أقلام فكرية

محمد فرَّاح: هكذا تكلَّمَ ماركس وإنجلز

في تشكل الوعي، والأيديولوجيا، والدولة، والملكية الفردية.

تشكل قراءة ماركس اليوم، قراءة ضرورية مُلِحَّةً، لماذا؟ من أجل إعادة فهم نظريته للوعي ومدى علاقتها بالمجتمع، والطبقات الاجتماعية، وكيفية تشكيل الأيديولوجيا للوعي الزائف للأفراد داخل المجتمع، وفهم كل هذا داخل سياق القرن الثامن عشر 18م، الذي حاول ماركس قراءته وفق منهجه التحليلي-التاريخي-الاقتصادي-الاجتماعي، وأكثر من ذلك فهم كيفية انصهارنا داخل النظم الرأسمالية المتوحشة، كل هذا يعيدنا إلى نظرية الدولة والسلطة وفق كل من ماركس وإنجلز، والنقاش أو السجال الحادم الذي دخلا فيه مع هيجل، لننتهي في الأخير إلى تصورهما لحرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج التي تشكل روح النظام الرأسمالي الخبيث.

من هو كارل ماركس؟

كارل ماركس Karl Marx  (1883-1818) : فيلسوف ألماني، وعالم اقتصاد، أو منظر اقتصادي ألماني، بدأ مشواره الفلسفي أو كارل ماركس الشاب بانتقاد وقلب تصور هيجل المثالي، ويعد عمله: "المخطوطات 1844" بمثابة دليل على انتمائه إلى "اليسار الهيجلي"، خاصة أنه كان متأثراً ووفياً لأفكار وتصورات فويرباخ والذي يعد أحد أبرز رواد "الشباب اليساريين الهيجليين"، لكن كارل ماركس سرعان ما سينقلب ويقطع بالمرة مع "اليساريين الهيجليين الشباب"، بل وسيتخلى أو يقطع مع معظم أفكار فويرباخ، خاصة بعد لقائه مع صديقه الذي تحول إلى توأمه الروحي، فريدريك أنجلز، والذي يحتاج بدوره إلى تعريف خاص به، ووقفة عند مجمل أفكاره، لأنه لا يمكن فهم ماركس بدون إنجلز، كما لا يمكن فهم هذا الأخير، بدون أفكار كارل ماركس، إنهما توأمان فلسفيان وفكريان، أي فكرَّا هما معا، بنفس الكيفية، ووفق نفس المنهج والغاية، ولهذا سيؤلف معه عملاً أو أعمالاً مشتركة، لعل أبرزها: "الأيديولوجية الألمانية" 1846م، تمحورت فلسفة كارل ماركس في الحقيقة، حول الديالكتيك (الجدل) والذي استعاره من الفيلسوف الألماني "هيجل"، لكن "كارل ماركس" استعمله كمنهج أو كطريقة عمل من أجل فهم الواقع الحقيقي للأفراد داخل المجتمع، والوعي، والمعرفة، والتاريخ، والإقتصاد، والدين، ... إلى آخره، لكن ذلك بعدما قام بتأسيسه وتأصيله على تصور مادي-جدلي، وذلك من أجل اسقاطه على جميع الميادين، ذلك أن التاريخ البشري تَشْرِطُهُ عوامل مادية صِرفَةٌ ذي طابع إنتاجي، أي اقتصادي-مالي-سياسي-اجتماعي، فالإنسان في حقيقته الثابتة، بغض النظر عن كونه كائنا عاقلا، إلا أنه كائن منتج، أي ينتج عملاً-شغلاً، هذا العمل-الشغل هو الذي ينتج شروطه المادية لواقعه وحياته المعيشة، لكن يعيش هذا الإنسان في كومة من التناقضات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والدينية والتاريخية، ... إلى آخره، تجعل هذا الإنسان-العامل-المنتج يعيش حالة "استيلاب" و "اغتراب" في ما ينتجه ويعمله من عمل، كل هذه الأفكار الماركسية وأخرى، جعلت من ماركس أفيون المفكرين، وألهمت أفكاره الحركة الشيوعية والثورة الروسية الأولى سنة 1905م، بل حتى الثورة البلشفية لسنة 1917م، ونقول مع كثير من التحوط والتأفف، أن كارل ماركس أصبح ملهم الثورات وأبوها الروحي، فلا نجد ثورة إلا وتحمل في طياتها أبرز أفكاره، لن نطيل الكلام عن حياته، لأننا قد نكتب كتاب دون أن ننتهي منها البتة، أما عن أبرز مؤلفاته نجد: "مساهمة في نقد فلسفة القانون عند هيجل" (1844)، "الأيديولوجية الألمانية" (عمل مشترك مع فريدريك إنجلز 1846)، "رأس المال بجميع أجزائه" (1867-1894 الأجزاء الأخيرة كتبها وعدلها ونقحها ونشرها فريدريك إنجلز)، "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" (1859).

