أقلام حرة

رافد القاضي: العراق وثقافة النهضة المؤجَّلة

قراءة عميقة في جرح الهوية وقلق المستقبل

بلدٌ تتجاور فيه الحضارات كما تتجاور الجراح فالعراق ليس بلداً عادياً، ولا يمكن مقاربته بالأدوات التقليدية في التحليل الثقافي فهنا في أرض ما بين النهرين، لا تزال طبقات التاريخ تتراكم فوق بعضها مثل أوتار عودٍ قديم تزدحم فيها الأنغام وإذا كانت الثقافة مرآة الأمم فإن المرآة العراقية تئن منذ عقود، لكنها رغم التشقق ما زالت تعكس وجهاً لم ينطفئ فيه الضوء قط.

وإنّ الحديث عن القضايا الثقافية في العراق ليس ترفاً فكرياً ولا بحثاً في الماضي بل بحثٌ في مصير وطن تقف روحه على حافة السؤال:

هل ما زال بإمكان العراق أن يصنع مشروعاً ثقافياً يليق بتاريخه؟

أولاً: الثقافة العراقية بين ميراث الحضارة وضغط اللحظة.

ليس في العالم بلدٌ يملك المدى الحضاري والزمني الذي يمتلكه العراق ومن سومر وبابل وآشور إلى بغداد، ومع ذلك، حين ننظر إلى المشهد الثقافي اليوم نجد مفارقة مريرة:

عراقة بلا مشروع، وذاكرة بلا خطة، وإرثٌ ضخم بلا حاملٍ مؤسسي يحميه من التآكل.

1. أزمة الهوية الثقافية

العراق اليوم يعاني من ازدواج هوية لم تُحسم:

هل هو بلد تقوده الذاكرة أم المستقبل؟

هل يصنع ثقافته من جذوره أم من جراحه؟

هل يريد الدولة الحديثة أم الدولة الذاكرة؟

هذه الأسئلة ليست نظرية بل تُلقي بظلها على التعليم واللغة، والفنون، والوعي العام، والجدل اليومي بين المواطن والدولة.

2. ثقافة الصدمة المستمرة

منذ نصف قرن، يعيش العراقي داخل سلسلة متصلة من الصدمات:

صراع سياسي، اضطراب اقتصادي، هجرة العقول…

هذه الصدمات جعلت الثقافة تتحول من قوة بناء إلى وسيلة نجاة، ومن صناعة وعي إلى صناعة اخرى.

فالمثقف العراقي لم يُمنح وقتاً كافياً ليكون مفكراً، كان دائماً مجبراً أن يكون شاهداً.

ثانياً: التعليم… البوابة التي لا يمكن بناء ثقافة من دون تعليم، ولا يمكن بناء تعليم من دون بيئة مستقرة.

لكن التعليم في العراق يعيش جروح متراكمة:

1. المناهج التي لا تواكب الزمن اذ لا تزال الكثير من المناهج أسيرة الماضي، لا علاقة لها بسوق العمل ولا التقدم العلمي ولا الاقتصاد العالمي.

فالطالب يخرج بمعرفة نظرية بلا أدوات تفكير، بلا مهارة تحليل، بلا قدرة على الإبداع.

2. الجامعة والفكر الواعد

كانت الجامعات العراقية في السبعينيات والثمانينيات قبلة العرب، واليوم صارت غارقة بين:

- ضعف التمويل

- هجرة الأكاديميين

- تدخل السياسة

- تراجع البحث العلمي

- غياب المعايير العالمية

3. موت القراءة في مجتمع كان يقرأ بالفطرة.

بغداد التي كانت تمتلك “ورّاقيها” و”سوق الورّاقين” أصبحت تعاني من تراجع حاد في القراءة.

ومنذ متى لم نشهد كتاباً عراقياً يثير جدلاً وطنياً؟

منذ متى لم يتحول شاعر عراقي إلى ظاهرة ثقافية عربية كما كان السيّاب أو البياتي أو النواب...والقائمة تطول؟

إننا نرى تحولاً مقلقاً: ثقافة الصورة تلتهم ثقافة الكتاب.

ثالثاً: الفن العراقي… ذاكرة معلّقة على الحبال

الفن العراقي كان مدرسة مهيبة في التشكيل والمسرح والموسيقى ولكنه اليوم يعيش حالة "الفن بلا مؤسسات".

