقيق الاستقلال الثقافي مقابل الاستقلال السياسي، فالاستقلال السياسي وحده - كما أثبتت التجربة - لا يكفي إذا بقيت العقول تائهة والهويات قاتلة ومتقاتلة.

 نحو استقلال حقيقي

المجتمعات التي مرت بتجربة استعمارية تواجه اليوم استمراراً للاستدمار الثقافي في ثوب جديد: العولمة الثقافية التي تخترق المجتمعات من خلال ثقافتها وفكرها، وتنشر منظومة قيم ومعتقدات تقضي على التميز الثقافي الوطني. هذا الواقع يتطلب يقظة حضارية دائمة وبناء استراتيجيات طويلة المدى.

المقاربات الاستراتيجية تتطلب:

- تعميم اللغة العربية وجعلها لغة العلم والإبداع لا مجرد لغة التراث،

- إصلاح شامل للمنظومة التعليمية بحيث تصبح أداة لتحرير العقل،

- بناء وعي نقدي قادر على التمييز بين الاقتباس الحضاري المثمر والتبعية المدمرة،

- تطوير خطاب ثقافي يخاطب الأجيال الجديدة بلغة العصر ويربطها بجذورها بشكل واعٍ ومبدع

الاستدمار الثقافي ليس من ماضٍ انقضى، بل هو مؤامرة واستراتيجية مستمرة تتطلب وعياً عميقاً وإرادة حضارية قوية. فالأمة التي تخسر ثقافتها تخسر وجودها، حتى لو امتلكت كل أشكال الاستقلال السياسي والاقتصادي. والتحدي الحقيقي اليوم هو بناء جيل واعٍ بهويته، معتز بثقافته، منفتح على العالم دون ذوبان، قادر على الإبداع الحضاري انطلاقاً من خصوصيته لا من محاكاة الآخر. هذا هو الطريق الوحيد نحو استقلال حقيقي: تحرير العقل وتجديد الخطاب واستشراف المصير.

***

أ. مراد غريبي

في المثقف اليوم