1- نظرية الوعي عند ماركس:

بادئ ذي بدء، يشهد كل مجتمع كيفما كان نوعه علاقات مادية وواقعية وظاهرة بين جميع الأفراد الذين ينتمون إليه، هذه العلاقات المادية بين الأفراد داخل المجتمع سرعان ما تتحول إلى شروط ومحددات وموجهات وقيود تُكَبِّلُ وتَأْسِرُ فِكْرَ الأفراد داخل المجتمع، وبالتالي تحدد وتشرط أيضاً تصورات وتوجهات وآراء وأفكار ونزوات ورغبات وغرائز ومعتقدات وسلوكات وممارسات وتصرفات وأفعال وتخيلات الناس.

ولهذا لا يمكننا إنكار البتة مدى قوة هذه العلاقات الثاوية بين الأفراد، والتي كما قلنا تَشْرِطُهم، بمعنى تَدِلَّةٌ على وجودهم الإجتماعي، ولهذا نلح ونؤكد كثيراً على حياة الناس الحقيقية والواقعية والفعلية والتطبيقية، لأنها سبب كل تلك الآراء السائدة داخل المجتمع، لهذا ننطلق من فرضية أن الوعي لوح مَسْقُولٌ وصفحة بيضاء بلغة جون لوك، وأن واقع حياة الناس المادية هي التي تخطط للوعي ما يجب أن يحيط به ويدركه ويستوعبه.

ولهذا فإن الوعي لا يعي بذاته، إنه يفتقد كل مظاهر الحرية والإستقلال الذاتي، إن الوَعْيَ لا يُفَكِّرُ، أي لا يعي ذاته بذاته، لكونه غير مستقل، بل أثناء سيرورة الإنتاج المادي، ومن خلال العلاقات المادية بين الأفراد داخل المجتمع، يكتسب الوَعْيُ عن طريق الخَارِجِ [المجتمع] وَعْيَهُ وتفْكِيرَهُ واستقلاله وحَقيقَتَهُ وهُوِيَّتَهُ الحقيقية.

"ليس وعي الناس هو الذي يحدد حياتهم الاجتماعية، بل إن الحياة الاجتماعية هي التي تحدد الوعي." [1]

وخلافاً للتصور المثالي الذي يدعي تحديد الوعي من خلال الكوجيطو الديكارتي، أو ما يعرف ب الأنا أفكر، ... إلى آخره، فالوعي الصريح والجلي هو وعي من خلال عملية الإنتاج المادي، أو حتى العلاقات المادية التي تنشأ بين أعضاء المجتمع شرط ضروري في تحديد الوعي، وبمقدورنا التفكير في استكشاف أعماق المحددات-الشروط الاجتماعية السحيقة للفكر.

لا يمكننا إنكار الصلة الوثيقة بين الوعي والوجود الحياتي-الاجتماعي للأفراد، ولهذا قلنا مع ماركس أن الوعي مجرد نتاج للشروط-المحددات الاجتماعية والتاريخية، ومن هنا يصبح للوعي الاجتماعي ذلك البعد الإيديولوجي، خاصة وأن الأيديولوجيا مفهوم أساسي في الفكر الماركسي، ذلك أنها بمثابة الكل المركب من المعارف والأفكار والنظريات والمقاربات والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والممارسات والمقترحات والرؤى التي تشكلها وتنشؤها الذات الإنسانية لكن من خلال وعي زائف ومقلوب ومغاير تجهل مكامنه ومضمراته ودوافعه وخباياه الفعلية وقواها المادية التي تحركها. لهذا تعني الأيديولوجيا عند ماركس، وبكل بساطة، الوعي الزائف، والمغلوط، والمقلوب، الوهمي الكاذب لكن عن غير قصد.

