أقلام فكرية

محمد سيف: فخّ (التفكير الثنائي)!

الفكرة - أيًا كانت - هي ثمرةٌ لنمط التفكير الذي أُعدّت الفكرة في مختبره، والنتائج مرهونة بمقدّماتها؛ وعليه فجانب كبير من الزَّلَل الذي تقع فيه الأفكار يتحمّل مسؤوليته نمطُ التفكير الذي دفعها لتلك الخاتمة عبر قناته الحتمية؛ ولذا فتعديل نمط التفكير حتما سيدفع الفكرة صوب مَنْحى آخر، وفي هذه الحالة فإنّ التغيير في نمط التفكير أوْلى بكثير من محاولة إجراء مراجعة نقدية على الأفكار نفسها، إذْ إنّ تعديلَ نمطِ تفكيرٍ ما يتبعه بالضرورة تعديل جملة كبيرة من الآراء المتبنّاة القابعة تحت مظلّته الواسعة.

في محاولته لاستيعاب ضخامة العالم يَعْمَد الإنسان إلى تجزئته؛ لِمَا يوفّره من إطار مريح وسريع لتصوّر المفاهيم وهضم الكمّ الهائل من المعطيات الواردة إليه، ويتصدّر في هذا النطاق نمط التفكير بمنظور الثنائية (Binary Thinking) واحدا من أكثر أنماط التفكير شعبية لدى البشرية، وهو يعني بإيجاز أنّه عند محاولة السعي لتصوّر مسألة محددة، ثَمّة مَيْلٌ للتفكير فيها بعقلية ثنائية صِرْفة: خطأ أم صواب، أقصى اليمين أم أقصى اليسار، خير أم شر، حقيقة أم زَيْف، هذا أم ذاك.

وهذا تسطيحٌ مستهتر لكيفية التعاطي مع الطبيعة المعقّدة لما حولنا سواء من المفاهيم المجرّدة أو المكوّنات الماديّة، فتنحصر رؤيتنا بناء على هذه السطحيّة الفَجّة للمفردات المحيطة بنا في ثنائية تُقصي ما بينها وخارجها من الاحتمالات اللامتناهية، فنكون رهائن في قبضة منهجية تفكير ثنائية الأبعاد، وتجد الأحكام المترتبة على ذلك طريقها إلى تقسيم الناس إلى أحزاب ثنائية استنادا لمنطق النظر هذا، وتختنق المفاهيم تحت نِيْر هذه الثنائية التطرّفية في انتكاسة فكرية مريرة.

لقد تطرّقت في كتابي: (مَن اختطف عقلك؟!) (٢٠١٩م) إلى خطورة التفكير الثنائي، حيث "إنّ منطق (إمّا أو) الكلاسيكي وتقليب الأفكار لدينا على أساس أبيض وأسود، فبالإضافة إلى أنّه أثبت فشله ورجع بخُفّيّ حُنَين الكَرّة تِلْوَ الأخرى، فقد فوّت علينا العديد من الخيارات الفارقة … علينا أنْ ندرك مدى تحجيمنا أنفسنا وإعاقتنا إياها باتّباعنا هذا النهج من التفكير، فالعقلية التي نفكر بها حاليا تصوغ العالم". ص٤٦و٤٧ بتصرّف.

التفكير من منظور كنط هو "الفعل الذي يقوم على إقامة صلة بين حَدْس مُعطى وموضوع" (نقد العقل المحض، ص٢٠٨) وهذه الصلة كما عبّر عنها كنط هي التي تحدّد النتيجة التي تُفْضي إليها العملية التفكيرية، وكلما تخلّصت هذه الصلة من براثن التفكير الثنائي، انغمس العقل البشري أكثر في نسيج متنوّع في غاية الروعة من زوايا النظر المتباينة، فيكون التفكير خارج حدود المألوف قفزة صحية نوعية لحياة فكرية جديدة.

من شأن تطوير القدرة على رؤية التعقيدات من خلال وضع الرؤية النقدية على محمل الجد، أنْ يساهم في الانفتاح على رؤية أكثر تنوّعا، في حالة أشبه بالنظر في (Kaleidoscope) الذي في كل حركة طفيفة في حلقته الدائرية تنشئ مراياهُ العاكسة طبقة مختلفة من الألوان المتداخلة، هذه الحركة الدائرية تمثّل نمط التفكير الذي نسعى للوصول إليه لإنتاج طبقات ألوان مختلفة من الأفكار، وبدون هذا التعديل تبقى طبقات الألوان الراهنة هي هي.

