أقلام فكرية

نور خالد علي: الوعي النسوي في العراق.. نحو إعادة إنتاج في سياق اجتماعي متحول

يمثّل الوعي النسوي في المجتمع العراقي أحد أكثر التحولات الاجتماعية والثقافية عمقًا وتعقيدًا في العقود الأخيرة. فالتحليل السوسيولوجي للوعي النسوي لا يقتصر على رصد مظاهر التغيير في أدوار النساء، بل يتجاوز ذلك إلى فحص آليات تشكّل الوعي نفسه، وكيف يتحول من إدراك فردي إلى وعي جمعي قادر على إعادة إنتاج الواقع وإحداث التحول فيه. تأتي أهمية تناول هذا الموضوع من خصوصية السياق العراقي الذي واجه تراكمات من الحروب، والهيمنة التقليدية، والتقلبات السياسية، مما جعل مسألة الوعي النسوي ليست مجرد قضية عدالة بين الجنسين، بل قضية وجود اجتماعي ومعرفي تسعى المرأة من خلالها إلى استعادة ذاتها وموقعها في التاريخ والمجتمع. ومن هنا تنطلق التساؤولات الجوهرية: كيف يمكن للوعي النسوي العراقي أن يعبّر عن ذاته في ظل هذه التناقضات البنيوية دون أن يتحول إلى وعي زائف أو استنساخ للخطابات الغربية؟ هل الوعي الثائر يظل محدودًا بالأطر القانونية والمجتمعية، أم أنه قادر على إحداث تغييرات أعمق في تصور المجتمع للمرأة ودورها؟ إلى أي مدى يمكن للوعي النسوي العراقي أن يتجاوز حدود التقليد الاجتماعي والثقافي ليصبح قوة فاعلة في إعادة تشكيل البنى المجتمعية؟ كيف يمكن للمرأة أن تعيد تعريف موقعها في المجتمع دون أن تصطدم بالقيود الاجتماعية والثقافية المتجذرة؟ إلى أي مدى يمكن للخطاب المدني الذي يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية أن يمثل المرأة بشكل شامل؟ هل يمكن للفضاء الرقمي أن يكون ساحة حقيقية للتحرر، أم أنه يظل محصورًا في الرمزية الافتراضية؟

يمثل الوعي النسوي في المجتمع العراقي ظاهرة ديناميكية تتشكل من تفاعل المرأة مع القمع الاجتماعي والثقافي والسياسي، ومن مواجهتها للهيمنة الرمزية والعنف الرمزي كما يسميها عالم الاجتماع "بورديو"، الذي غالبًا ما يتخذ أشكالًا غير جسدية، مثل اللغة والخطاب والمؤسسات الاجتماعية والدينية. فالوعي النسوي لا يقتصر على إدراك الذات، بل يتجاوز ذلك ليصبح فعلًا معرفيًا تحويليًا يسعى إلى إعادة إنتاج الواقع الاجتماعي والثقافي بطريقة أكثر عدالة وشمولًا.

لتبدأ عملية تكوين الوعي النسوي لدى المرأة العراقية بالتحول من الخضوع إلى المقاومة، أي من الاستجابة السلبية للهيمنة إلى وعي نقدي قادر على مواجهة القمع بالمعرفة والفعل. هذا التحول ليس مجرد تمرد عاطفي أو فردي، بل هو بناء مستمر للذات، حيث تصبح الممارسة الفعلية انعكاسًا للأفكار، دون الإساءة للآخر، مع السعي لتغيير الواقع عبر آليات قانونية واجتماعية.  فيمتد الوعي النسوي ليشمل بعدين متكاملين: البعد النفسي/ الإدراكي، المتعلق بفهم الذات وقدرتها على التعامل مع الواقع، والبعد الاجتماعي/ الثقافي، المرتبط بالبنى التقليدية للسلطة والمعرفة وكيفية تحديد المجتمع لأدوار المرأة.

إن هذا البعد النفسي والاجتماعي لا ينفصل عن التجارب المعاشة والتفاعل اليومي، فهو عملية مستمرة لصياغة أدوات معرفية وممارسات عملية تستطيع المرأة من خلالها مواجهة الهيمنة المستبدة وتحويلها إلى فعل تحرري.

لاسيما ان المجتمع العراقي شهد حروبًا متتالية وأزمات سياسية واجتماعية واقتصادية أثرت على البنى التقليدية، مما فرض على المرأة أدوارًا جديدة في المجالين العام والخاص. بعد عام 2003، وفي ظل التحولات السياسية والدعوات للحرية والديمقراطية الظاهرية، بدأ الوعي النسوي يظهر في صورة وعي نقدي متأرجح بين الإرث التقليدي والمطالب الحديثة.