ولهذا توجد تمفصلات حقيقية بين مفاهيم الوعي والمجتمع والأيديولوجيا في المتن الماركسي، لهذا على القارئ الراغب في التعرف على هذا المتن، أن يحدد المفاهيم الماركسية أولاً ويدرك تمفصلاتها، كي لا يتوه داخل المتن.

ولهذا لم نعد نتحدث مع ماركس عن الوعي بوصفه مجموع المعتقدات والأحاسيس والدواخل المشتركة بين أعضاء نفس المجتمع ويشكل [أي الوعي] نسقاً محدداً له كيانه الخاص به، لا، مع ماركس، أصبح الوعي أسير وسجين الحياة الاجتماعية للأفراد داخل نفس المجتمع، بل وكما قلنا سابقاً الوعي لا يفكر، الحياة الاجتماعية هي التي تحدد للوعي في ماذا يفكر وكيف يفكر أو تعلمه الحياة الاجتماعية ألا يفكر البتة!

وأطروحة ماركس الأساسية هي أنه لا يمكن تحليل ومناقشة مسألة الوعي لدى الإنسان بغض النظر عن العلاقات المادية الجاثمة في وجودهم الإجتماعي وتجاربهم الاجتماعية.

2- الأيديولوجية وَعْيٌ زَائِفٌ:

تقوم الأيديولوجيا، إذن، بوصفها مظهراً من مظاهر الوعي الزائف، بوظيفة تشويه الحياة الواقعية للأفراد، وإدماج الأفراد داخل هذه الحياة الاجتماعية والعمل على تبديدهم وتذويبهم داخلها، لهذا يعترف ماركس أن الوعي مجرد تشويه لواقع الإنسان.

لهذا اعتبر ماركس أن الطبقة البورجوازية المسيطرة المالكة لوسائل الإنتاج هي التي تحمل شعار الأيديولوجيا، وغرضها منه حماية مصالحها الطبقية وممتلاكاتها. [2]

3- إيديولوجية القرن الثامن عشر 18م:

حاول كارل ماركس من خلال منهجه التحليل التاريخي-الاجتماعي-السياسي أن يكشف عن أيديولوجيا القرن الثامن عشر، والذي شهد عدة ثورات وتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وإيديولوجية وفنية وثقافية ودينية وفكرية وفلسفية (عرف القرن 18م بعصر الأنوار والثورات والنقد)، هذه الثورات والتحولات والأوضاع التي عرفتها أوروبا القرن 18م، أدت إلى بروز "الطبقة البورجوازية" المالكة لوسائل الإنتاج، والتي كانت طبقة تجارية واقتصادية ومالية آنذاك، وكل هذا أدى بحسب كارل ماركس، إلى بروز ما يسميها ب"الأشكال المختلفة للارتباط الاجتماعي"، ومن بين هذه الأشكال، "المال الذي أصبح هو الرابطة التي تربط الأفراد بالحياة الإنسانية؛ وتربطه بالمجتمع، بل أيضاً تربط الأفراد بالطبيعة وبالإنسان." ومن هنا استنتج كارل ماركس قائلاً: "ألا يمكن القول: إن المال هو القوة الكيميائية للمجتمع؟" [3]

يشكل المال، إذن، رابطة أساسية من روابط المجتمع، لدرجة قول ماركس: أن المال قوة كيميائية تخترق جسم المجتمع في كليته وتهشم منه!

وسيبدو المال، إذن، هو الوسيلة الضرورية لتحقيق غايات وأهداف وطموحات وأحلام وآمال الأفراد داخل المجتمع، لكن نسي هذا الفرد أن المال مجرد ضرورة أَمْلَهَا عنا الخارج، أي ضرورة خارجية لا ذاتية وداخلية، ضرورة أملها علينا الوجود الاجتماعي، وفرض علينا العمل بها، بل لدرجة تقديسها وعبادتها.

لهذا شكلت فترة القرن الثامن عشر 18م، فترة خطيرة جدا، فترة حرجة، شملت ثورات وتحولات جذرية وانقلابا للأوضاع داخل المجتمع، لهذا اعتبرها كارل ماركس بمثابة فترة التطور الكبير والعميق للعلاقات الاجتماعية داخل طبقات المجتمع، بل شكلت هذه الفترة بروز وتوسع الطبقات الاجتماعية.