إنّ رَجْع خطوة للوراء يُكسِبنا شمولية نظرة الطائر (Bird’s Eye View) الذي يرى من عَلٍ الشيءَ في سياقه، والجزء في كُلّه، والعنصر في تَمَوْضعه الصحيح؛ ونتيجة لذلك فإنّ نمط التفكير الثنائي في هذا الإجراء سرعان ما يَبْهُت وهَجُه، حيث تتعرّى ضآلته أمام تعقيدات ما حوله، فلا يصبح المهيمن الجاثم على المنطقة بل تتنازعُه أطيافٌ شتّى من الوجوه المحتملة، تماما كالكرة الأرضية التي هي بمقاييسنا البشرية مساحة هائلة للغاية، وقد يعيش الواحد منا عقودا من الزمن وهو محبوس في مربع جغرافي ضيّق منها لا يغادره، ولكن في مقاييس كل الجزء المرئي من الكون الذي يمثّل (٥٪) من الكون! فإنّها لا تُعدو أنْ تكون مجرد حبة رمل وسط كثبان رملية على مدّ البصر! ناهيك عن نسبة الأرض الصفرية حرفيا! بإضافة مكوّنات الكون غير المنظور الـ(٩٥٪) من المادة المظلمة والطاقة المظلمة!!

واحدةٌ من مثالب أحادية التفكير لدى المتلبِّس به هو توهّم اليقين بأنه على كفة الميزان الراجحة، ومخالِفُه يعتقد النقيض في كفة الميزان الأخرى، وكلاهما يعسُر عليه إدراك احتمال وجود كِفَفٍ أخرى للميزان، فيتوهّمان حتمية رأييهما بمجرّد تفنيد الرأي المقابل، انطلاقا من حصر النظر في زوايتين ليس إلّا، إلا أنّه ليس بالضرورة أنْ يُصار للرأي الثاني بمجرّد نقض الرأي الأوّل، فقد يقبع الصواب - وكثيرا ما يكون - خارج نطاق تجاذبهما الثنائيّ، ولعل كنط مِن أحسن ممن أشار إلى ذلك بعبارة رشيقة، حيث يقول في كتابه (نقد العقل المحض): "فحُكمان متضادّان جدليًا قد يكونان إذن خاطئين كليهما؛ لأنّ الواحد لا يقتصر على نقض الآخر، بل يقول شيئا أكثر مما هو لازم للنقض" (ص٣٢٤) ويرتّب كنط على ذلك بعض اللوازم في القضايا التي تتمحور حول ثنائية الإنكار والإثبات، من بينها: "يجب ألّا يُتّهم أحد بأنّه يريد أنْ يُنكر شيئا بسبب أنّه لا يجرؤ على إثباته". (ص٣٨٨)

فالإنكار شيء، وعدم القدرة على الإثبات شيء آخر، على أنّه ليس بالضرورة أن يكون النظر لموضوع ما إنكارا وإثباتا فحسب، فواردٌ أن يكون ثمّة نظرة تتعاطى بطريقة مختلفة تماما ومن منطلقات ذات اعتبارات مغايرة، ومن ثَمّ فإنّ قَبول التعددية خطوة عملاقة للتملّص من أغلال التفكير الثنائي، ويمكننا الادّعاء بأنّ أحادية التفكير هي أحد مُخرَجات التفكير الثنائي.

في المرة القادمة بدلا من تقليب الأمور بين الأبيض والأسود حاول اكتشاف المنطقة الرمادية، ومن الجيد وقتئذ أنْ تختبر مستوى تغوّل نمط التفكير الثنائي في دهاليز عملياتك الذهنية، وذلك عبر محاكمة إحدى مُسلّماتك، لتطرح على نفسك السؤال المشاغب الآتي بشأنها، إذا كان ثمة احتمال آخر غير ثنائية ما أعتقده ونقيضه، فماذا سيكون؟! لرُبّما لو تأمّلت بعناية لتوصّلت لإجابة صاعقة! ولو رأتْ (ربما) هذه النور، فإنك في طريقك للولوج إلى إدراكٍ يكشف لك نسخة مختلفة تماما منك ومن الحياة، وكأنّك انتقلت لتوّك إلى زمن غير زمانك المتكدّس بالنسخ المتكررة، ومَن ذاق عَرِف، ومن عرف أَدمَن!

الإجابات النهائية أسطورة بالية عفا عليها الزمن، وأسطوانة مشروخة أكل الدهر عليها وشرب! وأسوأ النهائيات هي الثنائيات! وكلّما استنارت بصيرة المرء كان أَميل للنظرة التعدديّة الرَّحبة منه للنظرة الثنائية المنغلقة، وصار أبعد عما سمّاه نيتشه (النمط القطيعي) في الغرق في التفكير الثنائي حين قال في (ما وراء الخير والشر): "وعلى المرء أنْ يستنهض طاقات مضادة هائلة كي يستطيع التصدي لهذا المضيّ الطبيعي المفرط في طبيعيّته باتجاه المشابهة وهذا المسار الذي يمضي بالإنسان نحو التماثل والنمط العادي الوسطي القطيعي نحو الرداءة!" (ص٢٤٩).

***

بقلم محمـــد سيــــف

في المثقف اليوم