آراء
التجاني بولعوالي: الحضور الرمزي لفلسطين في أوروبا

تضامن يتخطى حدود الجغرافيا والمعتقد
اليوم، السبت 9 غشت 2025، وجدت نفسي وسط سوق واسع للسلع المستعملة في مدينة خينت البلجيكية، سوق يمتد بين أكثر من عشرة أزقة وشوارع. لم تكن غايتي سوى التجوال، لكن المشهد الذي استوقفني كان أكبر من مجرد متعة النظر في البضائع القديمة. فقد حضرت فلسطين هناك، من خلال الأعلام والكوفية وغيرها من الشعارات التي ترمز إليها. هناك من يضعها على رأسه أو رقبته، وهناك من يلفها على كتفه، وهناك من يضعها على طاولات السلع المعروضة. وقد كان هذا السوق الموسمي واسعًا وممتد الأطراف، فكانت فرصة سانحة لأن أعاين هذا الحضور الرمزي للقضية الفلسطينية عن قرب، وباهتمام بالغ لا يخلو من التفكير في هذه الظاهرة اللافتة، التي ما انفكت تحضر في الآونة الأخيرة في أغلب المدن البلجيكية والأوروبية.
وقد خرجت من هذه التجربة بثلاث ملاحظات جوهرية، تتعلق بالصورة الإيجابية التي آلت إليها القضية الفلسطينية بعد العدوان الصهيوني الأخير، في المخيال الشعبي الغربي بوجه عام.
الملاحظة الأولى هي أن جل، إن لم أقل كل، الذين يلتحفون بالكوفية الفلسطينية ويضعون شعاراتها على طاولات المعروضات وفي أكشاكهم، هم من البلجيكيين/ الفلامنكيين الأصليين، أي غير مسلمين. وهذا ما يظهر من ملامحهم الخارجية ولباسهم الأوروبي، وعيونهم الزرقاء، وشعورهم الشقراء. بل إن بعضهم يتناول كأس بيرة وهو يضع على كتفه أو عنقه الكوفية الفلسطينية. وقد شدني هذا المشهد كثيرًا، وجعلني أستحضر – ربما كأي مسلم آخر – سؤال الحلال والحرام في هذه المسألة، وموقف الفقه الإسلامي من هذا الفعل العجيب الصادر من إنسان غير مسلم؛ يضع الكوفية الفلسطينية على كتفه نصرةً للقضية الفلسطينية، وفي يده كأس خمر! بينما أبناء جلدتنا من المسلمين؛ منهم من هو غارق في البحث عما يحتاجه من سلع وأوانٍ، ومنهم من يساوم حول الأسعار حتى يفوز بصفقة مربحة، وقليل منهم من يهمه حال أشقائه، سواء في فلسطين أو في غيرها من البلدان المنكوبة.
الأمر الثاني هو أن معظم من يساند القضية الفلسطينية في هذا السوق، هنّ من النساء الفلامنكيات والبلجيكيات دون الرجال. وهذه مسألة تحتاج إلى تأمل عميق، وربما إلى دراسة سوسيولوجية. ويبدو للرائي أنهن يتبنين الهم الفلسطيني دون خوف من الأجهزة الأمنية والاستخبارية، ودون اكتراث باللوبي الصهيوني المتغلغل في المجتمع البلجيكي والأوروبي. ويمارسن هذا الحق النضالي عن طيب خاطر واقتناع تام وهمة عالية، حيث يلتحفن بالكوفية بفخر واعتزاز، رغم أنهن غير مسلمات، ولا عربيات، ولا يجمعهن بفلسطين؛ لا الأرض، ولا التاريخ، ولا الثقافة، ولا المعتقد.
أما الملاحظة الثالثة، فيمكن اعتبارها نوعًا من إعادة اكتشاف للحضور الرمزي للقضية الفلسطينية، ليس في هذا السوق فقط، وإنما في مختلف الشوارع والأزقة التي وطأتها قدماي وأنا أتجول اليوم في ذلك الفضاء الشعبي المفتوح، حيث تتعانق الثقافات، وتتقاطع التطلعات، وتتقارب القلوب. وقد سبق لي في مناسبات أخرى أن لاحظت مدى الحضور الرمزي لما هو فلسطيني في مختلف الأماكن والأحياء في المدن البلجيكية والهولندية والفرنسية التي زرتها في السنوات الأخيرة. ويتنوع هذا الحضور بين تعليق راية فلسطين في النوافذ والشرفات، وارتداء الكوفية الفلسطينية، ورسم الجداريات التي تحمل خارطة فلسطين وقبة الصخرة وحنظلة وغيرها.
كنت أظن أن هذا العمل كله من صنع العرب والمسلمين المقيمين في هذه المدن والأحياء، لكنني أدركت اليوم أن جزءًا كبيرًا منه هو من فعل السكان البلجيكيين الأصليين. إنها لغة تضامن صامتة، لكنها عميقة، تعبّر عن وقوفهم مع شعب لا يعرفونه شخصيًا، ولكنهم يرونه مظلومًا، ويستحق أن يعيش في كرامة.
في الختام، إن التجربة التي عشتها اليوم تذكرني بأن القضية الفلسطينية باتت تحظى بمكانة متزايدة في الوجدان الشعبي الأوروبي، حتى بين من لا تربطهم بها صلة مباشرة. فالرموز، مهما بدت صغيرة وبسيطة، قادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية لتصبح لغة تضامن عالمية. وربما في زمن يتسابق فيه الإعلام والسياسة على تشويه الحقائق، تظل هذه الإشارات الرمزية في الفضاء العام بمثابة شهادة صامتة على عدالة القضية الفلسطينية وامتدادها الإنساني.
***
بقلم: التجاني بولعوالي