ولهذا أصبحنا نتحدث مع ماركس، عن ضرورة الحياة الاجتماعية للأفراد، فمن خلالها، كما توصلنا سابقاً، يتحقق وعيهم، وتبرز هويتهم وحقيقتهم وماهيتهم الاجتماعية.

وخلال نفس الفترة، أي القرن الثامن عشر 18م، ذاب الأفراد داخل المجتمع، وعملوا جاهدا على التأقلم داخله، والذوبان الاجتماعي فيه.

4- انصهار الأفراد داخل المجتمع الرأسمالي المتوحش:

ونتج عن كل هذا، انصهار الأفراد داخل مستنقع المجتمع، ولم نعد نتحدث عن الفرد كذات واعية حرة ومسؤولة ومستقلة، بل أصبحنا نتحدث عن "كائنات اجتماعية" تقدس وتعبد المجتمع، ولا تستطيع التحرر الذهني منه.

"داخل المجتمع، أصبحت فكرة إمكانية وجود إنتاج ملموس وواقعي صادر عن فرد معزول، يعيش خارج المجتمع، فكرةٌ واهيةٌ." [4]

إن المجتمع عبارة عن بنى خاصة تشتغل بكيفية مختلفة عن عناصرها الأولية، وذلك من خلال صهر الأفراد داخله والقضاء على فرديتهم وحريتهم واستقلالهم الذاتي.

وكما لاحظنا فالفرد مفهوم تاريخي تشكل في القرن الثامن عشر 18م، وثم توهيم الأفراد بأن فردانيتهم لا تتحقق إلا داخل المجتمع، لهذا قُضِيَ على الفرد نتيجة تطور الجماعات، واعتبر مجرد فاعل متفرد لكن داخل المجتمع.

أدى كل هذا إلى انصهار الأفراد داخل البنيات الاجتماعية المشكلة له.

5- مفهوم الدولة لدى ماركس وإنجلز:

من هنا يمكننا الانطلاق بكل اطمئنان لمقاربة مفهوم الدولة لدى كارل ماركس، لكن هذه المرة من خلاله توأمه الروحي فريدريك إنجلز، والذي طور ووسع تصور كارل ماركس، واعتبر الدولة نتاجا اجتماعيا، وبالتالي نتاجا للثورات والتحولات والأوضاع الذي شهدتها أوروبا القرن الثامن عشر، في جميع المجالات والميادين، كما أن الدولة هي بمثابة حاضنة وحاملة وحافظة التخبطات والنواقض أو التناقضات التي تهشم جسد المجتمع، ولا تنفك حتى تقضي عليه، ذلك أن المجتمع كما أشرنا سلفا، منقسم إلى تعارضات وطبقات اجتماعية، أي هناك فئوية داخل نفس المجتمع، هناك انتماءات طبقية داخل نفس المجتمع، تعود إلى المستوى الاقتصادي والمالي للأفراد، لهذا بحسب ماركس دائما، المجتمع الرأسمالي المتوحش ينقسم إلى طبقتين متواجهتين-متناقضتين-متعارضتين، هناك الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، وهناك الطبقة البروليتاريا البائعة لقوى عملها.

لهذا لا يمكننا البتة المصالحة أو التوفيق بين هاتين الطبقتين، كما أن المجتمع لا يستطيع احتوائهما معا واستيعابهما معا، أي في وحدة كلية، بل لا بد من الصراع الطبقي الذي يفيد المواجهات الدائمة التي تحدث بين طبقة العمال والطبقة البورجوازية المحتكرة لوسائل الإنتاج، ولكي لا يتفاقم هذا الصراع بين هذين الطرفين المتناقضين، خاصة الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج والتي تخاف على نفسها وممتلكاتها، وتهاب تبدد المجتمع من خلال صراع عقيم بين الطرفين، فإنها تختلق سلطة عليها وعلى الطبقة البروليتاريا، هذه السلطة تدعي أنها مستقلة، أو فوق كلتا الطبقتين، بل وتقول أنها صنعت من أجل تقليل حدة الصراعات الطبقية، هذه السلطة هي الدولة، بالنسبة لماركس وصديقه إنجلز دائما.

إن نشأة الدولة، نشأة متولدة عن خوف الطبقة البورجوازية، من مصالحها الاقتصادية والمالية، وخوفها من التعارض القائم بينها وبين الطبقة البروليتاريا، إنها أي الدولة وليدة الصراع الطبقي.

لكن الدولة تخدم، حسب كل من ماركس وإنجلز، الطبقة البورجوازية، والتي كما نعلم جميعاً، طبقة قوية سائدة ومسيطرة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً ...إلى آخره، كما تفعل ما في جهدها من وسائل لاستغلال الطبقة البروليتاريا خاصة من الناحية القانونية والتشريعية.

"أصبحت الدولة ضرورية في مرحلة معينة من التطور الاقتصادي الذي كان مرتبطاً، ضرورة، بانقسام المجتمع إلى طبقات." [5].

بقي فريدريك إنجلز وفياً للتصور الذي دشنه بمعية كارل ماركس، وعمل على تطويره، من خلاله دعوته المستديمة إلى إعادة النظر في بنى المجتمع، وذلك بإعادة تنظيمه من جديد، أي إعادة موضعة تنظيم الإنتاج الاقتصادي على أساس المشاركة الحرة لجميع الأفراد داخل المجتمع، والتقسيم العادل والمتساوي للثروات بين المنتجين.

كل هذا يساهم بشكل إيجابي من أجل تقويض وتقييد وحدة ماكينة الدولة وسلطتها القاهرة على الأفراد، من هنا يدشن فريدريك إنجلز بمعية ماركس التيار الداعي إلى نهاية وموت الدولة والتخلص منها لأنها مجرد أداة ووسيلة تجسد الصراع الطبقي وتحاول تقويضه والتخلص منه، اللهم نستبقها نحن الأفراد ونطبق مكرها وخداعها من أجل التخلص منها.

لهذا كان طموح كل من ماركس وإنجلز هو اعتبار الدولة مجرد حكم يخدم مصلحة الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، كما أن غاية الدولة هو تبديد القائم والظفر بسلطة أبدية ومطلقة.

6- ماركس وإنجلز مناقشان لهيجل:

نعلم جميعاً أن ماركس وإنجلز ينتقدان من خلال المنهج التحليلي التاريخي-الاجتماعي-السياسي ويدحضان بشدة تصور هيجل ونظريته في الدولة والتي عرضها في كتابه "مبادئ فلسفة الحق" (1821)، وهو بحث فلسفي متكامل حول دولة عقلية، باعتبارها تجسد الفكرة الأخلاقية الموضوعية أو المبدأ الروحي الذي يتحقق في العالم الموضوعي والاجتماعي في صيغة: العائلة والمجتمع والدولة.

إن الدولة -حسب هيجل- هي المجال الذي تصبح فيه الحرية الفردية حرية عمومية وكونية، إنها غاية في ذاتها لأنها نظام وفكرة عقلية متجسدة في التاريخ.

لهذا صدرت طروحات ماركس وإنجلز عن خلفية ومرجعية مادية تاريخية، وتسعى إلى هدم طروحة هيجل المثالية التي ترى الدولة فكرة مثالية مجردة مجسدة للتاريخ.

وتكمن قيمة كل من ماركس وإنجلز في كونهما يتناولان فكرة الدولة بمنظار التحليل التاريخي المادي، لكن حدود فكرة كل من ماركس وإنجلز هو نسيانهما أن الدولة حالياً واقع قائم متأصل في الوجود الإنساني، وأنها زوالها مجرد وهم وتوهم وهذيان وبهتان، لكن لا أحد ينكر أن الدولة واقعة تاريخية بل وضرورة لا يمكن مجاوزتها أو حتى التفكير في ذلك حالياً.

ولا يمكن إنكار حدة التناقضات الاجتماعية المتواجدة داخل الدولة، وتعمل هذه الأخيرة ما أمكن على احتوائها واستيعابها.