1. المسرح العراقي الذي هزَّ العروش

ان المسرح في العراق كان يوماً سلاحاً نقدياً فتاكاً، من يوسف العاني إلى سامي عبد الحميد وغيرهم واليوم بقيت المسارح قائمة شكلياً، بينما تراجع الإنتاج النوعي وغيبتها الظروف.

2. الفن التشكيلي… الذي لم يعد يجد جداراً يعلّق عليه لوحته

من إسماعيل الشيخلي إلى فائق حسن وجواد سليم…

كان الفن التشكيلي لغة العراق الأثيرة أما اليوم فمعارض كثيرة بلا رؤية وفنانين بلا دعم، ونقاد بلا مشروع.

3. الموسيقى… حين يتحول العود إلى شاهد على الأسى

موسيقى العراق، من المقام إلى الأغنية الريفية، فقدت الكثير من بريقها.

والسؤال:

هل يمكن لموسيقى بلد يئنّ أن تكون مزدهرة؟

رابعاً: المثقف العراقي… بين سلطة النص وسلطة الواقع

فالمثقف العراقي مأسور بثلاث مشكلات خطيرة:

1. غياب الدور الريادي

المثقف لم يعد صانع رأي عام، بل مجرّد معلّق على الأحداث فالفضاء العام تُرك للسياسة، السوشيال ميديا والشارع.

2. المثقف الذي يعيش في المنفى، والمثقف الذي يعيش في الداخل فالأول يكتب بحرية لكنه بعيد عن الواقع

والثاني يعيش الواقع لكنه مقيد والمشهد الثقافي فقد الجسر الذي يربط الاثنين.

3. المثقف الفرد… لا المؤسسة

لا توجد مؤسسات ثقافية قوية ولا توجد استراتيجية وطنية ولا توجد بيئة تحتضن المفكر أو الشاعر أو الفنان او .

خامساً: الإعلام والثقافة… من صانعة الوعي إلى صانعة الضجيج.

الإعلام اليوم يُنتج ضوضاء أكثر مما ينتج معرفة وبرامج الحوار تتحول إلى ساحات خصومة سياسية والمحتوى الثقافي يُعامل كفقرة ترفيهية، لا كجزء من بناء الوطن.

في حين أن الدول الحديثة تستخدم الإعلام لصناعة صورة، نحن نستخدمه لصناعة جدل.

سادساً: كيف يمكن أن ينهض العراق ثقافياً؟

هذا السؤال هو قلب المقالة

1. إعادة بناء التعليم جذرياً.

تعليم حديث، مناهج حديثة جامعات مستقلة، وتمويل محترم للبحث العلمي.

2. حماية الإنتاج الثقافي بقوانين واضحة

دعم الكاتب، الفنان، الباحث والمبدع ليس رفاهية…

إنه جزء من الأمن الوطني.

3. صناعة مشروع ثقافي وطني ومشروع يتجاوز الحركات السياسية والطوائف والمناطق ومشروع يشترك فيه الأكاديميون والفنانون والمبدعون والمؤسسات.

4. تحويل الثقافة إلى اقتصاد

فالكتاب سلعة، المسرح صناعة، الموسيقى مورد المتحف مصدر دخل السياحة الثقافية قوة ناعمة.

هكذا نجحت الدول، وهكذا يمكن أن ينهض العراق.

5. عودة العراق إلى دوره الحضاري

فالعراق يجب أن يعود قائداً ثقافياً في العالم العربي، كما كان دائماً وهذا ليس طموحاً رومانسياً، بل استحقاق تاريخي.

ختاما ان العراق… وطن يكتب تاريخه بقلمٍ لكنه لا يتوقف مهما اشتدت الأزمات، يبقى العراق “بلد الإمكانات العظيمة المعطَّلة”.

بلد إن نهض ثقافياً، نهض سياسياً واقتصادياً واجتماعياً…

فالثقافة ليست رفاهية، بل هي العقل الذي يوجّه الدولة والروح التي تمنح المجتمع معنى ولأن العراق بلدٌ لا يموت، فإن مشروعه الثقافي سيبقى سؤالاً مفتوحاً ينتظر من يكتب فصله القادم…

وقد يكون هذا الجيل هو الذي يفعل ذلك.

***

د. رافد حميد فرح القاضي

 

في المثقف اليوم