إن هذا الانقسام بين الخطاب المدني والديني يعكس جدلية أعمق حول تمثيل المرأة: من يمتلك الحق في ذلك، وما هي المرجعية الفكرية التي تحدد موقفها وممارساتها؟ وهل يمكن للمرأة أن تحدد سياساتها الخاصة في الحياة العامة دون أن تُقيّدها القيم الاجتماعية والدينية؟ تتفاعل المرأة مع هذه الأسئلة عبر التعليم والعمل البحثي والمشاركة المجتمعية، فتتحول من متلقية للواقع إلى منتجة للممارسات الواعية التي تعيد صياغة صورها في الفضاء العام.

يمكن تصنيف الوعي النسوي العراقي إلى عدة مستويات، منها الوعي التقليدي المحافظ المستمد من البنية الأبوية والعشائرية، والوعي الانتقالي الذي يجمع بين المحافظة والرغبة في التغيير التدريجي، والوعي النقدي الحديث الذي يسعى لإعادة بناء المفاهيم المرتبطة بالجسد والحرية والعدالة الاجتماعية، وصولًا إلى الوعي الرقمي الجديد الذي يتشكل عبر الفضاء الافتراضي ويتيح للمرأة أن تكون فاعلة في إنتاج الخطاب الثقافي والاجتماعي.

يمثل الوعي النسوي مقاومة نقدية متعددة الأبعاد ضد السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والأكاديمية التي تهمش دور المرأة وتحد من مشاركتها. فالوعي النسوي هو فعل معرفي يواجه التمييز والتهميش ويعيد الاعتبار للمرأة كفاعل تاريخي ومعرفي.

اذ إن تحولات الوعي النسوي في العراق لا تعكس فقط مقاومة الفرد للهيمنة، بل تعكس مشروعًا تحرريًا مستمرًا يسعى لإعادة تعريف الذات والمكانة الاجتماعية للمرأة. وفي ظل التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، يصبح الوعي النقدي النسوي أداة لإنتاج معرفة أكثر عدالة وشمولًا، وكشف آليات العنف الرمزي التي تمارسها الثقافة الذكورية، وإعادة صياغة صورة المرأة من مجرد موضوع صامت إلى ذات ناطقة وفاعلة.

فإن تحولات الوعي النسوي اليوم تعكس صراعًا مستمرًا بين الموروث التقليدي الذي يعيد إنتاج التبعية، وبين واقع جديد يسعى نحو التحرر وإعادة تعريف الذات. فالوعي النسوي ليس حالة ثابتة، بل هو عملية مستمرة من النقد الذاتي والاجتماعي، والتفاعل مع البنى الثقافية والسياسية، بهدف إعادة توزيع القوة والمعرفة والسلطة لصالح المرأة كفاعل معرفي واجتماعي.

لقد شهدت المرأة العراقية في السنوات الأخيرة تحولًا نوعيًا في وعيها الاجتماعي ودورها العملي، إذ لم تعد تكتفي بالأدوار التقليدية التي حُصرت فيها لقرون، بل اتجهت نحو التعليم والعمل بوصفهما مسارين للتحرر الذاتي وتحقيق الكينونة الاجتماعية. لقد أصبحت العديد من النساء اليوم فاعلات في المجال الاقتصادي والاجتماعي، يسعين لتأسيس مشاريع خاصة بهن تعكس استقلاليتهن وإصرارهن على كسر البنى التقليدية التي طالما قيدت إمكاناتهن.

ومع ذلك، فإن هذا الوعي المتقدم لا يشمل جميع النساء؛ فثمة فئة ما زالت أسيرة الوعي الشكلي، الذي يُختزل في المظهر الخارجي والاهتمام بالمظاهر الاستهلاكية من لباس وزينة، وهو ما يعكس سطحية في إدراك الذات ومحدودية في الوعي النقدي بالواقع. فهنا يبدو الفعل الاجتماعي للمرأة محكومًا بمعايير رمزية تفرضها الثقافة الاستهلاكية لا بمعايير الوعي التحرري.

من جهة أخرى، تواجه المرأة العاملة تحديًا مزدوجًا بين إثبات الكفاءة المهنية وبين مواجهة البنى السلطوية التي تشكك في قدراتها. فحين تتولى منصبًا إداريًا أو موقعًا قياديًا، غالبًا ما يرافق ذلك خوف داخلي من خسارته أو من نظرة المجتمع المشككة. وهذا الخوف يعكس استمرار أثر الهيمنة الرمزية، والتي تجعل المرأة في موقع الدفاع المستمر عن شرعيتها داخل المجال المؤسسي.

إن التحرر الحقيقي للمرأة لا يتحقق فقط بالوصول إلى مواقع القوة، بل في إعادة بناء الوعي النسوي ذاته على أسس نقدية وتضامنية، تُعيد للمرأة ثقتها بذاتها وبقدرة جنسها على التغيير الجماعي. فالوعي المقاوم يبدأ من الداخل، من تفكيك الصور النمطية المزروعة في اللاوعي الجمعي، ومن تحويل التجربة الفردية إلى فعل اجتماعي مشترك يسهم في إنتاج ثقافة مساواة وعدالة حقيقية

وعلى الرغم من هذا التحول في الوعي النسوي، فإن المرأة لا تُعنى بتقويض هوية الرجل أو منازعته موقعه في الفضاء الاجتماعي، بل تسعى إلى ترسيخ وعي متوازن يحقق إنسانيتها دون أن يتنكر لجوهر أنوثتها. فالحفاظ على الذات لا يعني نفي الصفات الأنثوية أو التنصل من الخصوصية الانثوية، بل هو تأكيد على كينونة المرأة بوصفها ذاتًا فاعلة ومتحررة، قادرة على الجمع بين الوعي النقدي والسمات الإنسانية والوجدانية التي تشكل جوهر الأنوثة.