7- ماركس ومسألة حرية الملكية الفردية:

ولكي لا ننسى مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لكارل ماركس، فهو من خلال منهجه التحليلي النقدي الاقتصادي-الاجتماعي-السياسي، عمل على استقراء التاريخ واستنطاقه ما يخفيه فيما يتعلق بمفهوم الحرية وكيفية تشكلها داخل المجتمعات الغربية، خاصة في العصور الحديثة والأنوارية، ونقصد هنا القرن 18م، والتي يرى ماركس أنها مجرد حرية وهمية، خاصة وأنها تدافع عن حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، والتي كما نعرف جميعاً أن الطبقة البورجوازية وحدها من تمتلك وسائل الإنتاج وبالتالي فهي من تفكر بمنطق حماية وضمان وسائل الإنتاج، وهي صاحبة فكرة "حرية الملكية الفردية" لأنها تخدم مصالحها وفصلت على مقاسها، لهذا يعترف ماركس أن ما نطلق عليه بالحريات الفردية والحقوق الفردية أو حتى حقوق الإنسان هي حقوق وهمية وضعت لتخدم مصلحة الطبقة البورجوازية وبالتالي فهي ليست حقوقاً كونية كما يدعون، إنها حقوق عينية تتعلق بأفراد وطبقة معينة.

لهذا يتساءل ماركس وبسخرية في أين تكمن حقوق الإنسان في حرية الملكية الفردية؟ خاصة المادة 16 من دستور 1839م الألماني، والذي ينص على الحق في حرية الملكية الفردية، يعلق ماركس ساخراً من هذه المادة القانونية البورجوازية:

"إن حق الإنسان في الملكية الفردية [لوسائل الإنتاج] معناه إذن الحق في التمتع والتملك للثروة بواسطة الإرادة الحرة، بدون العودة إلى الناس الآخرين وباستقلال عن المجتمع: إنه الحق في الأنانية. فهذه الحرية الفردية وكذا تطبيقها هي أساس المجتمع البورجوازي ..." [6]

إن كل حديث عن الحق في حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج هو حديث وتشريع للحق في أن يكون المرء أنانيا، ويفكر في مصالحه الشخصية والذاتية والفردية بغض النظر عن الأفراد الآخرين-الأغيار، بل وباستقلال عن المجتمع الذي ينتمي إليه، إنه حق أناني في التمتع بالأموال وتملك الثروات وتكديسها تحت غطاء الإرادة الحرة، هذه ليست إرادة حرة بل استغلالا حرا للآخرين، ولهذا يصبح الحق الإنساني حقا يضمن حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ومن خلال هذا الحق نكون قد أقمنا تمييزاً شارخاً بين البورجوازي المالك لوسائل الإنتاج والبروليتاري المالك لقوى العمل، وهذا تدليل على أنانية الطبقة البورجوازية وتفكيرها في نفسها وفقط وضمان حقوقها الشخصية من خلال سن مجموعة من النصوص القانونية والتشريعية والإعلانات والمعاهدات والبروتوكولات، وتريد تطبيقها على كل كائن بشري يهدد مصالحها الخاصة ولذاتها المتميزة عن الجماعة.

وسيغالي كل من ماركس وإنجلز في مسألة الحق في الملكية أو الحرية الفردية لوسائل الإنتاج وردها إلى التشريع الأخلاقي الكانطي أو القانون الأخلاقي الكانطي الذي يقول : "يجب عليك ألا تكذب" و "يجب عليك ألا تسرق"، وما هذا النظام الأخلاقي الدوغمائي إلا انعكاس لهذه الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ويريد هذا القانون الأخلاقي أن يكون بمثابة قانون خالد ونهائي وثابت ومطلق وكوني، يدعي أنه يُجَاوِزُ التاريخ ويشرع للمستقبل، ويعلوا على مختلف الأفراد، في حين أنه يخدم مصالح فئوية.

"فبما أن المجتمع تطور عبر [مر] الزمن من خلال تناقضات طبقية لحد الآن، فقد كانت الأخلاق على الدوام أخلاقاً طبقية، أو أنها عملت على تبرير الهيمنة ومصالح الطبقة المُسَيْطِرَةِ، أو أنها كانت تمثل مصالح الطبقة المُضْطَهَدَةُ الصَّاعِدَةُ وثورتها ضد تلك الهيمنة. وهكذا يظهر أن الأخلاق بدورها تخضع بدون شك لفكرة التقدُّم، مثلها في ذلك مثل سائر المعارف البشرية." [7].

