أقلام حرة

عبد السلام فاروق: انتحار السر وميلاد "الفضائحيات"!

اعتاد الناس قديماً أن يهربوا من الفضائح ويطلبوا الستر لأنفسهم ولغيرهم. الآن انقلبت الأوضاع: بات البعض يبحث عن هتك الأسرار ويطلبه! ومع تفشي تلك الظاهرة العجيبة الكريهة تلاشت الخطوط الفاصلة بين الخاص والعام، أو بين الستر والانكشاف.

لم تعد الخصوصية قناعًا نرتديه حين نخرج من عزلتنا، بل غدت عبئًا نخلعه لنثبت أننا موجودون في زوايا العالم الافتراضي المتسع. لقد دخلنا طوعًا عصر "الفضائح الطوعية"، حيث لا سلطة تضغط ولا رقابة تجدي، بل دوافع داخلية خفية تقنعنا بأن نفرغ أعماقنا أمام جمهور مجهول.

نحن نعيش في زمن التحول العاطفي للمجتمع بأسره، حيث باتت الحياة الشخصية سلعة، والاعتراف العلني شكلاً من أشكال الاستثمار في "اقتصاد لفت الأنظار". فمنذ أن تحولت المنصات إلى مسارح للبوح، صرنا ممثلين دائمين في عرض لا ينتهي، لا يكتب فيه سيناريو، بل يرتجل في لحظة ضعف أو رغبة.

هذه أزمة وجود؛ من نحن حين نصبح مكشوفين بلا قيد؟ وهل تبقى للذات قيمة حين تستهلك كل يوم أمام عيون الآخرين؟ إنها مأساة العصر: أن نخلع ستر أرواحنا بأيدينا، وأن نمنح العابرين مفاتيح قلاعنا الداخلية، ثم نصرخ من قسوة الفراغ.

عصر الفضائح الطوعية

أي لعنة تلك التي دفعتنا لنحول حياتنا إلى سيرك مكشوف، نعرض فيه أعماقنا بلا وجل؟ وأي شيطان رقمي أغوانا بأن نبيع أسرارنا في سوق العلنية الرخيص؟ لقد انسلخنا من خصوصيتنا كما يسلخ الجلد عن الجسد، وتحولنا من بشر نحتفي بما تخبئه صدورنا، إلى ممثلين رديئين نفضح أفراحنا وأتراحنا، أمراضنا وهشاشتنا، على خشبة المنصات الرقمية، وكأننا نستجدي تصفيقًا إلكترونيًا أو نظرة عابرة لا مبالية!

منذ متى صارت الفضيحة تطلب كما يطلب الطعام؟ ومنذ متى غدا الضعف وسامًا يعلق على الجدار؟ أين ذهبت تلك الوصايا القديمة التي رأت في الستر فضيلة، وفي كتمان السر أمانة؟ لقد انقلبت القيم رأسًا على عقب، وصار السؤال الذي لا مفر منه: هل نحن إزاء ثورة تحررية تنقذ الذات من سجون التقاليد، أم أننا نعيش أكبر خدعة نفسية في التاريخ، حيث نفرغ أرواحنا تحت وهم التعبير والتواصل، لنكتشف في النهاية أننا نهدر أثمن ما نملك؟

لطالما مرت ثقافة الاعتراف بتحولات متباينة عبر العصور: من طقس وثني يخشى الإفصاح فيه، إلى سر كنسي مقدس، ثم إلى مادة إبداعية في الأدب، وصولًا إلى سلعة مبتذلة في بورصة الانتباه الرقمي. فهل نحن الآن أكثر قربًا من ذواتنا أم أننا نتلاشى رويدًا في زحمة العرض المستمر؟

أليست من المفارقات أن عالم الاتصالات هذا، الذي وعدنا فيه بالتقارب، جعلنا أكثر عزلة من أي وقت مضى؟ أن منصات التلاقي تحولت إلى أبراج زجاجية نصرخ فيها دون أن يسمعنا أحد؟ أين تختبئ الذات الحقيقية وسط كل تلك الأقنعة الرقمية؟ ومن نحن بعد أن أصبحنا ظلالًا رقمية لا تكاد تعرف وجهها الحقيقي؟

إلى أي مدى نحن مستعدون لبيع أرواحنا على أرصفة "الدوبامين" الرقمي؟ وهل نفيق ذات يوم لنجد أننا فرطنا في أنفسنا، في خصوصيتنا، في كياننا، من أجل لا شيء سوى وهج زائل؟

الاعتراف كطقس جماهيري

لم يعد السر كنزًا دفينًا في باطن النفس، صار عملة رائجة في مزادات الانتباه، عبارة مكثفة تختزل التحول المخيف الذي يرصده المراقبون. لقد تحولت الخصوصية إلى مادة استهلاكية، تستعرض ولا تصان، ويزايد عليها بدلاً من حمايتها. لم تعد الأسرار حرمات محفوظة، بل قصصًا تروى، وتجارب تعرض، بل وأحيانًا تفبرك!