إن الوعي النسوي الواعي لا يقوم على الصراع بين الجنسين، بل على التكامل والتساند، إذ يبقى الرجل شريكًا في الفعل الاجتماعي وداعمًا لعملية تحرر المرأة من القيود الثقافية والاجتماعية. فالرجل الذي يمتلك وعيًا إنسانيًا نقديًا يسهم في إعادة بناء العلاقة بين الجنسين على أسس المشاركة والاحترام المتبادل، لا على مبدأ السيطرة أو الخضوع. بذلك يصبح الوعي المقاوم لدى المرأة مشروعًا اجتماعيًا مشتركًا، لا ينغلق على ذاته، بل ينفتح على الآخر بوصفه عنصر دعم لا تهديد.

وفي هذا السياق، ليس كل تحرر يُعد وعيًا، ولا كل تمردٍ يمثل إدراكًا ذاتيًا ناضجًا، فثمة نساء ينجرفن وراء تقليدٍ سطحيٍ لصورٍ نمطية تُروَّج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ظنًّا منهن أن ذلك تعبير عن الحرية أو الاستقلالية، بينما هو في الحقيقة شكل من أشكال العبثية الثقافية أو الاغتراب.

إن المرأة الواعية هي التي تصنع وعيها بعقلها وحكمتها، لا بانفعالها أو تقليدها للآخرين. فهي تدرك أن مشروعها الذاتي لا يقوم على الصدام، بل على التوازن بين الوعي الفردي والمسؤولية الاجتماعية، لتصبح نموذجًا في النضج والتبصر، لا في الانقياد وراء الشعارات والمظاهر

إنّ الوعي النسوي الحقيقي هو وعي مسؤول، يسعى إلى تحقيق العدالة ضمن إطار من العقلانية والتفاهم الأسري، لا إلى القطيعة أو الصدام. فالمرأة الواعية لا تستخدم مثلا الطلاق كأداة للانتقام أو لإثبات الذات، بل كخيار أخير حين تستنفد سبل الإصلاح، وبوعيٍ ناضجٍ يهدف إلى حماية كرامتها دون تدمير كيان الأسرة. وهنا يتبدّى الفرق الجوهري بين التحرر الواعي والتهديد الاجتماعي المقنّع بشعارات الحرية.  فالوعي التحويلي لا يُنتج الفوضى بل يُعيد ترتيب منظومة القيم لتكون الحرية وسيلة للبناء لا للهدم.

في هذا السياق، يبدو أن بعض النساء يتبنّين شعارات التحرر والمساواة بوصفها ردود فعل انفعالية على التسلط الذكوري، دون أن يدركن أن هذا التمرد غير المؤطر بالوعي النقدي قد يقود إلى نتائج معاكسة لمقاصده، مثل تفكك الروابط الأسرية وفقدان الاستقرار النفسي والاجتماعي.

وهنا تتحول الحرية إلى قناع للاغتراب، وتُختزل النسوية إلى ممارسات رمزية أو إعلامية لا تمتّ بصلة إلى الوعي النقدي التحويلي الذي يُعيد بناء العلاقة بين المرأة والرجل على أسس معرفية وإنسانية متوازنة

إنّ الوعي النسوي الناضج، بخلاف ذلك، يقاوم الوعي الزائف بالتحليل والنقد لا بالقطيعة والانفصال، فهو يسعى إلى إعادة ترتيب القيم الاجتماعية بحيث لا تكون الحرية أداة هدم بل وسيلة بناء. ومن هذا المنطلق، لا يُقاس تحرر المرأة بقدرتها على الانفصال، بل بقدرتها على الوعي بحدود حريتها ومسؤوليتها في آن واحد، وهذا هو الوعي الحقيقي.

وبذلك، يتجلى الوعي النسوي الناضج بوصفه مشروعًا إنسانيًا يسعى لإعادة التوازن إلى العلاقة بين الرجل والمرأة على أسس معرفية وأخلاقية واجتماعية متكاملة، قوامها الاحترام والمشاركة لا السيطرة أو التبعية. هذا الوعي لا يقف عند حدود المطالبة بالحقوق، بل يتجاوزها إلى بناء ثقافة جديدة للعدالة ، تُعيد تعريف الحرية في بعدها الإنساني والاجتماعي، وتجعل من المرأة ذاتًا فاعلة وشريكة في صناعة الوعي الجمعي وتوجيه التحولات الثقافية القادمة.

***

د. نور خالد علي - باحثة وأكاديمية

في المثقف اليوم