ومن هنا نستنتج مع إنجلز أن حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج أنتجت لنا مجتمعاً طبقياً متناقضاً ومتصارعاً إلى الآن، والذي أدى بالضرورة إلى أخلاق طبقية متناقضةً ومتصارعةً ومتغيرة إلى الآن بتغير المصالح الفردية، ولا حل لهذا سوى ثورة الطبقة المُضْطَهَدَةُ على الطبقة المُضْطَهِدَةِ، لأن الأخلاق كالتاريخ تصدق عليها فكرة التاريخ كما تصدق على سائر المعارف والعلوم والفنون البشرية، ويمكن أن تتغير بتغير البنى الاجتماعية.

إن العلاقة بين الحرية والضرورة علاقة جدلية بإمتياز في الفكر الماركسي، إذ لا يمكن الحديث عن الحرية إلا حينما ينتهي العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية، كما يفرضه الإنتاج المادي ذاته، وهنا يبدأ الصراع بين الحرية ومضاداتها ليس فقط على مستوى السلوكات والتصرفات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع، بل أيضاً على مستوى الأفكار والعواطف، إن الحرية تناقض العمل ولا يمكن الجمع بين نقيضين من المفروض -بلغة أهل المنطق- ألا يجتمعا معاً وألا يرتفعا معاً.

ولكي لا ننسى أن مملكة الحرية لا توجد باستقلال تام عن قوانين الطبيعة.

لهذا دعى ديكارت إلى معرفة قوانين الطبيعة قصد التحكم فيها وتسخيرها من أجل غاية حفظ الصحة.

كما أن حرية الإرادة الإنسانية تدل على أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي هبته الطبيعة ملكة اتخاذ القرار، لهذا يجب استخدام هذه الملكة على أحسن وجه من أجل معرفة علل جميع الأشياء بغرض التحكم فيها وتسخيرها من أجل غايات محددة.

لكن هذا لا ينسينا الارتياب والشك الذي يحيط ملكة اتخاذ القرار حينما يكون المرء جاهلاً، مما يؤدي به إلى الخضوع لأي موضوع يأتي في طريقه، أو يختار بشكل اعتباطي بين العديد من الامكانات المتعارضة والمتناقضة مما يوقعه ضحية الاعتقاد بأنه يسلك طريقاً صائباً.

وخاتمتنا لماركس وصديقه إنجلز، أنهما أيقظانا اليوم من سباتنا الدوغمائي، خاصة عندما عرفانا على أن الأيديولوجيا ما هي سوى شكل من أشكال الوعي الزائف، تعمل من خلالها الطبقة المسيطرة على إدماجنا داخل المجتمع، وأن الفرد مفهوم تاريخي، وفردانيته لا تتحقق إلا داخل المجتمع، وأن الحرية الفردية لوسائل الإنتاج أكبر وهم يعيشه الأفراد لأنها تخلق لهم نظاما أخلاقيا على مقاس نظامنا الطبقي، مما يعني أن الأخلاق والقيم أصبحا نسبيين، أي يتغيران بتغير المصالح الاجتماعية، وكل هذا يحتاج إعادة نظر عميقة من البداية!

***

محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / الرباط

.........................

Bibliographie:

[1] - Karl Marx, L'idéologie allemande, édition. Sociales, Paris, 1982, p. 7.

[2]- ينصح بالعودة إلى كتاب "مفهوم الأدلوجة" للمفكر المغربي عبد الله العروي، الصادر عن دار: المركز الثقافي العربي، المغرب 1980، ص: 40 وما بعدها، نظراً لأهمية هذا المرجع في التأريخ لمفهوم الأيديولوجيا، واعتبر في كتابه هذا أن كارل ماركس، وفريدريك نيتشه، وفرويد فلاسفة ومؤسسي مذهب الأيديولوجيا بإمتياز.

[3] - Voir : Karl Marx, Manuscrits de 1844, Presses Universitaires de France, 1972, p.

[4] - Karl Marx, Introduction générale à la critique de l'économie politique, 1857, Première partie, Gallimard 1965, p. 236

[5]  - Friedrich Engels, L'origine de la famille, traduction française. J. Stern, édition. Sociales, Paris, 1983, p. 286.

[6]  - Karl Marx, La question juive, Traduction française. M. Simon, Édition. Bilingue Aubier, p. 107-108.

[7]  - Friedrich Engels, Anti-Dühring, édition. Sociales, 1973, p. 124.

 

في المثقف اليوم