ابتذال المقدس

خريطة تطور "ثقافة الاعتراف"، بدءًا من لحظة التوبة في الكنيسة الكاثوليكية، إلى اعترافات الجرائد الصفراء، ثم إلى البرامج الحوارية، فإلى "تلفزيون الواقع"، وأخيرًا إلى منصات التواصل التي حولت كل فرد إلى كاهن يعترف لجموع من الغرباء.

في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الاعترافات وسيلة لكسر التابوهات، ثم أصبحت في الإعلام المرئي وسيلة للترفيه الجماهيري، أما الآن، فهي "شاشة بث حي" لانكشاف دائم، حيث لا وجود لخصوصية إلا كذكرى.

الأسرار كعملة رقمية

"في عالم غارق بالمعلومات، لم يعد الذهب ثمينًا؛ بل الانتباه هو الثروة"، هكذا يشرح خبراء الإعلام كيف تحولت الأسرار إلى أدوات لجذب الأنظار وكسب "اللايكات". لم يعد الإفصاح عن المعاناة ضعفًا، بل أصبح علامة على "الصدق" و"الشجاعة". لكن هذه القيم الجديدة تبني مجدًا هشًا، مرهونًا بمزيد من التعري العاطفي، والتكشّف الوجودي.

فالكشف عن الذات لا يعود اختيارًا حرًّا، بل واجبًا اجتماعيًا غير معلن، يفرض على صاحبه أن يواصل التنقيب في ذاته ليحظى بمكانه في عالم لا يعترف بالصمت.

جغرافيا الانكشاف

تتباين دوافع هذا الانكشاف المتسارع: من رغبة بالانتماء إلى حاجة للتفرد. غير أن هذا المسار محفوف بالخطر، إذ تذوب الحدود بين الداخل والخارج، وتبهت ملامح الذات الحقيقية تحت سطوة "البروفايل" العام. بل قد يتحول الأمر إلى نوع من الإدمان، حيث يصبح الإنسان رهينة ردود الأفعال، يُعرّف نفسه بما يتلقاه من إشعارات.

النتيجة؟ تطبيع شامل مع الفضائحية، مع استباحة الذات، مع استهلاك الروح أمام جمهور لا يبالي بقدر ما يستهلك!

يجب أن نناقش هذا الانكشاف من منظور ديني، حيث تعد الخصوصية قيمة عليا، والستر خلقًا نبيلًا. لكن في ظل عالم رقمي يكافئ من يكشف أكثر، تصبح المعضلة أخلاقية: كيف نوازن بين الحاجة إلى التواصل، والتكليف بحفظ السر؟ كيف نعيد للستر اعتباره في عالم يدفع نحو العري المعنوي؟

الشريعة تفرق بين ما ينبغي ستره وما يجوز كشفه. لكن المنصات الرقمية لا تعرف هذا الفرق. الجميع يتحدث، الجميع يبوح، والكل يعرض بلا حساب، في زمن ضاعت فيه الحدود بين الضروري والمبتذل، بين الفضيلة والفرجة.

ذواتنا بين الضوء والظل

هذا المقال ليس تأبينًا لزمن مضى، بل دعوة لإعادة تعريف ما هو خاص، وما هو مشترك. هل يمكن أن نحيا عصرًا جديدًا يكون فيه التواصل أعمق من مجرد انكشاف؟ هل يمكن أن نخلق توازنًا بين المشاركة والستر، بين التعبير الذاتي واحترام الذات؟

إن التحدي الأكبر أمام الإنسان الرقمي اليوم هو أن يعرف متى يتكلم، ومتى يصمت. أن يشارك دون أن يستنزف. أن يبوح دون أن يختزل. وأن يحتفظ لنفسه بجزء لا يقال، لا يكتب، ولا ينشر.

نحن الآن فى عصر رقمي لا يقاس بالعاطفة، بل بالإعجابات الافتراضية، ولا تقاس الأصالة بالعمق، بل بالابهار والإدهاش. في هذا العالم المفرط في الانكشاف، لم نعد نكتب لنفهم أنفسنا، بل لنثبت حضورًا رقميًا سريع التبخر.

الخصوصية هي المساحة التي تحتفظ فيها الروح بكرامتها، ويحتفظ فيها الإنسان بحقيقته. وإن كان التواصل قيمة، فإن الصمت فى مثل تلك الأجواء فضيلة، وإن كان البوح مصلحة، فإن الستر كرامة. وإعادة الاعتبار للخصوصية نداء لاسترداد التوازن المفقود بين ما نظهر وما نخفي، بين ما يقال وما يجب أن يبقى طي الكتمان. فربما لا تكون النجاة في المزيد من الضوء، بل في بعض الظل.

نحن لسنا مجرد صور ومقاطع وأصوات تبث. نحن بني آدم لنا مهمة ورسالة نؤديها بصمت وخصوصية. ولعل تلك المساحة الصامتة الصلبة، هي ما تبقى لنا من إنسانيتنا المسلوبة رقمياً.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم